الخميس 19 أيلول 2024

تسلق الجبال كيف أقنع ضابط بريطاني حكومة نيبال بمنع المتسلقين من الصعود إلى "قمة الجبل المقدسة"؟

النهارالاخباريه- وكالات 
ما زلت أذكر الدهشة التي شعرت بها حين تراءت لي لبرهة قصيرة عبر نافذة حافلة كنت أستقلها ذات صيف، كتلة صخرية مثلثية عملاقة مغطاة بالثلوج، تبدو وكأنها مرسومة بخطوط شاحبة وضائعة وسط دوامة من السحب، وترتفع شاهقة فوق وادي بخارى الشهير في نيبال والمدينة التي تحمل اسمه.
كان مشهد القمة المهيبة التي تهيمن على أفق مدينة مزدحمة لا يشبه أي إطلالة سبق أن حظيت بها على أحد جبال الهيمالايا طوال نحو عقد من الزمن من استكشافاتي لهذه الجبال، سواء في الهند أو في نيبال. وشعرت ببهجة خاصة لأنني هذه المرة لم أضطر إلى القيام برحلة تستغرق بضعة أيام من المشي والتسلق، لأحظى بمثل هذا الجمال الساحر المراوغ، فكل ما فعلته كان الجلوس في حافلة.
ولم يكن الجبل الذي استحوذ على مخيلتي هو إيفرست، ولا أي من القمم السبع الأخرى في البلاد والتي يزيد ارتفاعها عن 8000 متر، وإنما قمة منخفضة نسبيا، لكن جمالها المبهر يفوق لا ريب ارتفاعها العادي. ولكن تبين لي أنني لم أكن الوحيدة التي تؤخذ بهذا الجمال، فقبلي بعدة عقود، وقع شخص آخر في حب هذا الجبل، وترك وراءه حكاية غريبة إلى حد كبير.
وجبل ماتشهابوتشير، الذي يعني اسمه "ذيل السمكة"، هو جبل خلاب يبلغ ارتفاعه 6,993 مترا ويقع في سلسلة جبال أنابورنا في وسط نيبال، وهي تضم ثلاث قمم من بين أعلى 10 قمم في العالم. ومع ذلك، فإن ماتشهابوتشير، الذي يقف منعزلاً في موقعه البعيد عن القمم الأعلى في السلسلة، يستحوذ على الاعجاب من دون عناء، ويبدو عاليا برغم تواضع ارتفاعه.
وبفضل موقعها الجغرافي، يمكن مشاهدة كافة سفوح قمة ماتشهابوتشير بسهولة، ومن عدة أماكن، كما أن البروز المذهل لتضاريسها الحادة لا يمكن للعين أن تغفل عنه، فهو يستأثر بالنظر من أي زاوية أو مسافة. وترتفع قمة الجبل بمثلثيها المزدوجين كبرجين توأمين، وحافتها الوعرة لا تقل جمالا عن المثلث المتناظر الذي يهيمن على مشهد جانبي آخر لها.
وبعد تلك اللمحة الأولى الفاتنة، عدت إلى نيبال عدة مرات وكنت دائما أحرص على تخصيص بعض الوقت للاستمتاع بمشهد جبلي المفضل. وأمضيت عدة أيام في بخارى لكي أتملّى المشهد الفاتن لانعكاسات ماتشهابوتشير على سطح بحيرة فيوا، بينما أمضيت أياما أخرى أراقب شمس الصباح الباكر أو شمس الغروب تلقي أضواءها الساحرة على القمة المدببة الشاهقة المرتفعة فوق المنحدرات حول بحيرة بيغناس. وفي أيام أخرى، كنت أستمتع برؤية مشهد الجبل من قمم جبال أخرى مثل سارانغكوت أو أستام حول وادي بخارى.
وذات شتاء، تسلقت أخيرا إلى مقر المعسكر الخاص بقمة أصغر اسمها ماردي هيمال تقع على بعد 1000 متر إلى الأسفل من قمة ماتشهابوتشير، وهي أقرب نقطة يمكن الوصول إليها. تأسس هذا المعسكر الواقع على ارتفاع 4500 متر، عام 2012، ويستغرق الوصول إليه خمسة أيام لقطع مسافة لا تتجاوز 40 كلم.
ذلك لأن تسلق قمة ماتشهابوتشير محظور، وهو أمر غريب في دولة مثل نيبال التي تستقبل سياحة تسلق الجبال بحماس شديد لدرجة أن أعلى نقطة في العالم، وهي قمة جبل إيفرست، التي يبلغ ارتفاعها 8,848 مترا، أصبحت مكتظة بالمغامرين. لكن السبب الذي جعل قمة ماتشهابوتشير لا تزال عذراء، وفي نفس الوقت أدى إلى الازدهار الذي شهدته تجارة رحلات المشي وتسلق الجبال في نيبال اليوم، يمكن أن يعزى إلى رجل واحد: المقدم في الجيش البريطاني جيمس أوين ميريون روبرتس، الذي ولد عام 1916 وتوفي عام 1997.
كان جيمي روبرتس، وهو الاسم الذي عرف به المقدم، ضابطا شهيراً في الجيش البريطاني، وقدم مساهمات كبيرة لنيبال ولرياضة تسلق الجبال في جبال الهيمالايا. وفي عام 1958 كان روبرتس أول ملحق عسكري بريطاني يعين في نيبال. وقد استخدم منصبه، وشغفه ومعرفته بجبال الهيمالايا لفتح الجبال الشاهقة في البلاد أمام التسلق السياحي والرحلات المنظمة، وهي صناعة ذات مساهمة كبيرة وفعالة في اقتصاد نيبال ككل وفي تأمين سبل العيش لأهالي المناطق الجبلية.
لم يكن روبرتس أحد رواد العصر الذهبي لاستكشاف جبال الهيمالايا فحسب، بل أتاح لبقية العالم إمكانية التمتع بجمالها عندما أسس عام 1964 أول وكالة للرحلات في البلاد وكان اسمها "ماونتين ترافيل". ولا يزال روبرتس يُذكر باعتزاز بوصفه "الأب المؤسس" لرحلات تسلق الجبال والمشي في نيبال.
بدأ افتتان روبرتس ببلدة بخارى وواديها وجبل ماتشهابوتشير بعد قراءته رسالة من نيبال كتبها ضابط في الجيش البريطاني عام 1936، وتحدث فيها عن الجبل وعن بلدة مدهشة على ضفاف البحيرة. وفي مقدمته لكتاب بعنوان "تسلق ذيل السمكة" للكاتب ويلفريد نويس، كتب روبرتس: "سرعان ما ولدت لدي رغبة شديدة لمشاهدة بخارى وماتشهابوتشير، والقرى التي يعيش فيها رجالي، وخاصة قبيلة غورونغ (إحدى قبائل الغوركا الرئيسية في جبال الهيمالايا)، لكن في تلك الأيام، كان الجزء الداخلي من نيبال أرضا محرمة، ومغلقة أكثر حتى من مكة أو لاسا في أوجهما".
وفي عام 1950، أتيحت لروبرتس أخيرا مشاهدة جبله المفضل عن قرب. وكتب عن لقائه المؤثر بالجبل الخلاب: "كنت أول رجل إنجليزي يدخل ما هو بمثابة مكة الخاصة بي (بخارى). كانت قمة ماتشهابوتشير تلمع تحت ضوء القمر، هرم أبيض عظيم منعزل بشكل لا يصدق".
ويضيف "لذا أصبح ماتشهابوتشير مثلي الأعلى بالنسبة للجبال، وملكا خاصا بي خارج هذا العالم، بعيد المنال، لكنه لي بموجب حق خارج عن المنطق، ورمزاً لبلد وشعب سيغيران ما تبقى من حياتي".
وفي عام 1957، بعد أكثر من 20 عاما من الشغف بجبل ماتشهابوتشير، نظم روبرتس أول رحلة استكشافية إلى قمة الجبل (بقيادة نويس، وانضم إليه عدة متسلقين آخرين)، والتي لم تكن قد تُسلقت رسميا قبل ذلك. واللافت في رواية نويس عن مغامرة التسلق تلك، هو السهولة التي تخلى بها روبرتس عن حلمه في الوصول إلى القمة، فعندما أرغمت مشاكل لوجستية فريق التسلق على الانقسام إلى قسمين، تطوع روبرتس بقيادة الفريق الذي كان عليه الهبوط، بينما تابع نويس ومتسلق آخر المرحلة الأخيرة من الصعود، لكن انتهى بهما الأمر أيضا إلى التخلي عن الوصول إلى القمة، وهما على بعد 45 مترا فقط عن هدفهما، بسبب سوء الأحوال الجوية.
بعد تلك الرحلة الاستكشافية، قدم روبرتس طلبا غريبا إلى الحكومة النيبالية: حظر الصعود إلى القمة، وأن تكون ماتشهابوتشير القمة العصية على التسلق إلى الأبد في جبال الهيمالايا. والمثير للدهشة أنهم وافقوا على ذلك، والتزموا به.
أخبرتني ليزا شويغال، الكاتبة والخبيرة المخضرمة في صناعة السياحة في نيبال، والتي كانت تعرف روبرتس شخصيا منذ عام 1974، قائلة: "لم يكن جيمي متسلقاً مغروراً. ورغم أن الحالة هنا قد توحي بأن الأمر عبارة عن غطرسة، وأنه إن لم يستطع تسلقها، فهو لا يريد لأي شخص آخر تسلقها. هذا فعلا لا يمثل الشخصية اللطيفة التي كان عليها في الحقيقة".
كان روبرتس يشعر برابط قوي بقبيلة غورنغ، التي تعتبر ماتشهابوتشير قمة مقدسة، ولم يكن سكان تشومرونغ، أقرب قرية لقبيلة غورنغ من ماتشهابوتشير، سعداء بمحاولات المتسلقين الأجانب للوصول إلى القمة. ومع ذلك، فهناك العديد من الجبال المقدسة بالنسبة لعدة مجتمعات في نيبال، وهذا لم يمنع الحكومة من إصدار التصاريح بتسلقها، كما لم يمنع هذا روبرتس نفسه من تسلق الجبال الأخرى. ولكن ربما كان حبه لقبيلة غورنغ وعلاقته الخاصة بها، وافتتانه الشديد بالجبل، ما قاده إلى طلبه غير العادي.
كيف تمكن روبرتس بالضبط من إقناع حكومة نيبال بالموافقة على طلبه؟ الأمر لا يزال لغرا أيضا. ومع ذلك، يبدو أن مشاعره كان لها صدى طيب، وهناك قبول واسع النطاق داخل نيبال بأن هذه القمة يجب أن تبقى عذراء وتسلقها غير مسموح به قانونياً.
في الواقع، فإن ارتباط روبرتس الشديد بتلك القمة قد طواه النسيان، وكما تقول شويغال فقد اعتاد في سنواته الأخيرة "أن يقول مبتسما 'جميل جداً أنهم ما زالوا يأخذون بنصيحتي بأن القمة يجب أن تظل مقدسة'. وبمرور الوقت أصبح مقبولا بشكل عام (الاكتفاء) بكونها مقدسة".
واليوم، الرأي السائد هو أن الجبل مقدس، وهو بالتالي محرم. وتقول تيرثا شريسثا، الشاعرة والمقيمة منذ فترة طويلة في بخارى: "إن قمة ماتشابوشهير يجب أن لا تطأها قدم، إنها فقط لتعشقها العيون".
وقد أخبرتني أن أهالي المنطقة يعتقدون بأن ماتشهابوتشير يجب أن لا تكون متاحة أمام المتسلقين، وتضيف: "أي حديث، ليس فقط عن بخارى، وإنما عن جمال جبال الهيمالايا بأكملها، لا يكتمل من دون ذكر جبل ماتشهابوتشير. لقد ألهم جماله الشعراء والمؤلفين والفنانين بشكل كبير. ولطالما أشادت الأغاني الشعبية بروعة هذا الجبل، إنه بالنسبة لنا رمز للجمال".
وما كنت أنا أو روبرتس لنخالف هذا الرأي بالتأكيد، ولا أي شخص شارك في رحلة على مسار ماردي هيمال، أو في أي مكان من عموم المنطقة المجاورة لوادي بخارى.
وبينما كنت أسير عبر أحراش شجيرات الأزاليا المزهرة على التلال السفلية، والسابحة فوق الغيوم أحيانا، على طول الطريق إلى أعلى نقطة مشاهدة حيث الإطلالة كاملة على سلسلة أنابورنا، كان جبل ماتشهابوتشير دائما مهيمنا على الأفق، وأشعر أنه يأسرني بشكل غريب. أما قمته المحرمة، التي تبدو قريبة، لكنها منيعة جداً، فقد جعلها هذا بطريقة ما أكثر إغراء.
وفي حين أن السبب وراء رغبة روبرتس في أن تظل القمة محمية من الانتهاك إلى الأبد، لم يتضح يوما، خصوصا وأنه حاول بنفسه الوصول إليها مرة، واقترب منها كثيرا، فمن الصعب توجيه أي لوم لروبرتس على تلك الخطوة، ونحن نرى كم من الأماكن دمرتها السياحة المفرطة وتسلق الجبال التجاري.
وربما على العكس تماما، إذ بينما تساهم جبال أخرى عديدة في نيبال في تأمين إيرادات تحتاجها البلد بشدة، فليحتفظ ماتشهابوتشير بسموه، لا تلوثه آثار البشر ولا يتمكن منه غرورهم. جبل يراقب العالم بهدوء في وحدته المقدسة.