كتبت – تحرير جابر – النهارالاخباريه
لم تعد التحولات العمرانية في الضفة الغربية مجرد مسألة تخطيط وبناء، بل تحوّلت إلى ساحة مركزية للصراع على الأرض والوجود فمن خلال الاستيطان المتسارع، ومصادرة الأراضي، وأوامر الهدم المتكررة، يُعاد تشكيل الجغرافيا على نحو تدريجي، لكنه عميق الأثر، يطال حياة السكان الفلسطينيين ومستقبلهم، ويعيد رسم ملامح المكان وحدوده ووظائفه وفي ظل تداخل الاعتبارات القانونية والأمنية والسياسية، تبرز هذه السياسات كأحد أكثر الملفات حساسية وتأثيرًا في المشهد الفلسطيني، لما تحمله من تداعيات تتجاوز الحاضر إلى رسم معالم الواقع القادم وتشهد الضفة الغربية في الآونة الأخيرة تحولات متسارعة في المشهد العمراني، تتجلى في توسّع الاستيطان، وتكثيف مصادرة الأراضي، واستمرار إصدار أوامر الهدم، ضمن سياق مركّب تتداخل فيه الأبعاد القانونية والسياسية والأمنية ولا تنفصل هذه التحولات عن البيئة الأوسع للصراع، حيث تُستخدم أدوات التخطيط والبناء كوسائل فاعلة لإدارة الأرض والتحكم باستخداماتها.
الاستيطان: إعادة تشكيل الفضاء الجغرافي
على صعيد الاستيطان، واصلت السلطات الإسرائيلية المصادقة على مخططات هيكلية جديدة وتوسعات داخل مستوطنات قائمة، شملت بناء وحدات سكنية، ومرافق عامة، وشبكات طرق وبنى تحتية. وتمتد آثار هذه المشاريع إلى ما هو أبعد من حدود المستوطنات نفسها، إذ تسهم في فرض وقائع عمرانية جديدة تؤثر على توزيع السكان، وأنماط الحركة، وإمكانية الوصول إلى الموارد الطبيعية وتُقدَّم هذه الإجراءات رسميًا باعتبارها استجابة للنمو السكاني وتنظيمًا عمرانيًا ضمن مناطق خاضعة للإدارة الإسرائيلية في المقابل، ترى جهات فلسطينية ودولية أن وتيرة هذه التوسعات ومواقعها الجغرافية تُستخدم لتفتيت الحيز الفلسطيني، وخلق تواصل عمراني استيطاني يقابله تقطيع للتجمعات الفلسطينية، بما يحدّ من إمكانات التطور المستقل ويعقّد أي تصور مستقبلي للتسوية.
مصادرة الأراضي: الإطار القانوني والجدل القائم
وفيما يتعلق بمصادرة الأراضي، تعتمد السلطات الإسرائيلية على أطر قانونية متعددة، من بينها إعلان مساحات واسعة كـ«أراضي دولة»، أو تخصيصها لأغراض عسكرية أو لمشاريع بنى تحتية وتُوظَّف هذه الأدوات ضمن منظومة قانونية محلية تستند إلى تفسيرات خاصة لقوانين عثمانية وبريطانية سابقة، إضافة إلى أوامر عسكرية غير أن هذه الإجراءات تبقى محل جدل واسع، خاصة في ظل اعتراضات فلسطينية مدعومة بوثائق ملكية خاصة أو باستخدام تاريخي للأرض.
كما تعتبر جهات قانونية دولية أن هذه الممارسات تتعارض مع قواعد القانون الدولي الإنساني، ولا سيما تلك المتعلقة بإدارة الأراضي الواقعة تحت الاحتلال وحماية الملكية الخاصة للسكان المدنيين.
أوامر الهدم: التخطيط كأداة ضبط وسيطرة
أما أوامر الهدم، فتتركز بشكل خاص في المناطق المصنفة «ج»، حيث تخضع عمليات التخطيط والبناء لسيطرة إسرائيلية كاملة وغالبًا ما تُبرَّر هذه الأوامر بالبناء دون ترخيص، في ظل نظام تخطيط يصفه فلسطينيون ومنظمات حقوقية بأنه شديد التقييد، ويحدّ فعليًا من إمكانية الحصول على تراخيص قانونية، خصوصًا في القرى والمناطق الريفية.
في المقابل، تؤكد الجهات الإسرائيلية أن تنفيذ أوامر الهدم يندرج ضمن إنفاذ القانون والحفاظ على النظام العمراني إلا أن منتقدي هذه السياسات يرون أن النتيجة العملية تتمثل في تقويض الاستقرار السكني، ودفع السكان إلى النزوح القسري غير المباشر، وخلق بيئة معيشية غير مستقرة.
تداعيات متعددة الأبعاد
ولا تقتصر آثار هذه السياسات على الجانب العمراني، بل تمتد إلى الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية والإنسانية. فمصادرة الأراضي تؤدي إلى تقلّص المساحات الزراعية، وتراجع مصادر الدخل، وارتفاع معدلات الاعتماد على المساعدات كما تسهم أوامر الهدم في تفكيك النسيج الاجتماعي، وخلق حالة مستمرة من القلق وعدم اليقين لدى العائلات المتضررة إلى جانب ذلك، يؤثر التوسع الاستيطاني على التخطيط المستقبلي للمدن والقرى الفلسطينية، وعلى حركة السكان، وإمكانية تطوير شبكات الخدمات الأساسية، مثل المياه والكهرباء والطرق.
دوليًا، تتباين ردود الفعل بين بيانات تحذير وإدانة لتداعيات هذه السياسات على فرص التسوية السياسية، وبين غياب خطوات عملية قادرة على إحداث تغيير ملموس على الأرض وفي المقابل، تواصل الجهات الفلسطينية الرسمية والأهلية توثيق هذه التطورات ومتابعتها عبر القنوات القانونية والإعلامية، رغم محدودية تأثير هذه الجهود في وقف أو عكس مسارها.
الخلاصة
في المحصلة تعكس تحولات المشهد العمراني في الضفة الغربية واقعًا معقدًا تُستخدم فيه أدوات التخطيط والبناء كوسائل فاعلة لإدارة الصراع على الأرض وبينما تتعدد المرجعيات القانونية والروايات السياسية، يبقى الأثر الملموس واحدًا: إعادة تشكيل الجغرافيا بما يقيّد إمكانات التنمية والاستقرار، ويعمّق حالة عدم اليقين لدى السكان الفلسطينيين. وفي ظل غياب أفق سياسي واضح لمعالجة جذور هذا الملف، تستمر هذه التحولات في ترسيخ وقائع بعيدة المدى سيكون لها تأثير حاسم على مستقبل الضفة الغربية وشكل الحلول الممكنة.