أخيراً، استقر رأي أعضاء مجلس الأمن، وإن كان الإعلان الرسمي لم يصدر حتى اللحظة على اختيار الدبلوماسي السويدي هانز غروندبيرغ ليشغل منصب المبعوث الخاص للأمين العام للأمم المتحدة ويقوم بمهمة فشل فيها سابقوه، وهي تحفيز الأطراف المنخرطة في الحرب اليمنية على الاتفاق على إجراءات إيقافها، ثم الذهاب إلى طاولة المفاوضات لإنهائها والتوصل إلى تسوية سياسية.
المبعوث الجديد عمل سفيراً للاتحاد الأوروبي في اليمن، وكان منشغلاً بملفات الشرق الأوسط أثناء عمله في وزارة خارجية بلاده وخلال فترة عمله في الاتحاد الأوربي، أي من المفترض أنه صار واعياً لتعقيدات الحرب اليمنية ويعرف اللاعبين الحقيقيين ومستوعباً لخريطة ارتباطاتهم الخارجية ومصادر التمويل التي تساعدهم في الاستمرار في القتال.
المبعوث الأممي الأول المغربي جمال بن عمر وجد في اليمن للإشراف على عملية الانتقال السياسي خلال الفترة التي كان من المفترض أن تكون "انتقالية" لمدة عامين تنتهي في 21 فبراير (شباط) 2014 بانتخاب رئيس جديد وبدستور جديد على أمل دخول البلاد في مسار آمن أطلق عليه صفة "المعجزة اليمنية"، لأن اليمنيين بحسب قوله تمكنوا من التوافق سلمياً على دستور جديد أوجزت بنوده مخرجات الحوار الوطني، لكن معجزة بن عمر أفضت إلى حرب لا أحد يعلم متى ستكون نهايتها، وإن كان الجميع يدرك الطريق إلى ذلك.
أسهم بن عمر بصورة فاعلة ونشطة ومباشرة في إدارة الشق السياسي من أعمال مؤتمر الحوار الوطني، وكان قبلة كل القيادات اليمنية الطامحة التي سعت إلى التقرب منه والتودد إليه والحصول على رضاه ونيل إعجابه، إذ كانت الصورة التي تشكلت حول نفوذه بلغت حد الاعتقاد بأنه القادر لوحده على التأثير في الرئيس عبدربه منصور هادي. وخلال تلك الفترة تم الانتهاء من إعداد مسودة الدستور الجديد ثم خريطة تقسيم اليمن إلى أقاليم وأخيراً اتفاق السلم والشراكة الوطنية.
انتهت فترة بن عمر باستيلاء مسلحي جماعة "أنصار الله" الحوثية على العاصمة صنعاء، ثم دخول البلاد في حرب صار إيقافها مهمة المبعوثين اللذين جاءا بعده، الموريتاني إسماعيل ولد الشيخ والبريطاني مارتن غريفيثس.
لم يحقق ولد الشيخ وغريفيثس أي إنجاز على الرغم من محاولاتهما الدؤوبة والصادقة، فالأمر كان أكبر من قدرتهما على إقناع قادة الحرب وحلفائهم بأهمية وقفها، وفي ظني أن فرص المبعوث الجديد غروندينبرغ لتحقيق ما عجز عنه الموريتاني والبريطاني لن تكون أكبر ما لم تكن القناعة لدى الأطراف الخارجية المنخرطة في الحرب قد بلغت حداً حاسماً لإجبار حلفائهم اليمنيين على ذلك.
ما لا تخطئه العين المجردة هو أن الحرب الدائرة في اليمن ليست مختلفة عن غيرها من الحروب الأهلية في الدول التي عانت ويلاتها وتكون أطرافها المحلية محتاجة إلى سند خارجي يضمن لها الاستمرار في تمويلها ثم تصبح أسيرة لها، وهنا تمكنت إيران بأقل الكلف المادية أن تدفع المنطقة إلى حال استنزاف مالي واقتصادي، وإلهائها عن القضايا المحلية العاجلة.
ستبقى الأسئلة أمام المبعوث الجديد غير مختلفة عن تلك التي واجهت سابقيه ولد الشيخ وغريفيثس، وفي ظني أن الإجابة عنها لم تعد قراراً خالصاً للقيادات اليمنية الحالية التي تتقدم مصالحها الخاصة وارتباطاتها وولاءاتها الخارجية على المصلحة الوطنية.
إنني صرت أشك في رغبة أي من اللاعبين المحليين التوصل إلى حل سياسي لإنهاء الحرب، وذلك أمر طبيعي، لأن احتمالات عودة الذين في الخارج تتضاءل بسبب حال الاسترخاء التي تسيطر على تصرفاتهم، ويكفي أن نتذكر أن معظمهم نزح مع كل أفراد أسرته إلى خارج البلاد واستثمر الأثرياء منهم أموالهم في مشاريع موزعة في عواصم عدة، واللاعبون الذين بقوا في الداخل رتبوا أوضاعهم على استمرار الحرب كمورد مالي ولتثبيت إرادتهم ومخططاتهم.
تحدثت كثيراً عن خطر استمرار الحرب، وكررت أن فيها مصلحة لجماعة "أنصار الله" الحوثية، إذ تستغلها في تثبيت سلطتها تحت شعار "مقاومة العدوان" وللحشد في اتجاه يتواءم مع عقيدتها الفكرية، ولعل في مشهد المعسكرات الصيفية التي تقيمها للأطفال ما ينبئ بعملية مستدامة لخلق فرز مجتمعي بخطوط عقدية، كما أن سيطرتها على مخرجات التعليم وتقييد الحريات الشخصية والعامة والإفراط في تقييد المجتمع في كل توجهاته تتزايد كل يوم في ظل غياب نموذج آخر كان من المؤمل أن تمثله السلطات البعيدة من مناطقها.
إن القول بأن إنهاء الحرب ثم الدخول في مسار التسوية السياسية أمران يحتاجان إلى "خريطة طريق" توضح الخطوات المطلوبة من اللاعبين المسلحين، وبموجبها تعود الأمور إلى طبيعتها، هو تفكير بسيط وفيه من السذاجة السياسية ما يثير القلق، وصارت القضية عبثية كالبحث عن أيهما جاء بداية البيضة أم الدجاجة، فقد تحولت الحرب من صراع محلي إلى إقليمي، ثم تشعبت سبلها محلياً وتفككت القوى الداخلية إلى شراذم، وأصبح البحث في تفكيك خيوطها أمراً سيواجه المبعوث الأممي، وهو واقع أشد تعقيداً مما تركه سابقوه.
أولى مواجهات المبعوث الجديد ستكون التفكير في إقناع أي من الطرفين بالتنازل عن شروطه قبل التوجه إلى مفاوضات لإنهاء الحرب، فالرئيس هادي يتمسك بالمرجعيات الثلاث التي تمثل حبل نجاته وسبيل استمراره في موقعه، بينما الطرفان الآخران، المجلس الانتقالي والحوثيون، غير معنيين بها ولا يجدان فيها ما يحقق طموحاتهما، ومن المهم الاعتراف بأن الأهداف النهائية للأطراف الثلاثة متناقضة حد الصدام.
من هنا يجب على المبعوث ألا يبدأ عمله بطموح تحقيق إنجاز عظيم، لكنه مطالب بالبحث عن مدخل بسيط يمكنه البناء عليه لتحقيق انفراجة إنسانية لرفع الحصار عن المدن اليمنية، وفتح المطارات والموانئ مع ضمان التصرف في الموارد لمصلحة المواطنين، وليس من المجدي الحديث عن تفكيك القضايا الكبرى التي ترتبط بصراعات تدور خارج اليمن، وإن كان صداها مدوياً ودامياً داخله.
أعود إلى الفكرة العبثية عن البيضة والدجاجة التي ستشكل إحدى القضايا أمام المبعوث الجديد: أين تكون البداية؟ فتح مطار صنعاء ورفع الحصار عن ميناء الحديدة ثم وقف إطلاق النار والذهاب إلى المفاوضات أو العكس؟ هذه المسألة مرتبطة بانعدام الثقة والخوف من أن يذهب الدخل المتوقع من استخدام هذه المنافذ من دون قيود ورقابة للحصول على موارد يمكن استخدامها في تمويل الحرب، كما أن الحوثيين يعتقدون أن وقف إطلاق النار قبل تحقق شروطهم، التي يصفونها بالإنسانية، لا يضمن وقف العمليات العسكرية بصورة كاملة.
قادة الحرب لا يحتاجون إلى مبعوث جديد، ولكنهم يبحثون عن ضميرهم المفقود.