منصف الوهايبي
لأقل إن «قصيدة النثر» نص استثنائي وافد على الشعر العربي، وليس لها أصل في مواقف النفري ومخاطباته أو في إشارات التوحيدي الإلهية، كما يقول أدونيس؛ أو في الشعر، من حيث هو «الصنعة اللطيفة في نظم الكلام» كما يقول الباقلاني عن القرآن. على أنه ليس من اليسير استيفاء القول في طابعها الاستثنائي، دون استيعاب إيقاعها، أي دون اعتباره «منتوج» ذات مفردة؛ لكنها تاريخية تجعل من هذا النص فعلا لغويا فريدا خاصا. وسؤالي هنا: لِمَ ينشدها صاحبها إذن، وهي نثر؛ حتى لو كان نثرا من نوع خاص؟
ذكرت في مقال سابق أن الشعر (الموزون) «وُضع للغناء والترنم» بعبارة سيبويه، أي الإنشاد بعبارة أدق. والإنشاد على ما أرجح هو الذي يضفي على البيت الشعري أهم خصائصه وسماته، أي تلك التي تجعله يقع في الطرف المقابل لما يمكن أن نسميه «اللابيت». وربما أفدنا منه معرفة بجوانب من شعرية النص، أوفر مما نفيد من سائر أنظمة القصيدة كالنظام المعجمي، والنظام الصرفي والنظام النحوي والنظام البلاغي. فهذه قواسم مشتركة بين الخطاب الشعري وسائر الخطابات اللغوية. على حين أن الإنشاد هو «الخاص» في الشعر و«الخاص» به. وهذا مبحث نأتيه على صعوبته، فنحن نتقدم في أرض غير موطأة ولا هي واضحة المعالم.
فلا القدامى واجهوا هذا «الخاص» مواجهة مباشرة أو أفردوه مبحثا قائما بنفسه، ولا نحن بميسورنا أن نخلص إليه في أصوله الشفوية، أو أن نسترد هذه الأصول قبل أن تطولها الكتابة وتلوي عليها. وإنما نسوق جملة من الافتراضات والمصادرات، من شأنها أن تجعلنا ننظر إلى «شعرية الإنشاد» في ضوء «جديد». وربما أتاحت لنا فهم الظواهر الإيقاعية المكثفة في شعرنا قديمه وحديثه. وأظهرها في تقديرنا أن القصيدة «نشيد» والآصرة بين «ق.ص.د» و«ن.ش.د» لغة، تزيدنا بصرا بهذه المعادلة ووثوقا. فبينهما من شوابك القرابة ووجوه الشبه ما لا يخفى؛ من ذلك أن من معاني «نشد» طلب الشيء وتعرفه، وإِنما قيل للطالب ناشد لرفع صوته بالطلب. والنشِيدُ: رَفْعُ الصوْت، وكذلك المعَرفُ يرفع صوته بالتعريف فسمي مُنْشِداً؛ ومن هذا إِنشاد الشعر إِنما هو رفع الصوت». ومن معاني «قصد» إتيان الشيء وقال ابن جني: «سمي قصيداً لأَنه قُصِدَ واعتُمد» أي روى فيه صاحبه خاطره، واجتهد في تجويده؛ الأمر الذي يسوق إلى أن الأداء هو مطابقة الكلام الشفوي لمقتضى الإنشاد من حيث هو «مجلى سماعي» يمكن أن تتحدد فيه الفروق بين البيت و«اللابيت» كالآية القرآنية مثلا، فلها «مجلى سماعي» من نوع آخر، محكوم بتلاوة القرآن ووجوه قراءته، مثلما يمكن أن تتوضح فيه أيضا الفروق بين الشعر و«اللاشعر» أو بين الشعر والنثر. فما يميز الأول من الثاني إنما هو الإنشاد، الذي يعدو كونه تحقق البيت صوتيا إلى طريقة في أداء القواعد «الصوتمية» أداء مخصوصا، و«الصوتم» اصطلاحا هو أصغر وحدة صوتية (صِواتية) وهو ينضوي إلى اللغة، وليس له حقيقة سماعية؛ أي هو ليس كالصوت أو الجرْس الذي ينضوي إلى الكلام.
والحق أن هذه القواعد عامة يجري عليها الشعر مثلما يجري عليها النثر، لكن الشعر يتميز بطبيعته «الصوتمية» المزدوجة، فالبيت الشعري يدور على صوتمية خاصة تميزه من حيث هو بيت، مثلما يدور على «صوتمية» عامة هي «صوتمية» اللغة. ويتحقق الإنشاد على أساس من ثلاث سمات رئيسة، في القصيدة هي مصدر شعريته مثلما هي علامات مميزة للبيت في آن: تعداد المقاطع الصوتية والقافية والنبر. وجماعها، متى أخذنا بالحسبان مادة كل منها، نمط أدائي عام هو أشبه بقاعدة معيارية، إذ بها يعرف إن كان الأداء الشعري قد طابق مقتضى الإنشاد فقدر لذة الأذن ومتعة السمع، أو خالفه. أو لنقل إن هذا النمط هو بمثابة كلية عامة تنتظم هذه السمات، أو العلامات جميعها، وتربطها برباط واحد هو الوزن. على أن كلا منها هو كلية صغيرة قائمة بنفسها منضوية إلى نظامها، أو لنقل إن هناك مقياسا عاما توزن به، وآخر خاصا لا يصلح لسواها. وعليه يكون من المفيد أن نقبل عليها في ذاتها عسى أن نتلمح خصائصها ونحصى صفاتها، ثم في كليتها حيث تتلاقى وتتفارق، وتتركب وتتحلل. ولا رابط بينها سوى الإنشاد الذي ينقلها من وزن إلى ذاكرة سماعية فذاكرة بصرية. أما الوزن الشعري فمحكوم بقوانين «صوتمية» وليس بتفعيلات مجردة على النحو الشائع في سائر كتب العروض قديمها وحديثها.
ولعل الجذر «ن.س.خ» أو رسم بشتى معانيه المتجاذبة المتدافعة أن يؤدي عنها، أكثر مما يؤدي عنها جذرها؛ وإذا كان ذلك كذلك، كان لزاما علينا أن نبحث في وقع الكتابة لا على اللغة حسب وإنما على الشعر الذي نحن فيه، أيضا.
وهذه القوانين هي التي تحد البيت صوتيا، أو كيفية
أو كيفية إنشاده، من حيث هو، متى احتكمنا إلى الوزن على النحو الذي أثبتنا، كلمة «صوتمية» واحدة وليس تفعيلات تجري في فيض متتابع. واذا استتب لنا هذا الوصف، فإن أهم ما يمكن إثباته أن الوزن قانون وليس قاعدة، وأنه ترقيم موسيقي صامت. وعليه فالإنشاد هو كيفية أداء هذا الترقيم؛ أو لأقل إن الشاعر المنشد يؤدي الوزن واللغة كما يؤدي الموسيقي قطعة موسيقية.
ولعل هذا ما يفسر أيضا انصراف العرب القدامى عن كتابة الترقيم، إلا ما تعلق بالقرآن؛ شأنهم في ذلك شأن شعوب أخرى كثيرة. فلم يكن «الترقيم الموسيقي» معروفا ولا متداولا. وإنما هو حديث النشأة، يرجع إلى العصر الوسيط،، ونحن نكاد نجهل كل شيء عن الموسيقى التي لم تكتب ولم تدون. ولا غرابة في أن يتزاوج فنانان اثنان أو أكثر، كأن يزاوج القصيد اللحن أو الإنشاد أو الغناء. وربما لا صعوبة في ذلك، فالقصيدة في الثقافات الشفوية نشيد بالأساس، إذ ترافقه الموسيقى أو شكل موسيقي ما، مرده إلى صوت الشاعر وإنشاده. وإنما مكمن الصعوبة في اكتناه وحدة الأثر الفني أو هذا القصيد الذي يمكن أن نسميه قصيدا مغنى. فهو محصلة قصيد ولحن أو قصيد وإنشاد، وإذ يلابس هذا ذاك، يلابس الكلام اللحن أو الإنشاد، أوهما يقولان الشيء ذاته أو المعنى ذاته، دون منافرة أو تناقض. والأمر إنما يرجع إلى الشاعر/المنشد، مثلما يرجع إلى المتلقي/ السامع وإلى «أفق التوقع» لديه، ولا وسيلة لفك التلابس بينهما إلا بالكتابة.
فالكتابة تنقل النص من أفق التلقي الشفوي إلى أفق التلقي الكتابي. بيْد أنها إذ تثبت هذا الشعر «الشفوي» وتحفظه من الضياع والتلاشي، تطمس شيئا ما فيه، هو موسيقاه أو إيقاعه المسموع، أو ما أسميه «شعرية إنشاده». والكتابة إنما تكتب الأصوات وتنقلها من مسموع إلى مرئي (صورة خطية) لكن بمنأى عن أجراسها. فهي على قدر ما تخط شيئا، تمحو شيئا.
ولعل الجذر «ن.س.خ» أو رسم بشتى معانيه المتجاذبة المتدافعة أن يؤدي ٩عنها، أكثر مما يؤدي عنها جذرها؛ وإذا كان ذلك كذلك، كان لزاما علينا أن نبحث في وقع الكتابة لا على اللغة حسب وإنما على الشعر الذي نحن فيه، أيضا.
على أنه إذا كانت الموسيقية أو «الترقيم الموسيقي» تحد بنسبة أو بأخرى المجال الصوتي، وتمكن من أداء القطعة الموسيقية أو تسجيلها وتحيينها، فإن الكتابة المقطعية أو الهجائية تقتصر على إعادة إنتاج اللغة المحكية. فيما لا تنهض الكتابة العروضية المتعارفة بأي وظيفة من هذه الوظائف. والترقيم الموسيقي موضوع للمؤدي أو العازف، الذي ينبغي أن يتقن قراءته لا شك، حتى يتمكن من أدائه أو عزفه، فإلحاقه بكيانه الموسيقي. فالعازف أشبه ما يكون بقارئ القصيدة أي منشدها. ذلك أن المنشد إنما يؤدي القصيدة على مقتضى قواعد الإنشاد، ليلحقها، من ثمة، بكيانها الشعري. غير أن قراءة الترقيم الموسيقي لا تعني ضرورة المقدرة على عزف القطعة الموسيقية أو أدائها. وكذلك الأمر في الشعر، فبإمكان القارئ أن يقرأ القصيدة، كلما كانت مكتوبة، أو أن يستظهرها، دون أن يعني ذلك المقدرة على إنشادها. ومن هنا سؤالي: هل ننشد قصيدة النثر؟ وكيف؟ أليس الأفضل الاقتصار على قراءتها، دون أي محاولة لتنغيمها، أو التشديد على النبر فيها، أو على حركات الإعراب؛ كما يفعل أكثر شعرائها العرب؟
إن الأثر الفني، سواء كان موسيقى أو شعرا، موكول في هذا المستوى، إلى العين وليس إلى الأذن. فهو ليس إلا نصا مكتوبا، لا تعدو وظيفة الكتابة فيه، تدوينه فجعله قابلا للقراءة والشرح والتفسير والتأويل. وأضيف أن الشاعر القديم كان منشدا ينشئ قصيدته وينشدها لحظة بلحظة.
والإنشاد، كما قلت، أشبه بترقيم موسيقي، ولم يكن ثمة من وسيلة لكتابة هذا الترقيم، شأنه في ذلك شأن أوزان الشعر، فقد كانت محفوظة في ذاكرة الشاعر «الإرادية» يفزع إلى مذخورها، ويدير على أي منها قصيدته، دونما حاجة إلى الاستعانة بها مكتوبة. فهي بمثابة «مثال ذهني» في ذاكرة الشاعر، أو «صيغة» تعهدها التقليد الشفوي، وجعلها تجري مجرى «الكفاية» اللغوية.
كاتب من تونس