رفيق خوري
كاتب مقالات رأي
فرنسيس فوكوياما صار مؤرخ "النهايات". بعد سقوط جدار برلين عام 1989 رأى "نهاية التاريخ"، وسجّل بداية الذروة في الهيمنة الأميركية عسكرياً واقتصادياً وسياسياً وثقافياً. بعد الأزمة المالية بين عامَي 2007 – 2009، سجّل نهاية الذروة في الهيمنة.
وفي أعقاب ما رافق الانسحاب الأميركي من أفغانستان من "مشاهد مروّعة"، كتب بدعوة من "إيكونوميست" البريطانية عن "نهاية الحقبة الأميركية"، التي جاءت أبكر كثيراً مما هو مقدّر.
وفي العام الماضي، كتب وليام بيرنز الذي صار مدير الاستخبارات المركزية في إدارة الرئيس جو بايدن وليندا توماس غرينفيلد التي أصبحت مندوبة أميركا في الأمم المتحدة، مقالاً في "فورين أفيرز" جاء فيه: "الهيمنة الأميركية لم تعُد ممكنة. والخندقة وهم. وأخطر ما في التحديات الخارجية هو تأثيرها الهائل في صحة أميركا الداخلية وأمنها".
أما جايك سوليفان الذي صار مستشار الأمن القومي، فإنه وضع معادلة قوامها: "نهاية السيطرة الأميركية لا تعني نهاية القيادة الأميركية". وأما الجدل الدائر في مرحلة "ما بعد أفغانستان"، فإنه يتركز على شكل الانسحاب، الذي أعطى صورة عن هزيمة أميركا وانتصار "طالبان"، كما على ما أصاب صدقية الولايات المتحدة بالنسبة إلى التزاماتها نحو حلفائها.
فماذا عن اندفاع إيران إلى "زعزعة الاستقرار" في الشرق الأوسط؟ ماذا تفعل أميركا؟ وهل تواجه الصين إذا أرادت استعادة تايوان بالقوة؟ هل تواجه روسيا إذا قررت غزو أوكرانيا؟ وهل كان الانسحاب من أفغانستان جزءًا من خطة أميركية لتوريط الصين وروسيا وإيران وباكستان في صراع على النفوذ في أفغانستان التي كانت ولا تزال "مقبرة الإمبراطوريات"؟
فوكوياما يضيء الجانب الحقيقي من مشكلة أميركا. فالبلد "سيبقى قوة عظمى لأعوام، لكن حدود تأثيره تتوقف على قابليته لحل صراعاته الداخلية أكثر من سياسته الخارجية". والأحادية القطبية مسألة نادرة في التاريخ. ولا يمكن أن تستمر طويلاً، لأن الوضع الطبيعي هو "التعددية القطبية"، بحيث تزداد قوة الصين وروسيا وأوروبا والهند حالياً.
وفي تقديره، فإن تأثير أفغانستان الجيوسياسي سيكون "صغيراً". فالتحدي الكبير داخلي. والمشكلة الأساسية هي "الاستقطاب العميق"، إذ أصبح من الصعب التفاهم على أي موضوع في أميركا.
والأصعب والأخطر هو الصراع على "الهوية الثقافية" وسط مطالبة المجموعات التي تشعر بأنها مهمشة من جانب النخبة بالحصول على الاعتراف بحقوقها. شيء مما سمّته "فورين بوليسي" الاندفاع في "السياسات القبلية"، وشيء من اهتزاز "النموذج الديمقراطي" الذي ما عاد سهلاً على واشنطن الترويج له في العالم، بعد إصرار دونالد ترمب على كذبة تزوير الانتخابات وهجوم الغوغاء على مبنى الكابيتول حيث الكونغرس، "مقر الديمقراطية".
وبحسب استطلاع مركز "بيو"، فإن ثمانية من كل عشرة مؤيدين لترمب أو بايدن قالوا إنهم يختلفون مع الجانب الآخر على القيم الأميركية الأساسية. وتسعة من كل عشرة قالوا إنهم قلقون، ويرون أن انتصار الطرف الآخر يقود إلى "أذى دائم لأميركا".
وليست قليلة الدعوات داخل مراكز الدراسات في أميركا إلى التخلي عن الطموحات الكبيرة. ستيفن برثايم رأى أنه "ليس لدى أميركا سبب لأن تكون قوية هكذا، وأن تنشر قواتها في 170 بلداً في العالم بعد سقوط الاتحاد السوفياتي. ولا حاجة إلى استراتيجية عظمى، ولا إلى التضليل في تعبير الهيمنة الليبرالية، لأن أهداف أميركا ووسائلها كانت أقرب إلى الهيمنة منها إلى الديمقراطية".
لكن ما سمّاه روبرت ناكر وديفيد هندريكسون "إغراء الإمبريالية" يدفع كثيرين أيضاً إلى الإصرار على دور القوة العظمى المهيمنة على أساس أنه دورها الذي لا مهرب منه. روبرت كاغان في "فورين أفيرز" يعيد التذكير بالذين تحدثوا من زمان عن "انحدار أميركا": والتر ليبمان وجورج كينان في الأربعينيات، وكيسنجر في الستينيات، وبول كينيدي في الثمانينيات، "لكن أميركا لا تزال أقوى قوة". حتى في الثلاثينيات من القرن الماضي، فإن المؤرخ البريطاني الكبير أرنولد توينبي وصف أميركا بأنها "لاعب كسول بجزء من قوته غير المحدودة".
ولا شيء ينتهي. لا التاريخ، ولا الصراعات، ولا تبادل الأدوار على المسرح الدولي، وليس أصعب من أن تستعيد أميركا دور القيادة كما يجب سوى أن تعالج أمراضها الداخلية. فالحزب الجمهوري مريض، يدفعه ترمب نحو العمل الفوضوي والإيمان الكامل بنظريات "المؤامرة" التي تشبه الرهان على الغيب.
والحزب الديمقراطي موزّع بين أجنحة اليمين والوسط واليسار بالمفهوم الأميركي. وهو مختلف عن المفهوم الأوروبي، إذ إن اليسار في أميركا وسط، والوسط يمين، واليمين محافظ متشدد، والليبرالي "تهمة" يهرب منها كثيرون