السبت 23 تشرين الثاني 2024

نموذج مودي في الهند: هل توجد ديمقراطية إثنية؟

 


صبحى حديدي كاتب وباحث سوري

 

لاتتردد الروائية والناشطة الهندية المعارضة أرونداتي روي في إطلاق صفة «جريمة الحرب» على سياسات الحكومة الهندية الحالية في مواجهة الانتشار الهائل لفيروس كوفيد ـ 19 في البلاد، ولا تمنح نارندرالا موديلالازعيم «حزب الشعب الهندي» ورئيس الوزراء الحالي، أيّ مقدار من فضيلة الشكّ بخصوص جائحة كونية خرجت أشكال معالجتها عن السيطرة في معظم بلدان العالم؛ النامي منه والمتقدم، والفقير مثل الغني. الأصل في توجيه تلك الإدانة القصوى للحكومة ليس ضعف المنظومة الصحية أو حتى انهيارها هنا وهناك، بل العلّة في غيابها تماماً على امتداد مناطق عديدة، أو في تسليمها إلى إدارة القطاع الخاصّ بمعدلات تبلغ 71٪ في المناطق المدينية، و78٪ في الأرياف. الأمر، بالأحرى، يتصل بطبيعة المنظومة السياسية/ الاقتصادية التي أرساها «حزب الشعب الهندي»؛ ويتمحور، استطراداً، حول هذا الطور الراهن من حياة الديمقراطية الهندية، التي لم يعد من الجائز اعتبارها مأزومة مؤقتاً فقط، فثمة ما هو عليل على نحو عضوي وبنيوي.

ذلك لأنّ الهند هي الديمقراطية الأكبر بمعنى المعطيات الإحصائية بادئ ذي بدء (نحو 900 مليون ناخب، وقرابة مليون مركز اقتراع) وفترة التصويت (سبع مراحل، على امتداد 39 يوماً) وكلفة الحملات الانتخابية (سبعة مليارات دولار في التشريعيات الأخيرة، مع التنويه إلى أنّ الهيئة الانتخابية صادرت مليار دولار من المصروفات غير الشرعية). لكنها، إلى هذا وذاك، الديمقراطية الوحيدة في العالم التي لا حرج، منهجياً واصطلاحياً ودلالياً، في تسميتها بـ«الديمقراطية الإثنية»؛ لأنها، بكلّ بساطة، تميل بمعدلات غير متناسبة لصالح المجموعات الهندوسية، وتعاني من خلل فادح في تمثيل الأقليات المسلمة أو المسيحية أو البوذية أو الإثنيات الأضعف عدداً. على سبيل المثال، في ولاية أوتار براديش التي يسكنها 43 مليون مسلم، لا يوجد في البرلمان أيّ نائب مسلم؛ وتمثيل الهنود المسلمين لا يتجاوز 24 نائباً، من أصل 543، وهي الأدنى منذ 1952 لنسبة 15٪ من إجمالي السكان وقرابة 200 مليون نسمة؛ كما أنّ «حزب الشعب الهندي» الحاكم منذ 2014، لم يقدّم أيّ مرشح مسلم.

وفي كتابه الممتاز «هند مودي: النزعة القومية الهندوسية وصعود الديمقراطية الإثنية» الذي صدر بالفرنسية سنة 2019، يشير كريستوف جافريلو إلى أنّ الصفة الإثنية للديمقراطية الهندية لم تبدأ مع مودي و«حزب الشعب الهندي» بل كرّسها دستور 1950 وترسخت خلال خمسينيات وستينيات وسبعينيات القرن المنصرم واكتسبت صبغة محافظة رغم البلاغة الاجتماعية، و«الاشتراكية» أحياناً، التي اقترنت ببرامج جواهر لال نهرو وأنديرا غاندي وحزب «المؤتمر» تحديداً. وفي الأساس ظلت الديمقراطية الهندية مرتبطة بمفردة لاحقة أو سابقة تتولى تعريفها، ومن هنا مراحلها الثلاث حسب تقسيمات جافريلو: «الديمقراطية المحافظة» «دمقرطة الديمقراطية» و«الديمقراطية الإثنية»؛ وهذه الأخيرة اكتسبت هيئة مؤسساتية معلَنة مع صعود تيار قوموي هندوسي محافظ يستلهم إيديولوجية الـ»هندوتفا» التي راجت في عشرينيات القرن المنصرم واكتسبت تعاطفاً واسعاً أساسه جاذبية الديانة والهوية المحلية. ولسوف يتولى مودي، من ولاية كوجارات مطلع القرن الحالي، المزاوجة البارعة بين مبادئ الـ»هندوتفا» ومشاعر كراهية المسلمين والأقليات، فيستخلص التوليفة السحرية التي سيعتمدها «حزب الشعب الهندي» في اكتساح انتخابات 2014.

وهكذا بات من المسلّم به طرح سؤال ثلاثي الجوانب: هل من الممكن وجود ديمقراطية إثنية، لا يتساوى المواطنون الخاضعون لمؤسساتها بل يتمايزون طبقاً للإثنية؟ وكيف يمكن لنظام مثل هذا، بمنظوماته تلك، أن يتحلى أصلاً بالصفة الديمقراطية؟ وأخيراً، هل ثمة حقاً «ديمقراطية إثنية» اصطلاحاً وفعلاً، في الهند الراهنة؟ الإجابات القاطعة، على غرار الـ»نعم» أو الـ«لا» يتوجب أن تكون منتفاة هنا لأسباب منهجية واصطلاحية على وجه التحديد؛ كأن يُقال بصدد الجانب الأوّل من السؤال إنّ انعدام المساواة بين المواطنين، أو التمييز بينهم على أيّ أساس إثني، يقوّض أحد الأركان الكبرى في الديمقراطية. أو، بصدد الجانب الثاني، أنّ الصفة ليست خلاصة توصيف الموصوف دائماً، ويحدث مراراً أن يقع التناقض، أو النفي المتبادل، بين طرف وطرف في التسمية ذاتها؛ وإلا كيف وُلد ذلك المصطلح الرجيم: الديمقراطية الديكتاتورية؟ وثالثاً، ليست ديمقراطية الهند الراهنة إثنية خالصة، كما انها ليست تعددية بما يليق بمعنى الديمقراطية، وثمة شروخ عديدة في البنيان، وأمراض شتى مُصاب بها الجسم الديمقراطي.

والحال أنّ المظاهر، ومعها القوانين في البرلمان والممارسات على الأرض، التي تدمغ الديمقراطية الهندية بالطابع الإثني، لا تعدّ ولا تُحصى؛ وفي المقابل، ليس ثمة مظاهر مقابلة تشير إلى أيّ سلوك غير قانوني، عكّر صفو الانتخابات أو انطوى على تزوير هنا أو تلفيق هناك. الإشكالية، إذن، ليست في منطوق المصطلح وسيرورات تحقّقه داخل صندوق الاقتراع، بل في أداء السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية التي تستند إلى منظومات إثنية التوجّه، أو تحابي إثنية دون أخرى، بل يمكن أن تستخدم عنف أجهزة الدولة الأمنية والعسكرية لتحويل تلك المحاباة إلى ثقافة تمييزية في إنفاذ القوانين. كلّ هذا يكتسب سلسلة أبعاد شعبوية لا تجعل الاعتلال أشدّ وأوسع انتشاراً في الجسم الهندي، فحسب؛ بل تنذر، كذلك، باقتراب الانحيازات الشعبوية من حافة الفاشية، عن طريق عبادة الفرد والارتقاء بشخص الحاكم إلى مستويات قداسية هندوسية الجذور (كما في تنامي ظاهرة الـ»موديتفا» التي تمزج بين شخص مودي وفلسفة الـ»هندوتفا»).

ولا حاجة إلى ذهاب المرء بعيداً على سبيل تلمّس المظاهر الإثنية خلف الديمقراطية الهندية الراهنة، إذْ تكفي إطلالة وجيزة على «قانون تعديل الجنسية» الذي صوّت عليه البرلمان الهندي بمجلسيه أواخر العام 2019، كي يدرك المرء الدرجة الصارخة من التمييز: القانون يسهّل منح الجنسية للاجئين إلى الهند من أبناء كلّ أديان بنغلاديش وباكستان وأفغانستان، وهذا يشمل الهندوس والمسيحيين والبوذيين والسيخ والبارسيين والجاينيين؛ ولكنه، صراحة وبالاسم، يستثني ديناً واحداً هو الإسلام. هذا عدا عن حقيقة أنّ القانون يسكت، تماماً، عن لاجئي الروهينجا المسلمين، بل حدث أنّ أجهزة وزير الداخلية الهندي أميت شان، الرجل الثاني الأقوى في البلاد بعد مودي، ردّت هؤلاء إلى جحيم الاضطهاد العرقي والديني الذي تمارسه سلطات ميانمار.

وفي قلب هذه الديمقراطية الإثنية تبرز معزوفة «حزب الشعب الهندي» الحاكم على أسطوانة المعبد الهندوسي الذي يُبنى على أنقاض المسجد، أو استفزاز مشاعر المواطنين الهنود المسلمين عن طريق اختيار مرشحي الحزب من غلاة الهندوس وأصحاب السوابق الجنائية ضدّ المساجد وذلك في الدوائر الانتخابية ذات الأغلبية المسلمة.

وأمّا المحتوى الاجتماعي، السياسي بامتياز كذلك، فإنه يتجلى في انجراف الحزب الحاكم نحو مزيد من التقوقع الهندوسي على الذات مقابل انفتاح أوسع على بيوتات المال، وتضييق الخناق على ملايين الفقراء في الهند (من كلّ الإثنيات، غنيّ عن القول) عبر إجراءات تحمل من التجويع والإفقار أكثر بكثير مما تعد على مستوى تحسين القدرة الشرائية.

ويبقى أنّ تكريس الديمقراطية الإثنية يشكّل انتكاسة نوعية جديرة بالتأمّل لدى كلّ حريص على مكانة الهند السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والإثنولوجية. فالخاسر هنا ليس هذا الحزب التاريخي أو تلك الثقافة الاجتماعية أو العلمانية، كما أنّ الرابح ليس «حزب الشعب الهندي» وخطّه القوموي والهندوسي؛ لأنّ المُضيّع الأكبر هو انحسار تلك الأمثولات اللامعة التي صنعتها الهند في التاريخ الحديث للمجتمعات والدول النامية، أو شعوب ما بعد الاستعمار في التوصيف الأدقّ.

كاتب وباحث سوري يقيم في باريس