حسين مجدوبي
تحولت أوكرانيا إلى مسرح تجريبي لتطبيق أهم الرهانات العسكرية التي ستميز السنوات المقبلة، وذلك بين عزيمة روسيا فرض الأمر الواقع عسكريا وبحث أوكرانيا والغرب عن سياسة الردع للجم موسكو. لكن هذه السياسة الأخيرة تبقى قاصرة أمام تصميم قيادة عسكرية وسياسية في الكرملين بزعامة فلادمير بوتين، تريد أن يأخذ الغرب على محمل الجد الخطوط الحمراء التي وضعتها هذه القيادة مع التنصيص على عدم تكرار السياسة التي عانت منها روسيا في أعقاب تفكك الاتحاد السوفييتي. وتؤكد موسكو للعالم عدم ترددها في الدفاع عن مصالحها سواء تلك التي تمس أمنها القومي مباشرة أو تلك التي تمس مناطق نفوذها. وأقدمت على تطبيق سياسة الأرض الواقع في عدد من الملفات مما يؤكد جاهزية روسيا بالرد العسكري في الملف الأوكراني بل ربما ستكون أكثر تطرفا وحزما نظرا لخطورة أوكرانيا على أمنها القومي المباشر. وهكذا، تصل روسيا إلى هذا النزاع الأوكراني وهي تمتلك في سجلها الحربي خلال السنوات
الأخيرة ما يلي:
أولا، حسم نزاع أوسيتيا التابعة لجورجيا بالقوة سنة 2008 بعدما حاولت جورجيا الانضمام إلى الحلف الأطلسي والاتحاد الأوروبي بل وكانت تفكر في احتضان قاعدة عسكرية أمريكية كانت ستكون خطيرة على الأمن الروسي.
ثانيا، لم تتردد روسيا في اقتطاع جزيرة القرم من أوكرانيا سنة 2014 تحت ذريعة انضمام الساكنة من أصول روسية إلى الوطن الأم روسيا في استفتاء لتقرير المصير. وأقدمت موسكو على هذه العملية الاستباقية تجنبا لمنح أوكرانيا تسهيلات عسكرية في الجزيرة للولايات المتحدة، مما كان سيقيد بشكل كبير حرية ملاحة الأسطول الحربي الروسي بل والمدني منه في منفذه نحو البحار الدافئة وخاصة المتوسط.
ثالثا، قرار روسيا مساندة نظام بشار الأسد في سوريا عسكريا لبقائه في السلطة في وقت كان الغرب ينتظر سقوطه كما سقط عدد من الرؤساء الدكتاتوريين إبان الربيع العربي مثل أنظمة معمر القذافي وزين العابدين بن علي.
رابعا، إعلان الرئيس فلاديمير بوتين سنة 2017 عن العقيدة العسكرية الجديدة للجيش الروسي وهي الدفاع عن روسيا أمام أي خطر يهددها بل وتوظيف السلاح النووي للدفاع عن الدول الحليفة إذا تعرضت لهجوم نووي. ولم ينتبه الكثير من الخبراء في العلاقات الدولية والجيوسياسية إلى أهمية هذا الخطاب لأن معظم الأبحاث مركزة على الصراع على ريادة
العالم بين الصين والولايات المتحدة متناسين موقف الصين بدعم البحث عن نفوذ عسكري واسع في الوقت الراهن، مما يجعل اللاعب الحقيقي عسكريا في مواجهة الحلف الأطلسي هو روسيا.
خامسا، الاستعراض الكبير للقوة العسكرية التي حققت تقدما كبيرا خلال السنوات الأخيرة سواء أنظمة الدفاع الصاروخي إس 400 وإس 500 أو الصواريخ المجنحة وتلك العابرة للقارات علاوة على التقدم الكبير في المقاتلات من ميغ وسوخوي وكذلك المقنبلات الاستراتيجية مثل تو 160 التي كانت تنطلق من شمال روسيا لتمر عبر كل أوروبا الغربية سواء الأطلسية أو المتوسطية بل وتصل إلى فنزويلا، وهي رسالة عسكرية واضحة بقدرة روسيا على ضرب الغرب من أي جهة.
كل هذه العوامل رفقة أخرى، تدفع روسيا إلى فرض الواقع السياسي عبر التهديد العسكري المباشر في حالة أوكرانيا من خلال حشد أكثر من 150 ألفا من الجنود المدججين بمختلف الأسلحة بل والتهديد بضرب العاصمة كييف. وكان تصريح الرئيس بوتين دالا عندما قال منذ أسبوعين «تطور الصواريخ الروسية وسرعتها تسهل ضرب من يتخذ القرارات في كييف في ظرف خمس دقائق». ويدرك الغرب خطورة تهديد بوتين، فقد قال مدير المخابرات الأمريكي ويليام بارنس مؤخرا «روسيا وضعت 175 ألفا من قواتها واستعداد غير عادي في صفوف مخابراتها مما يسمح لها بالتحرك العسكري ضد أوكرانيا خلال يناير المقبل». ومن جانبه، صرح وزير الدفاع الأوكراني أولكسي ريزنيكوف أن الهجوم الروسي قد يحصل نهاية كانون الثاني/يناير المقبل.
ووجدت روسيا التبرير الرئيسي لمثل هذه التدخلات وهو حماية المواطنين الروس أو الذين هم من أصول روسية، وهذا منصوص عليه في الدستور الروسي. وارتباطا بهذا، فقد بررت موسكو تدخلها في جورجيا بالدفاع عن الأقلية الروسية، كما استعملت التبرير نفسه في شبه جزيرة القرم، والآن تلجأ إلى التبرير نفسه في حالة أوكرانيا بالدفاع عن المناطق الشرقية لأوكرانيا والتي حتما ستنضم إلى روسيا مثل شبه جزيرة القرم. ويتعلق الأمر بمنطقتي
لوغانسك ودونيتسك، حيث يوجد أكثر من 500 ألف أوكراني من أصول روسية ويحملون جواز السفر الروسي، ولن تتخلى عنهم موسكو. وتعد هذه الأقلية في حالة أوكرانيا من ضمن عناصر تفجير الصراع لأنها أقامت قوات خاصة بها في مواجهة المركز كييف. عموما، لقد تحولت الأقلية الروسية في الجمهوريات السوفييتية السابقة إلى ما يشبه سيف ديموقليس في يد موسكو ضد مطامح هذه الجمهوريات بالانضمام إلى الغرب.
ولا تتفاوض موسكو مع أوكرانيا بل تتفاوض مع الغرب مباشرة، حيث أجرى الرئيس الأمريكي جو بادين ونظيره الروسي بوتين مؤخرا مناظرة عن بعد دامت زهاء ساعتين ولم تنته بالاتفاق حول أوكرانيا بل زادت من تصميم الكرملين بالضغط العسكري. وخلال الجمعة من الأسبوع الجاري، قدمت موسكو إلى الغرب شروطها/مقترحاتها من أجل تهدئة الأوضاع مع أوكرانيا وتتجلى في: مطالبة الولايات المتحدة والحلف الأطلسي بـ «منع أي توسع إضافي لحلف شمال الأطلسي وكذلك إنشاء قواعد عسكرية أمريكية في الجمهوريات السوفييتية السابقة».
يدرك الغرب أن هذه الشروط صعبة للغاية ولكنها السبيل الوحيد لتجنب غزو روسي لأوكرانيا أو على الأقل عدم ضم روسيا لمناطق أوكرانية. ونقلت وكالة «فرانس برس» عن مسؤول أمريكي كبير الجمعة من الأسبوع الجاري قوله «نحن مستعدون لمناقشة هذه الوثائق حتى لو تضمنت أشياء معينة يعرف الروس أنها غير مقبولة» مضيفا أن الولايات المتحدة ستقدم «الأسبوع المقبل اقتراحا ملموسا في شكل أكبر» بشأن صيغة النقاشات بعد التشاور مع حلفائها الأوروبيين. وعلقت جريدة «فيدوموستي» الروسية السبت من الأسبوع الجاري أن الغرب دائما يحاول التغليط بشأن المقترحات الروسية أمام الرأي العام العالمي، علما أن هذه المرة تضمنت عدم نشر أسلحة نووية بالقرب من روسيا.
في غضون ذلك، لا يمكن فهم تحرك روسيا وبهذه الحدة إلا إذا تم الأخذ بعين الاعتبار عددا من العناصر التي يراها الكرملين رئيسية لمستقبل البلاد وهي:
أولا، تنطلق روسيا من تجربة مرة وهي استغلال الغرب فترة تفكك الاتحاد السوفييتي ومرحلة الفوضى التي مرت منها البلاد. لكي يقوم بضم عدد من دول المعسكر الشرقي أو ما كان يعرف بحلف وارسو للاتحاد الأوروبي مثل بولونيا وهنغاريا بهدف محاصرة روسيا بشكل كبير. وليس من الغريب أنه في عز الأزمة الحالية يقول بوتين منذ أيام «لقد قمنا بتطهير الإدارة الروسية من عملاء المخابرات الأمريكية الذين تسربوا لها إبان التسعينات وعملوا على إضعافها».
ثانيا، تعتبر أوكرانيا خطا أحمر لأن نجاح الغرب في ضم هذا البلد إلى حظيرة منظمة شمال الحلف الأطلسي، يعني التفكير في ضم جمهوريات سوفييتية سابقة تقع في آسيا إلى صفوف هذا التجمع العسكري، وستصبح روسيا محاطة بقواعد عسكرية غربية.
ثالثا، الأزمة الحالية تتجاوز الملف الأوكراني رغم أهميته، فالأمر يتعلق بشكل كبير بمستقبل روسيا والمكانة التي ستحتلها وسط الكبار خلال العقود الأخيرة هل ستبقى في هذا النادي أم ستغادره. إذا فقدت روسيا السيطرة على أوكرانيا، ستصبح دولة ثانوية في المسرح العالمي أمام كل من الصين والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي خاصة وأنها لا تمتلك قوة اقتصادية عكس الثلاثة المذكورين بل تمتلك القوة العسكرية فقط.
لقد نجحت القيادة الروسية في فرض. سياسة الأمر الواقع عسكريا في كل جورجيا وجزيرة القرم وسوريا، ولن تتردد في تكرار السيناريو في أوكرانيا أمام عجز تام للغرب، حيث قال الرئيس الأمريكي بايدن «العمل العسكري غير مطروح على الطاولة في حالة أوكرانيا» أي الاكتفاء الدعم السياسي وتقديم أسلحة للجيش الأوكراني والعقوبات الاقتصادية ضد روسيا.
تدرك روسيا أن لا مجال للتراجع في الملف الأوكراني، فهذه المرة يتعلق الأمر ليس فقط بأمنها القومي بل بمستقبل مكانتها في الساحة العالمية ضمن نادي الكبار، ولهذا ستفرض الأمر الواقع بفرض شروطها سلما أو حربا.