غرق الفرقاء السياسيون اللبنانيون في دوامة من العجز في مقاربة الأزمة الطاحنة التي تعصف بالبلد، وتحوِّل السواد الأعظم من مواطنيهم شعباً متسولاً، ينتظر المساعدات الإنسانية الخارجية، وخاضعاً لصدمات ارتفاع يومي لأسعار أبسط مقومات العيش، ومأزق فقدان الأدوية والمحروقات والطاقة الكهربائية.
فاستمرار الفراغ الحكومي الذي يحول دون معالجة الأوضاع الحياتية المأساوية، والذي يشترط المجتمع الدولي إنهاءه لتقديم المساعدة المالية من أجل إعادة التأهيل البنيوية للاقتصاد المنهار، مرشح للاستمرار بعد اعتذار زعيم تيار "المستقبل" سعد الحريري، عن مهمة التأليف جراء انسداد الأفق السياسي على مدى تسعة أشهر من تكليفه بتشكيل الحكومة خلافاً لإرادة رئيس الجمهورية ميشال عون، إلا إذا أفضت الأيام الفاصلة مع الاستشارات النيابية الملزمة، التي دعا عون إليها الاثنين 26 يوليو (تموز)، إلى الاتفاق على اسم شخصية يمكنها تأليف الحكومة.
اللبنانيون أضاحي وبري ضد الاستفزاز
في وقت بات اللبنانيون أضاحي العيد الكبير الذي حل عليهم في أسوأ ظروف يعيشونها في تاريخهم، تواجه القوى السياسية المعنية بتسمية الرئيس المكلف تأليف الحكومة وفي طليعتها الرئيس عون وحليفه "حزب الله" معضلة البحث عن شخصية تتمتع بمقبولية في وسط الطائفة السنية، نظراً إلى أن الحليف الثاني للحزب رئيس البرلمان نبيه بري آل على نفسه الامتناع عن تأييد أي شخصية لا تتمتع بغطاء سني كافٍ، بما يعني استبعاده منذ البداية قيام حكومة من لون واحد تستفز المكوّن السني، منعاً لتكرار تجربة الحكومة المستقيلة برئاسة حسان دياب.
فبري كان طالب الحريري قبل اعتذاره الذي لم يكن متحمساً له، أن يسمي البديل منه إذا كان سيعتذر، استباقاً لاحتمال الوقوع في ورطة ترؤس من لا يرضى عنه الزعيم الأقوى في السنة ورئيس أكبر كتلة نيابية سنية، الذي يتمتع بتأييد دار الفتوى والمجلس الشرعي الإسلامي ورؤساء الحكومات السابقين. إلا أن الحريري قال إنه لن يسمي وإنه لا اتفاق بينه وبين بري على أن يسمي البديل منه. وأوضحت مصادر بري أنه طالب الحريري بذلك، لكن هذا لا يعني حصول اتفاق على هذا الأمر. فبري يرفض الخيار الذي طرحه رئيس "التيار الوطني الحر" صهر الرئيس عون، النائب جبران باسيل، بتشكيل الحكومة حتى لو لم يحظَ من يقع عليه خيار ترؤسها بتأييد كتلة الحريري النيابية التي تضم أكثرية النواب السنة، بحجة أن الحريري كُلِّف بترؤس الحكومة على الرغم من أن كتلتي نواب "التيار الحر" ونواب حزب "القوات اللبنانية" اللتين تضمان أكثرية النواب المسيحيين، لم تسميانه لتولي رئاسة الحكومة، وبالتالي افتقد تكليفه إلى الميثاقية.
وقائع الاعتذار تستبعد الاتفاق
قبل اعتذار الحريري كان التوجه لدى بعض الأوساط أنه يجب أن يتم وفق اتفاق مسبق على المرحلة اللاحقة يتيح سرعة في ملء الفراغ الحكومي، لكن هذا الأمر كان من سابع المستحيلات. فالاجتماع الأخير بين عون والحريري، في 15 يوليو، الذي انتهى إلى اعتذار الأخير لم يترك مجالاً لإمكان تساهل زعيم "المستقبل"، وجرت معاملته بطريقة هي أشبه "بالطرد"، وفق تعبير مصدر سياسي بارز اطلع على فحوى المحادثة التي جرت بين الرئيسين. فالحريري أبلغ عون أنه مستعد لإعطاء فرصة يوم إضافي لعون من أجل أن يدرس التشكيلة الحكومية التي قدمها إليه، لكن الأخير أجابه "ما في لزوم ترجع بكرا". وحين أبلغه عون باعتراضه على تلك التشكيلة لأنه يريد تغيير كل الأسماء المحسوبة عليه وسيسمي الوزيرين المسيحيين الإضافيين (يكسبه الثلث المعطل الأمر الذي ترفضه الكتل النيابية) وأنه يريد الحصول على حقيبة وزارة الداخلية من حصته، قال له الحريري "أنت تقول لي اعتذر"، فأجابه عون "تفضّل اعتذر".
أسقط ذلك أي أمل بإمكان التفاهم على ما بعد الاعتذار، كان بري يتمنى حصوله سواء بتسمية الحريري بديلاً منه، أو باستعداده لتأييد التركيبة الحكومية التي ستأتي من بعده، بمنحها الثقة في البرلمان. وعلى الرغم من أن بري أبلغ من التقوه عشية عيد الأضحى خيبة أمله من الوقائع الصدامية التي انتهت إليها علاقة عون بالحريري، فأبلغ من التقوه أنه لن يتدخل في السعي من أجل توافق على الشخصية البديلة، فإنه ما زال يأمل أن يبلغه الحريري باسم شخصية مقبولة منه حتى لو كان لن يسميها في الاستشارات النيابية. وهو أمر يتحفظ عليه الأخير لأنه إذا أعطى اسماً بديلاً منه بعد الذي حصل يكون سلم بإبعاده من قبل "التيار الحر" الذي أفرح باسيل. كما أنه إذا سمى شخصية ما ثم أخضعها الفريق الرئاسي للعراقيل نفسها التي خضع لها هو يكون تعرض لصفعة ثانية.
حفلت الساعات الماضية على الاعتذار بالوقائع الصادمة التي تشي بأن ما بعد تنحي الحريري لا يعني تهدئة للصراع السياسي، الذي ينظر إليه الدبلوماسيون الأجانب في بيروت على أنه قمة الإنكار والبعد عن معاناة الناس. ومن هذه الوقائع ما كشفه عضو كتلة بري النيابية، النائب حسن قبيسي، بقوله إن "آخر اقتراح للرئيس بري حول تسمية الوزيرين المسيحيين (اللذين أصر عون على تسميتهما كإحدى عقد التأليف) كان بوضع أسماء أربعة مطروحة وسحب قرعة... والحريري وافق أما الطرف الآخر فرفض".
لا اتفاق على تسمية الرئيس المكلف
بعض خصوم عون يرى أن التسريبات عن أنه كان ينوي الموافقة على الحكومة لكن الحزب رفض، تهدف ربما إلى تبرئته من مسؤولية إجهاض الحكومة مرة جديدة لتجنب استمرار الضغوط الدولية على فريقه في المرحلة المقبلة. ولهذا السبب حدد موعداً للاستشارات النيابية الملزمة الاثنين المقبل، نتيجة إلحاح العواصم الكبرى في البيانات العلنية التي صدرت عنها (واشنطن وباريس وبروكسل وموسكو) على وجوب تشكيل الحكومة بأسرع وقت ومن دون تأخير. والموعد تحدد من دون اتفاق على اسم الشخصية التي ستتولى تأليف الحكومة، على الرغم من قول مصادر الرئاسة إن تشاوراً سيتم خلال عطلة العيد وأواخر الأسبوع بين قادة الكتل النيابية لهذا الغرض. فكل ما يتسرب من أسماء مرشحة حتى الآن هي إما لحرقها وإما من أجل رصد ردود الفعل عليها، إذ لا اتفاق على أي منها.
وفي وقت تقول أوساط قيادية مقربة من باريس إن الأخيرة استمهلت حين سئلت عن رأيها بالشخصية التي يمكن أن تتولى المهمة، يقول سياسيون متصلون بـ"حزب الله" إن الأخير بات مكبلاً بحلفه مع عون- باسيل إذا أصر الأخير على تسمية شخصية خاضعة لمشيئته، لكن يتم تسهيل تشكيلها الحكومة من دون ثلث معطل ومن دون رفضها في الاشتراك بتسمية الوزراء المسيحيين. الأمر الذي كان مرفوضاً للحريري. فهذا سيحمل بري على رفضها. والأخير كان أبلغ من يلزم، أنه إذا كان هذا هو التوجه "فليشكلوا حكومة لوحدهم".