بقلم الفنان والروائي هيسم شملوني
لم يكن مركباً من فولاذ، ولا درعه كان من نار. كان مجرد قارب صغير، تئن ألواحه تحت وطأة المدى، وتحمل في قلبها رغيفاً لأم تنتظر، حبة دواء لعين مطفأة، ووشاحاً أبيض يلوح لطفل لم يعرف من الدنيا إلا ظل الطائرات.
قارب تخفق أشرعته من لهفة الوصول، محملاً برسائل حب، وحلم هش بالحياة.
أبحر المركب من ميناء الحرية حيث لا تنام الشمس، يحمل على متنه نشطاء من قارات بعيدة، من ضمير لم يرض أن يرى مدينة محاصرة كقلب يتيم، جاؤوا لا ليرموا حجارة، بل ليكسروا صمت العالم.. وعلى متنه، لم يكن ثمة سلاح، سوى كلمة. لا رصاص، سوى دموعٍ حارة اختلطت بملح البحر. لا رايات، سوى عيونٍ تحدق في الجنوب، تنتظر أن تنشق الغيوم. أرادوا أن يصلوا إلى غزة لا كفاتحين، بل كأخوة، يحملون خبزاً وقلباً مفتوحاً، في وجه الحصار.
لكنهم، أولئك المتخمون بالكراهية، لم يحتملوا فكرة أن يصل الحب إلى الشاطئ. لم يحتملوا أن يرى طفل في غزة زورقاً يلوح له لا ليقتله، بل ليعانقه.
لم يحتملوا فكرة أن يصل النور إلى شاطئ اعتادوا تغطيته بالدخان.
فأوقفوا المركب في عرض البحر، واعتقلوا كل من عليه، بلا خجل، بلا قانون. إلا قانونهم المبني على الإجرام والإبادة.
ظنوا أنهم يمزقون إرادتهم كما مزقوا الأجساد في الشجاعية، في رفح، في جنين.
وأنهم ينوون أن يغرقوا المركب.. كما يغرقون الحقيقة كل يوم.
نزعوا الكاميرات، وهددوا النشطاء، وحاولوا أن يكبلوا الأيادي التي امتدت بالخبز والدواء.
وساقوا المركب كما تساق الغنائم، نحو مرافئ الاحتلال.
لم يكن ذلك القارب تهديداً عسكرياً، بل كان تهديداً لأكاذيبهم، لخطابهم الممجوج عن "الدفاع عن النفس"، وهم لا يكفون عن قصف أطفال ينامون في أحضان أمهاتهم.
لكنهم لم يدركوا أن خشب القارب إذا ابتل بماء بحر غزة المالح وبدم الشهداء، يصبح شراعاً لا يكسر.
وأن البحر إذا احتضن قلباً حراً، لن يسلمه إلا إلى الحرية.
غزة، المدينة التي تخنقها الجدران والأسلاك البحرية، لم تكن تطلب المستحيل. كانت فقط تنتظر صوتاً يأتي من البعيد، يقول: "لستم وحدكم".
لكن الاحتلال، كعادته، لا يحتمل الشهود، ولا يقبل الشرفاء.
لذلك كتم الصوت، وسجن الكلمة، وجر القارب كما تجر الضحية إلى مقصلة الإعدام و الإعلام الصامت.
ورغم ذلك، لم يهزم المركب.
لأن كل من حاول أن يصل إلى غزة، صار مرآة تكشف قبح هذا العالم الأعمى.
وكل من اعتقل من أجل أن يمد يده نحو الحياة، صار شاهداً على جريمة لن تسقط بالتقادم.
وإن حاول الاحتلال إغراق المركب.. فإن الحكاية والحقيقة لا تزال تطفو.
وتبقى غزة، رغم الحصار، تقول للعالم:
"لن توقفوا البحر..
لن تسجنوا الموج..
ولن تغلقوا القلوب المفتوحة."
"فما زال في القلب متسع لمركب آخر..
ما زال في البحر متسع للأمل."