السبت 23 تشرين الثاني 2024

كيف سينعكس التقارب الروسي - الأميركي على لبنان مقابل تعاون فرنسا وإيران؟

وليد شقير  كاتب وصحافي

خضم أزمته المصيرية والخلافات العميقة بين أركان طبقته السياسية، وخضوعه للصراعات الدولية والإقليمية، تطل على لبنان مرحلة من التحولات الخارجية تحتاج وقتاً كي تتبلور وتتضح، بحيث تساعد في رسم ما ستؤول إليه المعالجات للمأزق الذي وقع فيه البلد الصغير، وشعبه الذي بلغ وضعه المعيشي مرحلة مزرية غير مسبوقة.

ومع نيل الحكومة الجديدة برئاسة نجيب ميقاتي ثقة البرلمان وسط ضجيج المداخلات التي شهدتها الجلسة النيابية لمناقشة بيانها الوزاري، تتعدد القراءات السياسية لدى المراقبين والأوساط السياسية للمعادلة الخارجية والداخلية التي حكمت إنهاء الفراغ الحكومي الذي دام زهاء 13 شهراً، والتي ستحيط بدور الحكومة الجديدة.

العامل الخارجي في لبنان والتفاهم الفرنسي – الإيراني
واعتبر مراقبون أن التوافق الفرنسي - الإيراني هو الذي أدى إلى تشكيل حكومة ميقاتي، وأن باريس التي تعمل على صوغ تفاهمات مع إيران ضغطت من أجل قيام أي حكومة، حتى لو كانت معايير تأليفها مختلفة عن تلك التي تضمنتها مبادرة الرئيس إيمانويل ماكرون، على اعتبار أن ذلك أفضل من بقاء البلد بلا حكومة، مع تأييد الجانب الأميركي لهذا التوجه منعاً لانهيار البلد نهائياً بحيث يصعب لملمة أشلائه لاحقاً.

ولا بد من أن ينعكس التقارب الفرنسي - الإيراني على الصعيد الإقليمي وعلى لبنان بحيث تستفيد طهران منه لترسيخ نفوذها.
ومن القراءات أيضاً ما يعتبر أنه مثلما طغت التناقضات الداخلية في المرحلة السابقة فمنعت تأليف الحكومة، فإن الحسابات الداخلية للفرقاء المختلفين والتدهور المريع في الأحوال الاجتماعية للبنانيين دفعا الطبقة السياسية وخصوصاً الطرف النافذ والأقوى فيها إلى إنهاء الفراغ، لا سيما أن البلد مقبل على انتخابات نيابية بعد ثمانية أشهر، في ظل حاجة كل الفرقاء إلى استعادة ما فقدوه من شعبية جراء تحميلهم مسؤولية الأزمة التي أطلقت حركة احتجاجية واسعة في 17 أكتوبر (تشرين الأول) عام 2019، نسفت التحالفات الانتخابية السابقة وأخذت تهدد موازين القوى التي تبقي على الزعامات التقليدية وأنتجت الأكثرية الحالية في البرلمان.

القراءة الثالثة والخلاف الأميركي - الفرنسي

وبين القول بطغيان العامل الخارجي والتفاهمات الدولية والإقليمية، والاعتقاد بأن العامل الداخلي هو الذي كان له الأثر الأكثر فاعلية في تشكيل الحكومة، هناك قراءة ثالثة ترى أن الساحتين الدولية والإقليمية تشهدان تطورات تنذر بفرز جديد قد ينعكس سلباً على لبنان جراء الانكفاء الأميركي عن الشرق الأوسط وأوروبا، لأن أولوية واشنطن التوجه نحو منطقة المحيط الهادئ لمواجهة التمدد الصيني عالمياً، لا سيما بعد الأزمة الكبيرة بين الولايات المتحدة وفرنسا إثر إلغاء أستراليا عقد التزود بغواصات فرنسية لمصلحة عقد آخر مع بريطانيا وأميركا للتزود بغواصات تعمل على الطاقة النووية، لتعزيز قدرات أستراليا في مواجهة توسع الصين في منطقة المحيط الهادئ، وهي أزمة تجمع الصحافة العالمية والأوساط الدبلوماسية على عمقها، بدليل رد فعل باريس العنيفة والإجراءات التي اتخذتها باستدعاء سفيريها في الولايات المتحدة وأستراليا، وإلغائها زيارة ماكرون إلى نيويورك للمشاركة في القمم الدولية المتعلقة بمعالجة عدد من الأزمات العالمية، وما سيتبع ذلك من تأثير سلبي على العلاقة الفرنسية - الأميركية التنافسية في منطقة الهند الصينية، وعلى العلاقة الأميركية - الأوروبية لا سيما بعد الانسحاب الأميركي غير المنسق بشكل وثيق مع الحليف الأوروبي، سواء ثنائياً أو في إطار حلف شمال الأطلسي (ناتو)، وللتأزم أثر بالغ وسلبي على الصعيد الإقليمي، وعلى لبنان في نظر أصحاب هذه القراءة.

"التعب" الدولي من لبنان

إلا أن كل القراءات لما يحيط بلبنان من تحولات خارجية تجمع على مسألة واحدة هي أن الدول التي اهتمت بمساعدة لبنان بلغت مرحلة "التعب من هذا البلد"، وهو ما يعبر عنه الدبلوماسيون الغربيون في لقاءاتهم سواء في لبنان أو في المنتديات في الخارج، إذ سئموا من ترداد القيادة السياسية اللبنانية والفئة الحاكمة المعزوفة نفسها عن أن سبب الأزمة هو الإرث الذي تركه من سبقها إلى الحكم بدل الانكباب على تنفيذ الحلول الإصلاحية المعروفة من الجميع والتي لم يتم الإيفاء بوعد تطبيقها منذ سنوات، كما أن اهتمامات العالم سواء في الأزمات الإقليمية أو العالمية في مكان آخر، أقلها مستقبل الصراع الأميركي - الصيني وما يرتبه على الصعيد الدولي، ولا سيما الانسحاب الأميركي من الشرق الأوسط، فضلاً عن مواجهة تداعيات جائحة كورونا على الاقتصاد العالمي، واتساع رقعة الدول التي تعاني المجاعة جراء الحروب أو التغير المناخي.

تعارض مواقف واشنطن وباريس حيال إيران

إلا أن دعوة بعض الأوساط إلى رصد مفاعيل الصراع الأميركي - الفرنسي المستجد على الصعيد الإقليمي وبالتالي اللبناني، تستند إلى تقديرات بأن تقدم الصراع الأميركي - الصيني كمقياس للتحالفات أو الانقسامات الدولية يؤدي إلى فرز بين الدول الكبرى في الشرق الأوسط وأوروبا، قوامه تعاون فرنسي - إيراني على الرغم من التفاهم بين واشنطن وباريس في ملفات دولية عدة، مقابل تصاعد حظوظ تفاهم روسي - أميركي نتيجة مؤشرات عدة.
وإذا كانت واشنطن تلاقت في المرحلة السابقة مع الموقف الفرنسي والأوروبي بالإصرار على المسار الدبلوماسي في التصدي لملف إيران النووي، فإنها تفضل أن يتم ذلك في ظل استمرار الضغوط عليها كي تعدل موقفها الرافض في مفاوضات فيينا، لمناقشة البندين المتعلقين ببرنامجها للصواريخ البالستية ووجود قواتها العسكرية في سوريا ودورها في اليمن ودور "حزب الله"، قبل رفع العقوبات عنها، لكن فرنسا أبدت انفتاحاً على إيران سواء في العراق أو في لبنان، وتقاطعت المصالح الفرنسية - الإيرانية في الآونة الأخيرة في شكل مطرد، حيث ينظر إلى توقيع شركة "توتال" عقداً للتنقيب عن الغاز في العراق بقيمة 27،5 مليار دولار، على أنه أحد الأدلة على ذلك، فيما وافقت باريس في لبنان على حصول حليف "حزب الله" الرئيس ميشال عون على اليد الطولى في حكومة الرئيس ميقاتي باستحواذ فريقه على الثلث زائداً واحداً فيها، بحيث يمكنه التحكم بقراراتها أو إقالتها، كما أن واشنطن تنظر إلى اعتراض باريس على العقوبات التي تفرضها على إيران وامتناعها عن تصنيف "حزب الله" منظمة إرهابية، على أنه موقف "ساذج".
استعراض نقاط التباين الفرنسي - الأميركي في الشرق الأوسط، التي سبقت الخلاف الكبير على إلغاء صفقة الغواصات الفرنسية لأستراليا، يشير إلى أن هناك تراكماً ضمنياً لخلافات كامنة جاءت أزمة الغواصات لتتوّجها، خصوصاً أنها تؤشر إلى إبعاد باريس عن التحالف الغربي العريض في "الباسيفيك"، حيث لها مصالح تاريخية سواء عبر الروابط الفرنكوفونية مع عدد من الدول المهمة مثل فيتنام، ولها قواعد عسكرية في عدد من دول المنطقة وتسعى إلى تعزيز علاقاتها مع الهند، ليكون لها دور وسطي في الصراع الأميركي -الصيني.

التقارب الأميركي - الروسي في سوريا

لكن في المقابل، فإن مؤشرات التقارب الأميركي - الروسي في الشرق الأوسط مقابل التفاهمات الفرنسية -الإيرانية تتنامى في نظر عدد من المحللين، منها الموقف في ما يخص سوريا والتقاطع في الموقف من النفوذ الإيراني في سوريا ووجوب الحد منه، حيث تسلم الإدارة الأميركية بنفوذ موسكو فيها وبإدارتها لأزمتها، فضلاً عن قبولها باستحواذ الجانب الروسي على حقوق في النفط والغاز واستثمارات أخرى في الأراضي السورية
وشهدت الآونة الأخيرة تركيزاً دبلوماسياً روسياً على ضرورة الانتقال السياسي في سوريا وفقاً لقرار مجلس الأمن الرقم (2254)، الأمر الذي تصر عليه واشنطن. وتجري محادثات دورية على مستوى الخبراء بين وزارتي الخارجية في البلدين حول سوريا، ومن نافلة القول إن موسكو وواشنطن تتوافقان على حفظ مصالح إسرائيل في سوريا، إن لجهة مخاوف الأخيرة من وجود إيران على حدودها ونقلها الصواريخ إلى "حزب الله"، أو لجهة ترسيخ نفوذها الاقتصادي والسياسي على نظام بشار الأسد.

وترصد أوساط عدة احتمال انسحاب القوات الأميركية الموجودة في شرق الفرات على أنه استحقاق قادم في سياق الانكفاء الأميركي من المنطقة أسوة بتركها أفغانستان، في إطار التفرغ لما تعتبره "الخطر الصيني"، وهذا يحتاج إلى تنسيق مع القيادة الروسية صاحبة اليد الطولى في سوريا، في ظل الحديث عن أنه مقدمة لمطالبة موسكو لطهران بالانسحاب من سوريا في مقابل الانسحاب الأميركي، فالجانب الروسي يكرر مطلب انسحاب القوات الأجنبية التي لا تحضر هناك بإذن من الأمم المتحدة، كما قال الرئيس فلاديمير بوتين قبل أسبوعين أثناء استقباله الرئيس بشار الأسد، لكنه لطالما راهن على إمكان الضغط لانسحاب إيران في حال تم الانسحاب الأميركي.

التمايز الروسي مع إيران وفرنسا

يذكر أصحاب هذه القراءة عناصر أخرى حول التمايز الروسي – الإيراني، منها أن طهران تتجه في كل مرة يلوح في الأفق إمكان خفض توتر علاقتها مع واشنطن نحو استجلاب استثمارات غربية، إما أميركية أو فرنسية لشراء طائرات تجارية من طراز "بوينغ" أو "إيرباص" متجاهلة التحالف مع موسكو على مدى السنوات الماضية، كما أن المنافسة العالمية في ميدان النفط والغاز تثير حفيظة موسكو إزاء توجه إيراني نحو بناء معامل تسييل الغاز بتكنولوجيا فرنسية بدل الاستعانة بالخبرة الروسية، واللافت أن موسكو مثل واشنطن تعاطت مع الجهود الفرنسية التي بذلت على مدى سنة ونيف من أجل التوصل إلى حلول في لبنان على أنها "ساذجة" أيضاً، ولطالما لاحظ الدبلوماسيين الروس أن باريس "تتوهم" قدرتها على تحقيق نتائج جراء ممارسة ضغوط على الفرقاء اللبنانيين، على الرغم من تأييد موسكو، مثل واشنطن، مبادرة ماكرون حول تشكيل الحكومة اللبنانية منذ 1 سبتمبر (أيلول) 2020 والإصلاحات المطلوبة.

الاعتراف الأميركي بمصالح روسيا الأوروبية

إلا أن المتابعين لمزيد من التناغم الأميركي - الروسي ينسبون عوامله إلى مصالح أبعد من الشرق الأوسط ولبنان، وتحديداً في أوروبا وآسيا الوسطى، فابتعاد موسكو عن القطب الصيني يشكل مصلحة مشتركة لها ولواشنطن، لأن بكين تشكل منافساً استراتيجياً للدب الروسي عالمياً، فتعاون الدولتين في مناهضة السياسات الأميركية يبقى سارياً في ظل غياب توافق روسي - أميركي، لكنه ينتظر أن يضمحل مع بوادر توافق بين موسكو وواشنطن على التسليم بمصالح روسيا في أوروبا ودولها الشرقية خصوصاً، بما فيها غض النظر عن استعادة الأولى سيطرتها على شبه جزيرة القرم في مقابل التقارب حول الموقف من تنامي النفوذ الصيني في آسيا والعالم، وتكرس هذه القراءة المعادلة القائلة بأن مقابل التقارب الفرنسي -الإيراني يتجه العالم نحو تحالف أميركي - روسي له نتائجه على الصعيد الإقليمي، ولا بد من أن ينعكس على لبنان في المرحلة المقبلة، وإن لم تتبلور مظاهر هذا الانعكاس بعد، كما أن المرحلة المقبلة ستشهد تزاحماً أميركياً - فرنسياً قد يفرض نفسه على الساحة اللبنانية.