رفيق خوري رئيس تحرير سابق وعضو فى مجلس نقابة الصحافه واتحاد الكتاب اللبناني
لا مُعلّم أفصح من محنة. ولا شيء يكشف الشعارات وازدواجية المواقف أكثر من تجربة السلطة. بعد عشر سنين من "ثورة الياسمين" وجدت تونس نفسها في أخطر محنة: أسوأ أداء سياسي في ظل أرقى دستور. وأكبر تهديد للثورة والديمقراطية باسم الثورة والديمقراطية، لكن المحنة مزدوجة، حيث الوجه الخاص بتونس، والوجه العام المشترك بينها وبين المنطقة. في الوجه الخاص، عجزُ التركيبة الحاكمة عن معالجة البطالة وتقديم الخدمات ومواجهة جائحة كورونا وتنشيط الاقتصاد والسياحة، واندفاعها في نهب المال العام، وتوالي الانقسامات في الأحزاب وسيادة الأنانية والفردانية، وتنامي الفساد. وفي الوجه العام المشترك ألعاب السيطرة الكاملة على السلطة من جانب حركة "النهضة"، برئاسة راشد الغنوشي، والتي هي جزء من "التنظيم العالمي للإخوان المسلمين". وما فعله الرئيس قيس سعيد بعد أن اشتدت المحنة هو اللجوء إلى "الصدمة الدستورية" للخروج من المحنة: تفعيل المادة 80 من الدستور التي تمنح رئيس الدولة سلطة استثنائية حين يكون هناك "خطر داهم" على البلد. فلا حل حكومة هشام المشيشي الذي رفض بدعم من "النهضة" مطالبة سعيد له بتغيير "وزراء الفساد"، وجعل "قصر القصبة" في مواجهة "قصر قرطاج"، هو "انقلاب على الثورة" كما ادعت "النهضة"، ولا تعطيل المجلس النيابي والحصانات لمدة شهر، بعد أن حوّله رئيسه الغنوشي إلى موقع للتسلط على قصري قرطاج والقصبة، هو "اعتداء على الديمقراطية". ولا فتح التحقيقات القضائية الجدية في نهب 4.7 مليار دولار، والتمويل الأجنبي لحركة "النهضة" وحزب "قلب تونس" كما في اغتيال قادة المعارضة من جانب "الجهاز السري" التابع لحركة "النهضة"، هو "تسلط رئاسي" على النيابة العامة.
ذلك أن ما بدأ في تونس وانتشر في المنطقة خلال ما سمي "الربيع العربي" مرشح لأن تكون نهايته في تونس. ما بدأ كان حراكاً شعبياً عفوياً للمطالبة بالخبز والحرية وإسقاط الأنظمة الشمولية، تدخل فيه تحرك مخطط له قادة "الإخوان المسلمين" للسطو على الثورة وإقامة أنظمة شمولية ثيوقراطية. وكل ذلك وسط رهان خبيث لإدارة الرئيس باراك أوباما على دعم الإسلام السياسي، وبالذات "الإخوان المسلمين". لماذا؟ ما كشفت عنه الوثائق والدراسات في مراكز الأبحاث هو ثلاثة أمور أساسية في تقديرات الإدارة الأميركية: أولها، أن الأنظمة المسماة جمهورية في العالم العربي صارت مهترئة ولا يمكن أن تصمد. وثانيها، أن وصول "الإخوان المسلمين" إلى السلطة يحول دون وصول التيارات الأصولية الإرهابية المتشددة. وثالثها، أن ما يريح أميركا التي ستخفف وجودها في الشرق الأوسط للتركيز على الشرق الأقصى والصين وروسيا هو إقامة توازن بين قوى سنية تحكم تونس وليبيا ومصر والسودان وسوريا بقيادة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وحزبه الإسلامي "العدالة والتنمية"، وبين قوة شيعية في إيران والعراق واليمن ولبنان بقيادة الملالي، ومعهم اتفاق نووي ورفع عقوبات.
لكن هذه الخطة فشلت لحسن الحظ. أولاً في مصر، حيث قام الجيش والشعب بثورة أسقطت حكم "الإخوان المسلمين". ثم في ليبيا، حيث عجز "الإخوان" عن التسلط الكامل في حرب أهلية. ثم في تونس، حيث اضطرت "النهضة" للمشاركة مع القوى العلمانية. أما في سوريا، فإن التدخل العسكري الروسي أنهى حلم "الإخوان" في التحكم بالبلد. وأما السودان، فإنه تحرر بثورة شعبية انضم إليها الجيش من حكم البشير الإخواني. وموقع أردوغان وحزبه يهتز في تركيا. وسيطرة "النهضة" على تونس لم تعد ممكنة.
والواقع أن الغنوشي سمع أجراس الإنذار ثلاث مرات. جاء الأول من مصر بسقوط "الإخوان"، فأوحى الغنوشي أنه تعلم الدرس، وأحنى رأسه للعاصفة. وجاء الثاني في الانتخابات الرئاسية حين فاز قيس سعيد، أستاذ القانون الدستوري واللاحزبي، بأكثرية ساحقة على منافسه عبدالفتاح مورو، نائب رئيس "النهضة"، لكن الغنوشي تصور أنه قادر على الاستمرار في التخطيط لأخذ السلطة. أما الإنذار الثالث فكان ضربة على الرأس قام بها الرئيس سعيد سبقها حراك شعبي جديد ضد الحكومة و"النهضة"، أحرق مراكز للحزب الإخواني، ودعا إلى إسقاط المجلس والذهاب إلى انتخابات نيابية مبكرة.
رهان أوباما سقط. وسيطرة الغنوشي لم تخفف، بل أسهمت في تنامي التيار الأصولي المتشدد، بحيث كانت تونس أكبر مصدر لمبايعي "داعش". وتونس استعادت نفسها بالصدمة الدستورية، لكن التحديات أمامها هائلة على الطريق إلى ما قال سعيد إنه "تصحيح مسار شامل للثورة".