على الصالح. كاتب. فلسطينى
ضربتان موجعتان تلقتهما إسرائيل في غضون أسبوع واحد، ولا أود المبالغة إلى حد القول إنهما هزتا إسرائيل، لكن يمكن القول بأريحية إنهما أثارتا المخاوف، وتسببتا بإزعاج كبير لدولة الاحتلال وقادتها ومحلليها السياسيين، وأصحاب الرأي فيها.
كشفت هاتان الضربتان كم هو هش هذا العدو، رغم امتلاكه أكبر ترسانة أسلحة في الشرق الأوسط، ويعتبر القوة العسكرية الخامسة في العالم.
علاوة على ذلك فهو يمتلك ترسانة من الأسلحة النووية والدمار الشامل، وكل هذا لا يشعره بالاطمئنان على مستقبله. والواقع أننا نحن من يشعره بقوته وجبروته، ويسعى البعض للحصول على رضاه ومساعدته. والمثل يقول «مين فرعنك يا فرعون قال: ما لقيت حدا يردني». وهذا هو حالنا، فلم نسع لوقفه عند حده، ولم نستخدم وسائل الردع المتوفرة لدينا وهي كثيرة.
الضربة الأولى جاءت من عقر دار الحليف الأكبر، من الكونغرس الأمريكي. وجاءت الضربة الثانية من بريطانيا المسؤولة عن كل الخراب والمشاكل والأزمات في العالم، وتحديدا من مدينة برايتون الجنوبية، التي استضافت الأسبوع الماضي مؤتمر حزب العمال الأول بحضور شخصي بزعامة كير ستارمر، الذي ورث زعامة الحزب من جيريمي كوربين، الذي لم يأت لا من قبله ولن يأتي من بعده زعيم بريطاني يقف إلى جانب الحق الفلسطيني.
الضربة الأولى التي لم تدم طويلا ولفتت انتباه قادة دولة الاحتلال، وأثارت لديهم مخاوف حقيقية هي، التغييرات التي تشهدها الولايات المتحدة ليس في الكونغرس فحسب، بل تلك التي تعكس تغيرات على صعيد عامة الناس، لاسيما صفوف الشباب زعماء المستقبل. فقد اهتز زعماء دولة الاحتلال وأصحاب الرأي فيها ومحللوها العسكريون عندما نجحت مجموعة صغيرة من أعضاء الكونغرس الشباب من الحزب الديمقراطي الحاكم، في إعاقة تمرير دعم مقداره مليار دولار ضمن الميزانية العامة لتمويل مشروع القبة الحديدية في إسرائيل، لتعويض آلاف الصواريخ التي استخدمت خلال العدوان الإسرائيلي، في مايو الماضي، على قطاع غزة، وأسفر عن استشهاد نحو 266 فلسطينيا معظمهم من الأطفال والنساء، وإصابة الآلاف وتدمير آلاف الوحدات السكنية. ورغم أن مشروع القرار نجح بأغلبية كبيرة بعد فصله عن الميزانية. كان قادة الحزب الديمقراطي يتوقعون أن يتم تمرير مشروع قانون الموازنة بدون معيقات، لكن تضمينها بند الدعم لإسرائيل بمليار دولار لتعويض ترسانتها من صواريخ القبة الحديدية، دفع ثمانية نواب من الحزب الديمقراطي، الرافضين أصلا لمبدأ الدعم العسكري لدولة الاحتلال، إلى التهديد بالتصويت ضد مشروع الموازنة، إذا لم يحذف هذا البند. وأبرز هؤلاء ألكسندرا أوكاسيو كورتيز.. أصغر نائب في الكونغرس عن ولاية نيويورك، وتعود أصول أجدادها حسب الإعلام الإسرائيلي إلى اليهود، الذين فروا من محاكم التفتيش في إسبانيا، لكن ذلك لم يمنعها من أن تكون مناصرة بقوة لحركة مقاطعة إسرائيل (BDS). وكوري بوش عن ولاية ميسوري، وهي ذات أصول افريقية، وآيانا بريسلي عن ولاية ماساتشوستس وهي أيضا من أصول افريقية، ورشيدة طليب وهي أول فلسطينية ومسلمة تدخل الكونغرس عن ولاية ميشغان، وأخيرا إلهان عمر وهي أول لاجئة مسلمة في الكونغرس عن ولاية مينيسوتا. ويطلق عليهن لقب عصابة الخمس الداعمة بقوة للحق الفلسطيني. ودعمهن ثلاثة اخرون من الحزب الديمقراطي وهم، هنري جونسون عن ولاية جورجيا، وماري نيومان عن ولاية الينوي، وراؤول غريجالا عن ولاية أريزونا، وأعلن معارضته لمشروع القرار توماس ماسي الجمهوري عن ولاية كينتاكي عن الحزب الجمهوري، ومعارضته ليست نابعة من تأييده للفلسطينيين، بل معارضته لأي دعم أمريكي للخارج، وتتهمه إسرائيل بمعاداة السامية. ويعتبر الدبلوماسي الإسرائيلي السابق ألون بينكاس في مقال له في صحيفة «هآرتس» «أن أزمة عرقلة التمويل، تشير إلى نهاية العهد الذي كان فيه الموقف من إسرائيل أمرا لا خلاف عليه بين الحزبين. وقال «إن قوة المعارضين في الحزب الديمقراطي صغيرة، لكن يجب عدم غض الطرف عن تصاعد تأثيرهم في الجدل السياسي داخل الحزب، وفي توسع قاعدتهم في صفوف الناخبين الديمقراطيين».
الخوف الإسرائيلي، نابع من المستقبل الذي ستزول فيه الوجوه البالية في الكونغرس، لتحل محلها وجوه شابة لا يخيفها التهديد بتهمة معاداة السامية
ويحذر من أن التغيير في الأجيال في الولايات المتحدة حوّل العلاقة بين أمريكا وإسرائيل إلى قضية من المقبول انتقادها بعكس الماضي، وهذا ليس جيدا، لكنه بات واقعا.
وفي صحيفة «غلوبس» حذّر المعلق السياسي داني زاكين من أن أعضاء الحزب الديمقراطي التقدميين، باتوا أكثر قوة من أي وقت مضى، وعرقلتهم للمساعدات لإسرائيل هي مجرد بداية. وأضاف: «ما حدث هو مؤشر على القوة التي تتمتع بها هذه المجموعة الصغيرة، وإسرائيل تخشى الآن من أن يلحق تعاظم قوة هؤلاء، ضررا بالدعم الأمريكي لها». ويقول زاكين إن السيدات الخمس لا يشكلن قوة كبيرة حاليا، لكن حاجة الحزب الديمقراطي لكل صوت في الكونغرس تمنحها تأثيرا أكبر من حجمها. وينقل عن مسؤول كبير في الحزب الديمقراطي قوله، إن قوة التقدميين تتركز في الجيل الشاب في الحزب، خاصة أبناء الأقليات من الأمريكيين من أصول افريقية وإسبانية.. وهذه المجموعة برأيه تشكل خطرا على إسرائيل. أما لاهاف هاركوف فأشارت في صحيفة «جيروزاليم بوست» إلى أن أزمة الدعم الأمريكي لإسرائيل انتهت، بإخراج بند الدعم عن الموازنة والتصويت لصالحه بأغلبية ساحقة، لكن المشاكل التي ستخلقها «العصابة» لإسرائيل ستتواصل. وتشير هاركوف إلى أن قادة الحزب التقليديين أمثال نانسي بيلوسي وستيني هوير وتشارلز شومر، يتقدمون في السن، ويقتربون من التقاعد، أما كورتيز وطليب وعمر فلا يزلن في بداية حياتهن السياسية. وتكمن مشكلة إسرائيل أمام هذه «العصابة» الصغيرة، ليس في قوة صوتها فقط، بل في ضعف قادة الحزب الديمقراطي أمامها. وهنا يكمن الخوف الإسرائيلي، فهو ليس نابعا من تأجيل التصويت على قرار دعم مالي، بل من المستقبل الذي ستزول فيه كل الوجوه البالية، التي أكل الدهر وشرب في الكونغرس، لتحل محلها وجوه شابة لا يخيفها التهديد بتهمة معاداة السامية، وجوه شابة منفتحة تعرف عن القضية الفلسطينية وتدعمها وتؤيد BDS.
ومن واشنطن إلى لندن عاصمة كل الأزمات في العالم، وهي المسؤولة الأولى عن مصائب الفلسطينيين ومعاناتهم، منذ وعد بلفور قبل أكثر من قرن، وترفض الإقرار بجرائمها ضد الشعب الفلسطيني ومسؤوليتها الأخلاقية والتاريخية، ولم تحاول الاعتذار له أو مساعدته في استعادة بعض من حقوقه. فقد صوت أعضاء حزب العمال بأغلبية واضحة، رغم معارضة قيادة الحزب، في مؤتمرهم الذي اختتم أعماله لصالح قرار مؤيد وداعم لفلسطين تقدم به تجمع «شباب العمال» في الحزب. وقال جواد خان أحد قادة هذا التجمع، وهو يقدم مشروع القرار، إنه يقربنا أخيرا خطوة نحو وضع حد لقرن من التواطؤ المشين، وإنكار حق تقرير المصير والتحرر والعودة للشعب.
وينص القرار على أن حزب العمال في مؤتمره العام يدين «النكبة المستمرة في فلسطين، وهجوم إسرائيل العسكري على المسجد الأقصى، والتهجير المتعمد في الشيخ جراح وحرب إسرائيل على غزة». ويرحب القرار «بتحقيق المحكمة الجنائية الدولية في جرائم إسرائيل». كما أشار المؤتمر إلى قرار صادر عن مؤتمر النقابات العمالية في عام 2020 وصف فيه نشاط إسرائيل الاستيطاني بأنه جزء من «جريمة الفصل العنصري» (الأبارتايد) التي ترتكبها إسرائيل في الأراضي المحتلة، داعيا نقابات العمال في أوروبا، وكل أنحاء العالم «للالتحاق بالحملة الدولية لوقف ضم الأراضي وإنهاء نظام «الأبارتايد». ودعا أعضاء المؤتمر، إلى وضع معايير صارمة على النشاطات التجارية مع إسرائيل، تشمل حظرا على بيع الأسلحة البريطانية لإسرائيل، التي تستخدم في انتهاك حقوق الإنسان في فلسطين، ومنع التجارة غير الشرعية مع المستوطنات الإسرائيلية في الأراضي المحتلة، وبالوقوف إلى الجانب الصحيح من التاريخ والاعتراف الفوري بدولة فلسطين. وهذا قرار لا يستهان به لكونه آت من القاعدة الشبابية في الحزب، رغم التغيير الذي شهدته قيادة الحزب بخروج كوربين من زعامته، وقدوم ستارمر الذي يعتبر من أشد المؤيدين لإسرائيل، لا نتمنى له إقامة سعيدة وطويلة في منصبه، وأن يخلع من منصبه بعد فشل حزبه المتوقع في الانتخابات المقبلة في غضون سنة ونصف السنة.
ونختتم بالقول إن كل ما تقدم رغم أهميته يبقى في إطار العوامل الإيجابية والمساعدة والداعمة للنضال الفلسطيني، وحقوق الشعب الفلسطيني في التحرر من الاحتلال وتحقيق الاستقلال وبناء الدولة المستقلة ذات السيادة الكاملة على ثرواتها وعاصمتها القدس الشرقية بحواريها وبلدتها القديمة وأقصاها وقيامتها. وهذا طبعا لن يتحقق إلا بالاعتماد على الذات والطاقات والقدرات الذاتية وبناء المؤسسات العصرية والإعداد للمعركة الحاسمة المقبلة لا محالة ومواجهة مخططات الاحتلال ومستوطنيه بكل الوسائل المتاحة.
كاتب فلسطيني من أسرة «القدس العربي