السبت 23 تشرين الثاني 2024

عالم يجمعه خيط الرأسمالية المهلهل


مالك التريكي
لا  صحة للقول الذي شاع منذ بضع سنين بأن الغرب كان واهما عندما ظن أن الحرب الباردة كلّلت بانتصار الحضارة الغربية. بل إن الواقع المشهود منذ ثلاثة عقود هو أن الحضارة الغربية قد نجحت، سواء بفضل التخطيط القصدي أم بفعل التأثير والتأثر الناجمين عن ولع المغلوب بالاقتداء بالغالب، في تعميم النظام الرأسمالي على كامل الإنسانية، باستثناء نسبي هو كوريا الشمالية التي يقوم اقتصادها على رأسمالية الدولة. وقد أدى تعميم الرأسمالية إلى تعميم ثنائي العقيدة الإنتاجوية، التي تكرّس لانهائية الإنتاج والنمو، والثقافة الاستهلاكية التي تسلطت على الإنسان فحوّلته إلى كائن لاهث يركض ركض الوحش في البرّية. إلا أن الرأسمالية ليست شرا كلها، بالطبع، لأنها ليست محض استنفاد لموارد الطبيعة واستفراغ لما هو إنساني في الفرد والمجتمع. بل إنها دشنت، بعد تسارع وتيرة الثورة الصناعية، عهدا غير مسبوق في تاريخ البشرية من النمو الاقتصادي والتنمية الاجتماعية، حيث تحسنت المعيشة، على نحو مشهود من أواخر القرن 19 حتى ثمانينيات القرن الـ20، لتبلغ حالة الرفاه والرغد في أوروبا وأمريكا الشمالية. كما أنها انتزعت منذ ثلاثة عقود مئات ملايين البشر من براثن الفقر في بلدان العالم الثالث وأوروبا الشرقية.
أما الصين، فهي الدولة الرأسمالية الأولى! ليس بمقياس السبق التاريخي طبعا (لأن البواكير ظهرت في البندقية)، بل بمقياس انقلابيّة التحول وسرعة الصعود. وأهم ما يجدر التذكير به هو أن تطور الرأسمالية قد اقترن منذ عصر النهضة الأوروبية بظهور مفهوم براءة الاختراع وحقوق الملكية الفكرية والفنية الذي ابتكره فنانون وعلماء عظماء من أمثال دافنتشي وغاليليو لكنهم مارسوه بأقصى درجات المادية والجشع. بل إن الأكاديمي العربي جورج صليبا قد تفرّد، دون الباحثين جميعا، بتفسير تعطل البحث العلمي الإسلامي بداية من القرن الـ15 بخلوّ حضارتنا من هذا المفهوم الذي كان له الفضل في إنشاء حالة «الدائرة الفاضلة» (نقيض الدائرة المفرغة)، أي ضمان الاعتماد، بل الاغتذاء، المتبادل بين البحث العلمي والاستثمار الاقتصادي في الحضارة الغربية. وبتبيان هذه العلاقة السببية قدم صليبا، في كتاب «العلوم الإسلامية وقيام النهضة الأوروبية»، أدق تعليل لبدء المسار التاريخي المتمثل، منذ خمسة قرون، في تناقض المصائر بين الحضارتين الإسلامية والغربية.

الرأسمالية ليست شرا كلها، بالطبع، لأنها ليست محض استنفاد لموارد الطبيعة واستفراغ لما هو إنساني في الفرد والمجتمع

إذ رغم أن الصين هي البلاد الوحيدة التي يحكمها حزب شيوعي لا يزال يعتمد الماركسية مرجعا، كما حرص الرئيس سي جين بينغ على التذكير أخيرا، فإنها المثال الأسطع على نجاح الرأسمالية في تحويل بلاد من الفقر إلى الثراء في فترة تاريخية قياسية: حوالي أربعة عقود فقط منذ تولي ملهم النهضة الصينية دنغ كسياوبنغ القيادة عام 1979. فقد كان معدل دخل الفرد في الصين قبل ذلك لا يتجاوز 30 دولارا في السنة (!) كما أن حوالي خمسين مليون نسمة قضوا جراء «المجاعة الصينية الكبرى» من 1958 إلى 1961. وبما أن عدد ضحايا القمع السياسي المباشر يتراوح هو أيضا بين عشرين مليونا وثلاثين مليونا، فقد انعقد بين المؤرخين اتفاق واسع على أن السفاح الأكبر في القرن العشرين ليس هتلر أو ستالين، كما قد يظن، وإنما هو ماو تسي تونغ.
كان لا بد إذن من التذكير بأن التعميم الطوفاني للرأسمالية، بعقيدتها وثقافتها (دون أخلاقيتها الأولى التي كانت في الأصل أخلاقية عمل، لا سخرة مثلما هو الحال الآن)، إنما هو انتصار للحضارة الغربية ومسبقاتها الذهنية. لماذا؟ لأن القائلين بعدم انتصار الغرب إنما يقصدون، حصرا، عدم انتشار نموذج الديمقراطية الليبرالية. وهذا صحيح. فقد تأكد خطأ المثقفين والساسة الغربيين الذين كانوا يظنون أن انتشار الاقتصاد الحر، أو ما يسمونه اقتصاد السوق، سوف يؤدي حتما إلى مزيد من التحرير السياسي، أي أن الليبرالية الاقتصادية لا بد أن تفضي إلى الليبرالية السياسية. وهذا ظن لم يكن له من سند سوى اقتران الليبراليّتين أو تجاورهما في التجربة الغربية من جهة، والتفاؤل (الموروث عن الماركسية!) بأن التراكم الكمي لا بد أن يؤدي إلى تحول نوعي من جهة ثانية.
ولست من المشتركين في خدمات منصة نتفليكس  الشهيرة ولا أعرف من أمرها شيئا، إلا أن من المصادفات أني لمحت، أثناء كتابة هذه السطور، مقالة في عناوين الصحف عن مسلسل من كوريا الجنوبية يبدو أنه قد شاهد حلقاته ما لا يقل عن 111 مليون مشاهد في بلدان مختلفة من العالم. وقد أثار المسلسل ضجة لأنه يصور تنافس مئات من العاطلين والمثقلين بالديون في ألعاب يحرز فيها الفائز مئات الملايين بينما يتعرض الخاسرون للقتل! وواضح أن هذه «الديستوبيا» أمثولة عن الدرك الذي يمكن أن تنحط إليه الرأسمالية إذا انفلتت من عقالها القانوني والأخلاقي: الارتكاس بالبشرية إلى حالة ما قبل المجتمع التي وصفها هوبز، أي إلى حالة الطبيعة: العالم غاب ظلم وظلام، والمعيشة فيه «كريهة، بهيميّة وقصيرة».
كاتب تونسي