محمد،كريشان. اعلامي ،تونسي
بكل غضب، تساءل كوميدي تونسي شهير: هل أصبح قيس سعيّد مقدّسا؟! وهل تحوّل إلى نبي؟!
هذا التساؤل الذي أطلقه لطفي العبدلّي مرده ما تعرض له من أنصار الرئيس من سب وشتم وتهديد بالقتل أو السجن بسبب لقطة فكاهية في برنامجه التلفزيوني تطرق فيها إلى سعيّد مع أنه سبق له أن تناول بسخرية الرئيس منصف المرزوقي والرئيس الراحل الباجي قايد السبسي وغيرهما دون أن يثير ذلك سوى الابتسامة.
لو توقف الأمر عند أنصار مفتونين بالرئيس ولا يطيقون نقده لهان الأمر قليلا لكن المشكل أن هذا المزاج المنتشر عند قطاع من التونسيين يقترن، أو بالأحرى يسير بشكل متواز، مع حالة «زعامة» تلبّست قيس سعيّد نفسه مع أن الرجل قدّم نفسه في البداية على أنه ابن الشعب الذي لا يريد الانتقال إلى القصر الرئاسي ويقف في الطابور لشراء رغيف خبز ويجلس في مقهى شعبي يحتسي القهوة مع الناس.
آخر ما تجلى في هذا الاتجاه ما بدا في احتفالات تونس الجمعة الماضية في مدينة بنزرت بعيد الجلاء فقد دخل الرئيس المدينة في موكب بأكثر من ثلاثين عربة، منها ما بدا أنها مصفحات عسكرية، موكب يقول التونسيون إنهم لم يشهدوا مثيلا له من قبل حتى مع الرئيس الراحل بن علي رغم خلفيته العسكرية والأمنية الكبيرة. كل ذلك مع لافتة علقت في المدينة بالمناسبة تمنحه لقب «القيصر» فيما كان مشهد منصة الاحتفال نفسه صادما وغير مألوف بالمرة: جلس الرئيس على كرسي في الصدارة مع مسافة تفصل بينه وبين بقية الحاضرين على يمينه وشماله فتحوّل إلى ما يشبه امبراطورا جالسا على عرشه.
تونس و«الرئيس الزعيم» قصة لم تبدأ اليوم فقد عاشت فصولها تماما مع «المجاهد الأكبر» الحبيب بورقيبة و«صانع التغيير» زين العابدين بن علي لكنه كان يُعتقد أن تلك صفحة طويت. ما كان الرئيس منصف المرزوقي أول رئيس بعد الثورة بهذا الشكل ولا الباجي قايد السبسي فالأول جاء من خلفية حقوقية نضالية والثاني لم يسع إلى ذلك رغم السعي المتزلف للبعض إلى الدفع في هذا الاتجاه.
الزعامة عند بورقيبة نحتتها تدريجيا شرعية تاريخية معروفة حتى استقرت على ما اشتهرت به، وعند بن علي سارت على مراحل مختلفة حتى انتهت إلى ما انتهت إليه من ابن المؤسسة العسكرية والأمنية ودواليب الدولة في مواقع مختلفة، بينما هي تتجه مع قيس سعيد في شكل صناعة سريعة مرتجلة ومتلهفة مع رجل لا تاريخ سياسيا له، لا بالمعنى النضالي ضد الاستبداد ولا بمعنى التجربة السياسية في مواقع مختلفة.
قد يقال إن قيس سعيّد ليس مسؤولا عن حالة «التأليه» التي يسعى إليها بعض أنصاره، ومن بينهم الكثير من بقايا النظام السابق والساخطون على الفترة السابقة، لكنه في كل الأحوال لم يعترض على ذلك
قد يقال إن قيس سعيّد ليس مسؤولا عن حالة «التأليه» التي يسعى إليها بعض أنصاره، ومن بينهم الكثير من بقايا النظام السابق والساخطون على الفترة السابقة ولاسيما على حركة «النهضة» ومن تحالف معها، واقتران ذلك بالوطنية مقابل العمالة، لكنه في كل الأحوال لم يعترض على ذلك. أكثر من ذلك، هو المسؤول الأول عن مناخ «صناعة الزعيم» منذ استحواذه على كل السلطات وتحصين نفسه من كل رقابة أو محاسبة مع إلغاء ما شاء من الدستور، دون أي سقف زمني لإجراءاته أو إعطاء أفق واضح لما يريد أن يقوم به وإلى أين يريد أن يأخذ البلاد.
ما يزيد من تفاقم هذا القلق محاولة بروز الرئيس نفسه زعيما منتشيا بهذه الصفة عبر تخوين مخالفيه وشتمهم، وكذلك حديثه «الثوري» عن السيادة الوطنية ورفض التدخل الأجنبي في الشأن التونسي، فضلا عن شعارات فضفاضة مثل «محاربة الفساد» دون مضامين واضحة أو مراعاة للأصول القانونية في إجراءات الاعتقال وظروف التحقيق وغير ذلك. ويزداد القلق أكثر عندما تصلك أخبار عن الدائرة الضيقة المحيطة بالرئيس وهي، بعد أن انفض من حوله كل مستشاريه تقريبا، دائرة عائلية أساسا، مع قلة لا تاريخ سياسيا لها ولا تجربة ومع ذلك تراها تحاول «هندسة» تونس جديدة على هواها.
في مناخ كهذا، ليس غريبا أن يجد قيس سعيّد تفهما ودعما ورعاية من قبل من سبق لهم أن رعوا في مصر انقلاب عبد الفتاح السيسي عام 2013 وأساسا الإمارات والسعودية المعروف ما الذي يطلبانه بالضبط مقابل دعمهما المالي الجاري الحديث عنه الآن، وهو ما سبق للرئيس قايد السبسي أن رفضه لأنه، كما قال، لا يقدر على دفع «الثمن الغالي» المطلوب.
يخشى أن يكون الزعيم الجديد في تونس نسخة غير مسبوقة، وإن كان فيها بعض الشبه من آخرين سبقوه في البلاد العربية، فقد تحدث زميله الجامعي الصغير الزكراوي عن أن قيس سعيّد «غير قادر على التعايش مع المنظومة القائمة بكل مؤسساتها» وأنه يريد «دستورا على المقاس يكون فيه الرئيس حجر الزاوية» مضيفا أنه يميل إلى القول إن «نظام الإمامة والذي يتمتع فيه الإمام بالعصمة هو الأقرب إلى قناعات ووجدان قيس سعيّد» (!!).
الطريف أن الزكراوي الآن تحوّل إلى أحد مؤيدي سعيّد!!