كتب رفيق خوري
كاتب مقالات رأي صحافي و
لبنان الغارق في كل أنواع الأزمات والسجالات والأسئلة والتفاهة يقف اليوم أمام سؤال مصيري: هل كان مغامرة معاكسة لطبائع الأمور في الشرق الأوسط وصلت إلى الجدار، أم أن "البلد-الرسالة" تجربة مرشحة لأن تكون نموذج المستقبل في المنطقة؟ وهل صار الوطن الصغير الذي أخذ مكانه ودوره عند تغيير الدول قبل مئة سنة محكوماً بأن يخسر رأسه وقت تغيير الدول في هذه الأيام؟ الجواب ليس واحداً، وسط رهان قوى على تحولات تتصور أنها لمصلحتها، وإصرار قوى أخرى على التمسك بجوهر لبنان وهويته. والمسألة تتجاوز نوع الجواب إلى القدرة على تحقيقه في ظروف بالغة التعقيد.
ذلك أن مشكلة لبنان منذ الولادة كانت ولا تزال مزدوجة: محلية بالطبع من جهة، وخارجية من جهة أخرى. والترابط بينهما يكاد يكتمل. الجانب المحلي من المشكلة يعود إلى نواقص في النظام، وخلل في إدارته، وعطب في المجتمع السياسي القائم على مجتمع طائفي، وعجز عن بناء دولة أقوى من أمراء الطوائف. والجانب الخارجي يبدأ من تأثر اللبنانيين بكل الأحداث والتيارات في المنطقة، ولا ينتهي بالربط الكامل للبنان بالصراعات في المنطقة وعليها. صحيح أن كل بلد عربي مرتبط بهذه الصراعات التي أبرزها الصراع العربي-الإسرائيلي، والصراع مع المشروع الإمبراطوري الإيراني، والتوجس حيال "العثمانية الجديدة" التي يلعب ورقتها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان على حساب العرب. لكن الصحيح أيضاً أن كل بلد عربي لديه حيز داخلي واسع يُدار بالإدارة الوطنية، بصرف النظر عن الارتباط بالصراعات الإقليمية. أما لبنان، فلم يبقَ لديه شيء داخلي، بحيث صار "بلا داخل" وكل شيء يتعلق بالخارج. حتى تأليف الحكومة، فإنه يتم أو لا يتم تبعاً للحسابات الخارجية، لا بل إن رئيس الجمهورية يُؤتى به على قياس الظروف الخارجية.
لبنان الذي اعتبرته البلدان العربية "دولة مساندة" في الصراع مع إسرائيل صار "دولة مواجهة" مع اندفاع المنظمات الفلسطينية إليه بحجة تحرير فلسطين، ثم الدخول العسكري السوري والاجتياح الإسرائيلي. حتى عندما بدأت مفاوضات التسوية للصراع، فإن دور لبنان في التسوية بقي مرتبطاً بالحل الشامل للصراع على كل الجبهات وبما سُميت "وحدة المسار والمصير" بين لبنان وسوريا. وكل المحاولات الداخلية لفك الارتباط بين أزمة لبنان وأزمة الشرق الأوسط فشلت، كذلك المحاولات الخارجية.
ويروي جورج شولنز في مذكراته تحت عنوان "اضطراب وانتصار: سنواتي كوزير للخارجية" أنه "رفض عرض مسؤولين وغير مسؤولين بينهم كيسينجر خطة قوامها: لا تدعوا مشاكل لبنان تطغى على ما عداها بل قدموا مشروعاً للشرق الأوسط". وقال "هذه فكرة سيئة: أزمة لبنان شيء وإيجاد تسوية لأزمة الشرق الأوسط شيء آخر". غير أنه فشل في النهاية. ويروي الرئيس بيل كلينتون في مذكراته "حياتي" أن الوزيرة مادلين أولبرايت قالت لرئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود باراك في مفاوضات شيبرز تاون، "السوريون أظهروا مرونة تجاه مطالبكم. لكنكم لم تقدموا شيئاً، فماذا تريد؟ كان جوابه: معاودة المفاوضات مع لبنان". وحين أُبلغ فاروق الشرع بالجواب قال "باراك ليس جدياً". وفشلت المفاوضات. والكل يتذكر كيف جرى اختراع مبرر لكي يحتفظ "حزب الله" بسلاحه بعد الانسحاب الإسرائيلي من الجنوب اللبناني، هو تظهير مشكلة اسمها مزارع شبعا، التي احتلتها إسرائيل من سوريا في حرب 1967. ومع أن الشرع قال في كتاب "الرواية المفقودة" إنه أبلغ الموفد الدولي تيري رود لارسون أن "مزارع شبعا لبنانية"، فإن دمشق رفضت تقديم الوثائق المطلوبة إلى الأمم المتحدة.
والتحدي الأكبر اليوم هو ربط الوضع اللبناني بالمشروع الإيراني في مواجهة العرب والغرب. طهران تضع بيروت بين العواصم العربية التي تقول إنها تحكمها. و"حزب الله" يقاتل في سوريا وله أدوار في العراق واليمن وغزة، ويمسك بكل مفاصل السلطة في لبنان. فالوطن الصغير يُراد له بالقوة المسلحة أن يكون في محور "الممانعة" الذي يقوده الملالي في إيران. ويراد له بالقوة السياسية أن يكون ورقة في يد طهران على طاولة المفاوضات النووية مع أميركا، بحيث تتحكم حسابات إيران حتى بتأليف حكومة واختيار رئيس وإيجاد مخرج من مأزق اقتصادي وسياسي. لكن اللعبة أشد تعقيداً من هذا التبسيط. فلا إيران هي اللاعب الوحيد في المنطقة، ولا لبنان متروك للنفوذ الإيراني من طرف العرب والغرب كما من طرف روسيا. ومن الوهم قراءة التحولات في الشرق الأوسط عبر كتاب واحد، وبالأحلام والخيال أكثر من الواقع