بقلم: مادالينا شيلانو
بعد اثنين وعشرين عامًا على استشهادها في رفح بقطاع غزة، تعود راشيل كوري لتتجسد من جديد، لا كذكرى عابرة في ضمير الإنسانية، بل كرمز حيّ للحقيقة التي يحاول الاحتلال الإسرائيلي والغرب إخفاءها تحت ركام النسيان.
في هذه الأيام، تزامن حدثان بارزان أعادا اسمها إلى الواجهة الدولية: إعادة فتح المحاكمة المدنية في حيفا بشأن مقتلها، وعودة عرض مسرحية «اسمي راشيل كوري» على خشبات الولايات المتحدة. حدثان يبدوان منفصلين في الزمان والمكان، لكن يجمع بينهما خيط واحد: المقاومة في وجه محو الذاكرة الفلسطينية سياسيًا وأخلاقيًا.
المحاكمة التي لم تردها إسرائيل
في السادس عشر من مارس عام 2003، كانت راشيل كوري، الشابة الأمريكية ذات الثلاثة والعشرين ربيعًا، تقف أمام جرافة عسكرية إسرائيلية تحاول منعها من هدم منزل فلسطيني في رفح. لحظات قليلة كانت كافية لتسحقها الجرافة تحت جنازيرها. أغلقت إسرائيل الملف سريعًا، ووصفت ما جرى بأنه "حادث في منطقة حرب”.
لكن عائلة كوري، مدعومة بمحامين ومنظمات حقوقية، لم تستسلم. وعلى مدى عقدين من الزمن، خاضت معركة قضائية طويلة في وجه جدار من الصمت والإفلات من العقاب. واليوم، في أكتوبر 2025، أعاد القضاء الإسرائيلي في حيفا فتح التحقيق بعد ضغوط متصاعدة من منظمات حقوقية إسرائيلية وفلسطينية كشفت عن تلاعب في الأدلة وتستر على المسؤولين العسكريين.
ليست القضية مجرد إجراء قضائي، بل تحدٍّ سياسي مباشر لما يسمى "الاستثناء الإسرائيلي”، ذلك الذي سمح للاحتلال طيلة عقود بالتصرف كقوة فوق القانون الدولي، تحت مظلة الحماية الأمريكية والصمت الأوروبي.
المسرح كمرآة للضمير
في الجهة الأخرى من العالم، وتحديدًا في الولايات المتحدة، أعادت فرقة بيرنينغ كول المسرحية عرض العمل الشهير «اسمي راشيل كوري»، المستند إلى رسائل الناشطة ومذكراتها، بإعداد الفنان الراحل ألان ريكمان والصحافية كاثرين فاينر.
المسرحية، التي مُنعت لسنوات في عدد من المسارح الأمريكية والبريطانية، تعود اليوم في توقيت بالغ الدلالة. ففي الوقت الذي تُبث فيه الإبادة الجماعية في غزة مباشرة أمام العالم، تعود كلمات راشيل لتدوي على المسرح، شاهدةً على ضمير لم يخن الحقيقة.
كتبت راشيل ذات يوم:
"كل بيت يُهدم هو عائلة تُمحى، وكل طفل يُقتل هو مستقبل يُغتال قبل أن يجد صوته.”
عبارتها هذه، بعد عقدين، تفضح نفاق العواصم الغربية التي تتحدث عن "وقف إطلاق نار مؤقت” و"حلول سلمية”، بينما تواصل تمويل آلة القتل وتوفير الغطاء السياسي لها.
مفاوضات زائفة وصمت متواطئ
في الوقت الذي تتغنى فيه الدبلوماسية الدولية بمصطلحاتها الملطّفة — "ممرات إنسانية”، "هدنة إنسانية”، "حق الدفاع عن النفس” — تواصل غزة نزيفها اليومي.
القوى التي تذرف الدموع على المدنيين، هي ذاتها التي تزوّد إسرائيل بالسلاح والتقنيات والدعم السياسي. وهكذا تتحول المفاوضات إلى أداة لتطبيع الإبادة الجماعية، وجعلها مقبولة ومفهومة ومؤقتة في الخطاب العالمي.
لقد فهمت راشيل كوري هذه المعادلة قبل أن تُقتل. أدركت أن اللغة الدبلوماسية ليست سوى غطاء لتجميل الجريمة، وأن السكوت الدولي شكل من أشكال المشاركة في الجريمة نفسها.
الذاكرة كفعل مقاومة
إعادة فتح محاكمتها وعودة عرض مسرحيتها لا يشكلان حدثين منفصلين، بل فعلين متكاملين من المقاومة الثقافية والسياسية. فبين القضاء والفن، تعود راشيل لتؤكد أن الحقيقة لا تموت، وأن الذاكرة قادرة على كسر الحصار.
لقد أصبحت راشيل كوري ضميرًا إنسانيًا عالميًا، يتجاوز حدود المكان والزمان. في كل مرة يُذكر اسمها، ترتجف منظومة الاحتلال وداعموها، لأن صوتها لا يزال يسائل العالم:
من يمنح الجلاد شرعية الحياة، ويمنع المقهور من حق البقاء؟
راشيل كوري لم تمت.
إنها حاضرة في وجوه أطفال غزة، في أنين الأمهات اللواتي ينقّبن بين الركام، وفي كل إنسان يجرؤ على قول الحقيقة في وجه القوة.