المقاوم صلبٌ عنيدٌ والمحتلُ مترددٌ ضعيفٌ
بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي
أثبتت التجربة الأفغانية الجديدة لنا ولغيرنا، أن المحتل دائماً في مواجهة المقاوم الصلب العنيد، الثابت الذي لا يلين، الواثق الذي لا يخاف، القوي في الميدان، والمقاتل على الجبهة، والجاهز أبداً والمتحفز دوماً، مترددٌ ضعيفٌ، مهزوزٌ يرتعش، يتراجع أمام الصمود، ولا يقوى على الثبات، ولا يستطيع فرض الشروط أو الاعتراض عليها، والمفاوضات التي خاضتها طالبان مع الإدراة الأمريكية السابقة، تشهد على عنادهم الإيجابي، وصبرهم المجدي، وثباتهم العملي، وحكمتهم البعيدة، ورؤيتهم الرشيدة، كما تشهد على مرونتهم بلا ضعفٍ، وعلى مناورتهم بلا تنازلٍ، وعلى تعنتهم العاقل وإصرارهم الواعي، مما حقق أهدافهم، وأوصلهم بنجاحٍ إلى غاياتهم.
تعلمون أن الذي فاوض طالبان وساومهم، ليس العاقل العجوز جو بايدن، وليست إدارته المسؤولة المختصة، التي تدير ملفاتها بحكمةٍ وعقلانية، وبعلميةٍ ومنهجيةٍ، وإنما الرئيس دونالد ترامب، المتغطرس المتكبر، المتعجرف المغرور، الأهوج المجنون، فهو الذي قدم لهم التنازلات، ونزل صاغراً عند شروطهم، واستمع صاغياً إلى عروضهم، وهو الذي أجابهم إلى ما طلبوا، والتزم أمامهم على ما وقعوا، ولعل الانتصار على المتعجرف يختلف، وكسر المتكبر وتمريغ أنفه بالتراب لا يشبهه نصرٌ آخر، ولهذا فلا تستصغروا ما فعلوه، ولا تستخفوا بما حققوه، ولا تبخسوهم انتصارهم، ولا تجردوهم من قدراتهم وإمكانياتهم.
مما يجب أن نتعلمه من تجربة حركة طالبان التفاوضية، إصرارهم المطلق على مطلبهم الوحيد غير القابل للتغيير أو التبديل، أو التعديل والتدوير، أو المساومة والتخيير، الذي كان هو مطلبهم الأول والأخير، منذ الجلسة الأولى للمفاوضات حتى آخر يومٍ فيها، على مدى ثلاثة سنواتٍ من عمر المفاوضات، وهو خروج القوات الأمريكية والأجنبية من البلاد، وتفكيك مقراتها، وإخلاء ثكناتها، وانسحاب كل المنتسبين إليها والعاملين معها، جنوداً وخبراء ومستشارين، ومتعاقدين وفنيين وإعلاميين وغيرهم، وهي القوات التي وصفوها بأنها قوات احتلال، وأصروا على أن تخرج من كل أفغانستان بلا شروطٍ مقيدة، وتتحرر منهم بلا عودة.
رفضت طالبان أن تخوض مع الأمريكيين في أي موضوعٍ آخر، أو أن تنتقل إلى ملفٍ جديدٍ، وقد حاول الأمريكيون إغراق الطاولة بعشرات الملفات الأخرى، وطالبوا بضماناتٍ وتسهيلاتٍ، وبالتزاماتٍ وتعهداتٍ، سواء مما له علاقة بهم، أو بما يمس حقوق الإنسان، والعلاقات مع دول الجوار، وشكل الحكم القادم وطبيعته، إلا أن حركة طالبان أمت آذانها عن كل المواضيع الأخرى، ورفضت النقاش فيها، وأصرت على الانسحاب الصريح والخروج الكامل، ورفضت إطلاق الانسحاب دون موعدٍ، ورفضت إطالة أمده، وأصرت على خروج الأمريكيين جميعاً في وقتٍ واحدٍ غير قابلٍ للتمديد أو الإرجاء، فلا يبق منهم بعد انتهاء موعده في البلاد أحد.
أصرت طالبان على تسمية ممثليها في التفاوض بنفسها، وجاءت بهم بالقوة من سجونهم في باكستان وغوانتانامو وبانجرام وكابل وغيرها، وفرضتهم جميعاً على الطاولة في مواجهة سجانيهم ومحتلي أرضهم، ورفضت الخضوع إلى التصنيفات الأمريكية أو التمييز بينهم، بين عسكريٍ وسياسي، ومعتدلٍ ومتشدد، ومقبولٍ ومرفوض، وقالت بأن هذا هو وفدها المفاوض، ولا يحق لأحدٍ أن يتدخل فيه تسميةً أو اعتراضاً، وفرضاً أو إقصاءً، ورفضت القبول بأي مرشحين جددٍ أياً كانت هويتهم أو الجهة التي اقترحتهم، أو أوصت بهم ونصحت بمشاركتهم.
حافظ ممثلو حركة طالبان خلال جلسات الحوار وجولات التفاوض، على سمتهم البسيط وهيئاتهم العادية، وعاداتهم الوطنية وأسمالهم الشعبية، ولم تبهرهم الفنادق والضيافات الفارهة والخدمات المميزة الرائعة، ولم يظهروا في بهوها يحتفلون، ولا في أروقتها يتسكعون، ولا في حدائقها يتنزهون، ولا في ملاعبها ومسابحها وساحاتها يلعبون ويسبحون، أو يلتقطون الصور وعلى الدراجات يتسابقون، بل بالغوا في إظهار زهدهم وعفافهم، فما قبلوا هدية ولا رحبوا بمنحة، ولا أظهروا ميلاً لدعةٍ أو جنوحاً لتسليةٍ، وبقوا جادين في حضورهم، ومشغولين فيما بينهم، حتى حار العدو والوسيط فيهم، كيف يغريهم أو يؤثر فيهم، أو يضغط عليهم ويضعفهم، إذ ما تركوا خلفهم اثراً يدينهم، ولا أتاحوا لهم الفرصة لأن يسجلوا لهم أصواتاً أو صوراً مشينة تسيئ إليهم، تمكنهم من ابتزازهم والتأثير عليهم، وتمرير ما يشاؤون من خلالهم.
حاول الأمريكيون نقل جلسات الحوار من العاصمة القطرية الدوحة إلى عواصم أوروبية متعددة، أو إلى عواصم عربية أخرى، وهيأت لهم الفرصة لعروضها وزينتها لهم، ولكن حركة طالبان أصرت على مواصلة الحوار في مكانٍ واحدٍ، وأصرت على أن يكون في قطر فقط، ورفضت كل الدعوات المباشرة لها أو عبر الأمريكيين، لنقل المفاوضات إلى أماكن أخرى، واعتبرت ذلك ترفاً لا لزوم له، وكان المفاوضون الأفغان يعودون إلى مقرات إقاماتهم السابقة التي كانت معدة لهم، وترفض المبيت أو الإقامة في أي فندقٍ أو مضافةٍ يجمعهم مع الأمريكيين، لئلا تجمعهم خارج أروقة الاجتماعات مع أيٍ من الأمريكيين لقاءاتٌ مصادفة، أو دردشاتٌ جانبيةٌ، وهو الأمر الذي كان يتمناه الأمريكيون ويخططون له، لكن المفاوضين الأفغان كانوا حذرين منه فلم يقعوا فيه.
لا نتكبر ولا نتعجرف، ولا نتعالى ولا نتفلسف، ولا نرفض الاستفادة ونعرض عن التعلم، فالحكمة ضالة المؤمن، أنَّى وجدها فهو أحقُ بها، فالإنسان يموت وهو يتعلم، ولو إلى الصين يرحل ليتعلم، ولا نتعامل مع الأفغان بماضيهم، ولا نحكم عليهم بما لم يعد فيهم، ولا نستخف بهم، ولا نقلل من شأنهم، ولنقبل جديدهم، ولنرحب بتغييرهم، ولنساعدهم على الثبات والمواصلة، والتطوير والمراكمة، ولنعترف بأن تجربتهم رائدة، وخبرتهم جيدة، ونصرهم يثلج الصدور ويسعدنا، ويحقق الكثير من أمانينا، فقد حققوا هدفاً رفعناه، وغايةً عملنا لأجلها، إذ طردوا الغرب والأمريكان من بلادهم، وطهروها من رجسهم، وأنقذوها من مكرهم، وبشرونا بغدٍ في بلادنا يشبههم، أفلا نفرح لهم ومعهم، ونتعلم منهم ونستفيد من تجربتهم.
بيروت في 29/8/2021
moustafa.leddawi@gmail.com