السبت 23 تشرين الثاني 2024

توطين الأفغان في بريطانيا مسألة معقدة


ماري ديجيفسكي
كاتبة صحافيه في إندبندنت مختصة في الشؤون الخارجية،  
الصور التي شاهدناها عن أشخاص يائسين محشورين في قناة للصرف الصحي قرب مطار كابول (في محاولتهم الجلاء من أفغانستان) قد بدأت تتغير وتحل مكانها صور أكثر سعادة لعائلات تصل إلى المملكة المتحدة تتنفس الصعداء لبقاء أفرادها على قيد الحياة وقد عبروا إلى بر الأمان. منظمات الإغاثة ومجالس البلديات المحلية (البريطانية) ضاقت مستودعاتها بحجم التبرعات العينية (التي قدمها المواطنون). بعض المباني لتأمين السكن لهؤلاء قد تم توفيرها. طريقة رحيل المملكة المتحدة عن أفغانستان ربما كانت مخزية، لكن هذه البلاد يمكنها من جديد أن تنعم بسيرة كرمها حيال هؤلاء ممن يحتاجون للمساعدة. فعملية "الترحيب الحار" Operation Warm Welcome (من يؤلف مثل هذه العبارات؟) قد انطلقت بكامل قوتها.
بين الحين والآخر يطلق أحدهم إنذاراً من هنا أو هناك. فالكرم قد يزول بعد انتهاء الأزمة الحالية، وتختفي أصداؤها من نشرات الأخبار. كيف توفرت فجأة أماكن الإقامة للعائلات الكبيرة، بينما انتظر كثيرون لسنوات على قوائم الانتظار للحصول على منازل يوفرها الضمان الاجتماعي؟  ومن أين ستتوفر المقاعد الدراسية لأبناء الوافدين الجدد؟ فالمواطن البريطاني العادي ينتظر دوره لثلاثة أسابيع قبل أن يحظى بموعد لزيارة الطبيب، ألم يقولوا لنا إن هيئة الخدمات الصحية الوطنية NHS تواجه ضغوطاً كبيرة للغاية؟
التقاليد الاجتماعية المختلفة مثل الموقف من المرأة ومجرد الجهل [عدم الإلمام] بكيفية القيام بأي عمل هنا، يمكنه أن يرفع من حدة التوتر على المستوى المحلي، الأمر الذي قد يزداد تعقيداً بسبب اختلاف اللغة. المملكة المتحدة تعد إلى حد ما بلداً متسامحاً، لكن جهودنا في إدماج الوافدين الجدد قد تبدو متذبذبة، وربما يتولاها هواة مقارنة لنقل مع دول مثل فرنسا وألمانيا.
لكن الوقت ليس وقت الحديث الفظ الآن. وليس في ما أقوله ما يدعو لرفع "السجاد الأحمر" المرحب  بالوافدين. فحري بالمملكة المتحدة أن تنجح في تقديم الأفضل. فالحياة بالنسبة إلى لاجئ وصل للتو، يجب أن تكون على شيء من الاستقرار وتوفر بيئة آمنة ومساعدة أكبر من المتوفرة حالياً. فتوفير تعليم اللغة الإنجليزية خصوصاً، يجب أن يكون أفضل ومتاحاً بشكل أكبر مما هو عليه حالياً، الأمر الذي يحتاج إلى إرادة سياسية، وتمويل.
لكن هذه الصعوبات ليست ولن تكون فقط بسبب البريطانيين ودولتهم المضيفة. فالصعوبات الأكبر بكثير سيتحتم على اللاجئين أنفسهم التعامل معها. المسكن الآمن ربما يكون على رأس الأولويات، ولكن ما يجري لاحقاً هو عادة ما يتم تجاهله. ففيما أنا أتابع هذه الجموع تضغط من أجل ركوب آخر الطائرات التي تغادر كابول، لم يسعني إلا أن أتساءل إن كان أي من هؤلاء سيندم على قراره (بالرحيل)، فكم منهم دفع للانضمام إلى عملية الهروب الجماعي بسبب الذعر الذي ساد من حوله، في أوقات تضاعفت خلالها، كما شعرت، التنبؤات القاتلة (القاتمة والمتشائمة) حول مستقبل أفغانستان التي هيمنت على التغطيات الإخبارية في وسائل الإعلام الغربية، وكم من هؤلاء ومع الوقت طبعاً، سيحاولون حزم أمتعتهم بحزن، عائدين هم وعائلاتهم محطمين بشكل لا يمكن إصلاحه. 
هذه الأفكار لم تكن وليدة الخبايا السوداء في مخيلتي، أو وليدة التاريخ الذي يكتب في هذه الأثناء، على الرغم من أن هذين العاملين قد لعبا دوراً في ذلك. فقد تولدت تلك الأفكار مما تعلمته عن تجربة زوجي الراحل، فهو كان طفلاً لزوجين من اللاجئين خلال الحرب العالمية الثانية، وقصته هي قصة ملايين الذين شردوا للأبد من أوطانهم بسبب القتال الذي دمر القارة الأوروبية.
والداه كانا أستاذين في الكيمياء، ولدا في أوكرانيا كمواطنين في روسيا القيصرية. لقد عاشا فترة الثورة البلشفية خلال سنين مراهقتهما، وعاشا المجاعة إبان حكم جوزيف ستالين الاستبدادي في نهاية العشرينيات من عمرهما، وأخيراً الاحتلال الألماني في عمر الثلاثين، قبل أن يتم أخذهما بالقوة إلى منطقة سوديتنلاند Sudetenland [السوديت انتزعها هتلر من تشيكوسلوفاكيا عام 1938] للعمل بالسخرة. وعندما قصف المصنع حيث كانا يعملان ودمر تماماً سارا باتجاه الغرب، وانتهيا في مخيم للاجئين أقامته القوات الأميركية في القطاع الذي احتلته قرب فرانكفورت. بعد عامين وبعد ولادة طفلهما، وصلا إلى الولايات المتحدة بعدما كفلهما أقرباء لهم كانوا قد هربوا بدورهم من الشيوعية في الجيل السابق.
في الظاهر، قد تبدو مسألة هجرتهما وكأنها قصة نجاح. كفيل العائلة كان قد أصبح مهندساً معمارياً مشهوراً في نيويورك. والد زوجي حصل على وظيفة فيدرالية في وقت لاحق، ووالدته أصبحت أستاذة جامعية. لكن كل هذا جزء بسيط من القصة. فهي تتجاهل السنوات الطويلة التي عاشاها على حافة خط الفقر، يعملان بوظائف هامشية وخطيرة، وتتجاهل أيضاً إقامتهما على أرض صغيرة في نيوإنجلاند، في مسعاهما للاعتكاف بعيداً عن العالم. كل ذلك يتجاهل أيضاً الضغوط التي عانياها للتوفيق بين كونهما فقراء وعلاقتهما بكفيلهما الغني، الذي ضغط على الوافدين الجدد من أقربائه للاتكال على انفسهما. ويتجاهل ذلك أيضاً النزاع الذي اندلع بين والد (زوجي) الذي سعى للاندماج وتعلم الإنجليزية وتحسين أوضاعه في المدينة ووالدته التي لم تكن تريد شيئاً من هذه البلاد الجديدة وسعت للاحتذاء على تقاليد حياة الريف الروسية على أمل العودة في يوم من الأيام (على الرغم من أنه لم يكن هناك ما قد تعود من أجله).
قصتهما تتجاهل الانهيار المر لزواجهما، وشعور ابنهما بعدم القدرة على الانحياز ليس فقط لأي منهما، بل أيضاً عدم قدرته على الاختيار بين تطلعين مختلفين إلى الحياة. القصة تتجاهل أيضاً الندوب التي خلفتها تجربة الحرب على شخصيتيهما، والد زوجي مثله مثل أي مهاجر من تلك الحقبة، نام وبقرب سريره فأساً، وشهد الاثنان ما تلا تدمير منطقة دريسدن Dresden  (الألمانية) بعد القصف العنيف والشامل والعشوائي عليها المعروف بالقصف البساطيcarpet-bombing . وتشير دراسات أجريت حول الناجين من المحرقة واللاجئين أن معاناة هؤلاء النفسية يمكنها أيضاً الانتقال إلى الجيل التالي.
وبالطبع، فإن قصتهما لا يمكنها إلا أن تتجاهل أي مسار آخر كان يمكن سلوكه. فبالنسبة إليهما، لم يكن الرحيل عن ديارهما مسألة اختيارية، فالعودة إلى "المنزل" كانت لتعني الموت أو العيش في مخيم للأشغال الشاقة، و في كل الأحوال لقد دمرت الحرب أغلب تلك المناطق الأوكرانية. ولا بد من الإشارة هنا أيضاً، أن مسألة أن يتوفر لأي كان كفيلاً يسهم في تدبير حق الإقامة في الولايات المتحدة بعد سنتين من انتهاء الحرب هو مصير لم يكن متاحاً لكثيرين. 
كان ذلك صعباً حتى بالنسبة إلى شخصين حصلا على شهادات جامعية، ووجود القريب الذي وفر شبكة أمان أساسية، كما كان ذلك ليكون قاسياً أيضاً، ولو كان الشخصان قادرين على الاعتماد على أنفسهما، ويشتركان مع كثير من الأميركيين الإرث الثقافي الأوروبي، على الرغم من ذلك، كان موقف الأميركيين ملتبساً تجاه الهجرة. فقسوة تأسيس حياة جديدة في منتصف العمر هو تحد لطالما بدا صعباً للغاية، من تعلم لغة جديدة وإدارة حياتك وفق أساليب جديدة. ولا تبدأ هذه الحال بالاستقرار لدى أغلب الناس إلا مع وصول الجيل الثاني، وهو السبب الأساس الذي يشير إليه هؤلاء لتبرير ما يدفعهم إلى مغادرة وطنهم الأم، وحتى في ذلك الوقت قد يبقى شيء من الشعور بعدم الأمان مهيمناً (على حياة الجيل الجديد).
استعرضت كل تلك الأمور خلال متابعتي الاندفاع الفوضوي نحو مطار كابول، والاستقبال المبتسم التي نظم للوافدين في صالات الوصول في مختلف أرجاء المملكة المتحدة. سيكون صعباً للغاية تأقلم من لديه عائلة والنجاح في البلد الجديد حتى ولو توفر التحصيل العلمي والحس الثقافي للبعض منهم. ومن يفتقر للعلم والمعرفة الثقافية، وهذا سيكون واقع حال كثير من الهاربين من أفغانستان، شأنهم شأن وافدين آخرين من دول أخرى، فحتى الاندماج بغض النظر عن تحقيق النجاح قد يكون صعب المنال.  
كمضيفين، أخشى أننا على استعداد للتفضل على لاجئي اليوم المستفيدين من توفر أمنهم وحريتهم كمحظوظين، يدخلون بلداً حيث سيعيشون سعداء إلى الأبد. البعض سيكون له ذلك. لكن بالنسبة إلى البعض وربما للغالبية، ستكون التجربة أكثر تعقيداً من ما يبرز من خلال هالة القداسة التي تحيط حاليا بـ "عملية الترحيب الحار".