الأربعاء 18 حزيران 2025

بين من شيّد في السماء ومن حفر في الأرض: قراءة في سباق العلو والعمق في الشرق الأوسط



  بقلم محمود غياض  النهار الاخباريه مقالات

خلال العقدين الماضيين، ازدحمت سماء الخليج بناطحات السحاب المتلألئة، وتسابقت بعض العواصم العربية نحو الأعلى: من "برج العرب" إلى "برج خليفة"، ومن مدن ذكية تحاكي الخيال إلى مشاريع عمرانية تخترق الغيوم. كان الصعود إلى السماء عنوانًا لطموح اقتصادي، ورغبة في التميز، واستعراضًا لمكانة عالمية مأمولة، وربما بحثًا عن مجد حضاري جديد في زمن ما بعد النفط.

في المقابل، وعلى الضفة الشرقية من الخليج، كانت هناك دولة تحفر عميقًا في الأرض: إيران. بعيدًا عن الأضواء، شيدت طهران منشآتها النووية في نطنز وفوردو داخل الجبال، على عمق عشرات الأمتار. لم يكن المشروع علميًا فقط، بل استراتيجيًا بامتياز. فما بنته إيران تحت الأرض لم يكن مجرد مفاعلات، بل بنية تحتية مُحصّنة ضد القصف، معدّة لصراع طويل الأمد مع خصومها الإقليميين والدوليين.

هذا التباين في الاتجاهين – نحو العلو أو نحو العمق – يجسّد رؤيتين مختلفتين للمستقبل. بعض الدول العربية استثمرت في الجذب السياحي والخدمات، وسعت إلى بناء صورة حديثة منفتحة على العالم. في المقابل، اختارت إيران أن تبني في الظل، وفق منطق "الردع والبقاء"، مستخدمة الحفر في الصخور كرمز للقوة والمواجهة.

ما فعلته إيران – بغض النظر عن الجدل السياسي والدولي المحيط به – أظهر استثمارًا طويل الأمد في أدوات القوة الصلبة، بينما اكتفت كثير من دولنا بالرهان على القوة الناعمة. نحن بنينا ما يُدهش الزائر، وهم بنوا ما يُقلق الخصم.

الحديث هنا لا يقلل من أهمية التقدم العمراني أو النهضة الحضرية، لكنه يطرح سؤالًا جوهريًا: هل نملك ما يحمي ما بنيناه؟ هل امتلكنا، إلى جانب البنية الفوقية، بنية تحتية للأمن والسيادة والاستقلال الاستراتيجي؟
في منطقة لا تحكمها فقط الجاذبية السياحية، بل موازين الردع أيضًا، تصبح المنشآت الصامتة تحت الصخور أحيانًا أكثر تأثيرًا من الأبراج المضيئة في السماء.

في الشرق الأوسط، لا يكفي أن نعلو. علينا أن نحفر – في الأرض، وفي الرؤية، وفي الإرادة.