السبت 23 تشرين الثاني 2024

المأساة التي تشهدها أفغانستان تظهر عدم جدوى الحلف الأطلسي

ماري ديجيفسكي
 كاتبه 
فيما كان زعماء مجموعة الدول السبع الغنية G7 يستعدون لانعقاد قمتهم الافتراضية هذا الأسبوع، ناشد رئيس الوزراء البريطاني علناً الولايات المتحدة من أجل تمديد فترة وجودها العسكري في أفغانستان إلى ما بعد موعد خروج قواتها النهائي المحدد في 31 أغسطس (آب). بدت تلك الدعوة وكأنها فكرة غير حكيمة. كان هناك كثير من الأسباب التي تظهر أن التمديد ما كان ليتم ومهما كانت فترته قصيرة.
كل الدول التي شاركت في عمليات الإجلاء من كابول كانت تعرف أن العمليات هذه كانت تتم في الوقت الضائع (وبشكل استثنائي جدا)، وكانت النتيجة المأساوية للتفجير المزدوج في المطار، إبراز نسبة الخطر التي تجري [العمليات] في ظلها. فالعمليات هناك استندت ليس فقط على الحماية التي أمنتها القوات العسكرية الأميركية بل أيضا ــ وبالرغم مما يحمله ذلك من إهانة على تعاون المنتصر أي حركة طالبان. الولايات المتحدة كانت قد وافقت على الموعد النهائي في أغسطس. وحتى لو سعى الرئيس جو بايدن للتلميح إلى إمكانية أي تغيير في ذلك الموعد لظهر ذلك وكأنه نوع من قلة الاحترام تجاه الحركة، التي تعتبر حاليا بمثابة الحكومة، والحساسة بشدة تجاه "حماية شرفها" [حفظ ماء الوجه] ولكان تصرفه (الدعوة للتمديد) مخاطرة كبيرة لا تحمد عقباها.
الدبلوماسية حتى للمبتدئين تنصح بضرورة عدم الطلب علناً، أي شيء وأنت على دراية أنك لن تحصل عليه. هذا ليس الانتقاد الأساسي لجونسون بعد طلبه الذي أجهض. بل إنه بدا متفائلاً جداً بحال العلاقات البريطانية الأميركية، مما يدفع إلى ضرورة بدء جولة جديدة من البحث الوجداني عن مصير "العلاقة الخاصة" المفترضة.  هل هي قائمة بالفعل؟ (فقط في عيون البعض، وإلى درجة كبيرة على شواطئ الأطلسي البريطانية تحديداً). وما الغرض منها إذا كان لا يمكن الاستناد بنجاح إليها في حالات الطوارئ؟ (ليس الكثير ــ وإطلاقاً إذا شعرت الولايات المتحدة الأميركية أن أمنها القومي كان مهدداً). وهل فعلا لدى المملكة المتحدة تأثيراً أكبر من غيرها من الحلفاء في واشنطن؟ (الأمر إلى تراجع) هل غيرت بريكست من توازن العلاقات، بشكل يجعل المملكة المتحدة في الوقت نفسه أقل فائدة وبحاجة للعون أكثر بالنسبة إلى الولايات المتحدة كجسر نحو بروكسل؟ (ربما)
كل هذه أسئلة مشروعة، والأجوبة عليها ستكون للمؤمنين بالعلاقات الأطلسية، محبطة للغاية.  ماذا جرى وهو متواصل في أفغانستان، يذهب أبعد من تلك "العلاقة الخاصة". فما جرى هو هزيمة مدوية لعشرين عاما من السياسات التي اندفعت مستخدمة (الهيكل) المعروف "بالغرب" منذ أيام الحرب الباردة وفرطت به فجأة.
كل يوم جمعة يصلني عبر بريدي الإلكتروني ملف يطلق عليه "موقف ناتو" الأسبوعي يتضمن ما يود الحلف أن يعرفه الصحافيون ومجموعات أخرى مهتمة بشؤونه. قبل أسبوعين وتحديدا يوم الجمعة في 13 من أغسطس (آب)  فتحت الملف وكنت أتوقع أن أجد موقف الحلف الأطلسي من التطورات الأفغانية. فقد كانت المدن الأفغانية الرئيسية تسقط واحدة تلو الأخرى بيد طالبان خلال ذلك الأسبوع وكنا على ما يبدوــ ودون أن نعرف بالأمرــ على قاب 48 ساعة فقط من سقوط العاصمة كابل نفسها بيد طالبان من دون أي قتال.
قرأت الرسالة مرتين وبعمق وأنا غير مصدقة. كانت هناك التقارير المعتادة حول كيفية تعاطي الحلف مع السوء الروسي العام، ودفاع الحلف عن دول البلطيق وغيرها، ولكن لم تكن هناك ولو كلمة أو ذكر ولو لمرة واحدة لأفغانستان. حتى ولو كانت تلك الرسالة الإلكترونية معدة مقدما، كان ذلك اليوم هو اليوم الذي تستحق خلاله أن يتم سحبها، وعندما فطنت وزارة الخارجية البريطانية إلى غياب الوزير دومينيك راب واقترحت عودته إلى مكتبه. كانت خطورة الوضع الأفغاني بالنسبة لذلك البلد وأولياء أمره الغربيين في حينه أكثر من واضحة.
منذ ذلك الوقت توالت التصريحات والإيجازات الصحافية، وبعض منها يعود إلى أمين عام الحلف ينس ستولتنبيرغ شخصياً. وكان ستولتنبيرغ سريعا في إرساله تغريدة عبر تويتر يندد فيها بالهجوم على كابل، مضيفاً بأن "الأولوية تبقى للعمل على إجلاء أكبر نسبة من الناس بأمان وبأسرع ما يمكن" لكن من الصعب التهرب من الانطباع بأن المنظومة الدفاعية الغربية الأساسية كانت غائبة تماماً عن الحدث خلال خسارة الغرب عمليا لأفغانستان.
عند هذا الحد لا بد من ذكر بعض العوامل الملطفة للأمر كي نكون منصفين. الأكثر وضوحاً هو أن الولايات المتحدة الأميركية، ورئيسها في ذلك الوقت دونالد ترمب، تفاوض على خروج قواته بشكل أحادي مع "طالبان". فواشنطن لم تستشر حلف الأطلسي أم أي من حلفائها بشكل منفرد، حتى أنها لم تتح لهم المشاركة في المحادثات ــ خصوصاً هؤلاء الحلفاء مثل المملكة المتحدة وألمانيا ممن يخدم عدد من جنودهم في أفغانستان ويتأثرون بشكل مباشر (جراء أي انسحاب).
وصحيح أيضا أنه فيما كانت "طالبان" تتقدم في الأسابيع الماضية، لم يكن لدى حلف الأطلسي كحلف أي وجود على الأرض في أفغانستان. ففي شرح وجيز، شرح الناتو أنه: "في فبراير (شباط) 2020 وقعت الولايات المتحدة وحركة طالبان اتفاقا على انسحاب القوات الدولية من أفغانستان بحلول مايو (أيار) 2021. وفي 14 إبريل (نيسان) 2021، وبعد اعتراف الحلفاء أنه لن يكون هناك حل عسكري للتحديات التي تواجهها أفغانستان، قرر هؤلاء بدء انسحاب القوات المشاركة في عمليات الدعم الحازم RSM  في الأول من مايو (أيار) 2021".
وتعني RSM مهمة الدعم الحازم ــ التي توصف على أنها مهمة لحلف الأطلسي للتدريب والمساعدة عملت في أفغانستان منذ 2015. وهذه القوات حلت مكان قوة تثبيت الأمن والمساعدة الدولية ISAF والتي أعلن أنها أكملت مهامها في العام الذي سبق ذلك.
إلى حد ما، يمكننا أن نجادل أن التفاصيل الصغيرة يمكنها أن ترفع اللوم عن ناتو. لقد تجاوز الرئيس ترمب عمليا الحلف  بتعامله مباشرة مع حركة طالبان. ولدى أعلانها نيتها الانسحاب كان جليا أن الولايات المتحدة كانت تتصرف منفردة. عمليات "ايساف" و "أر أس أم" وصفتا بأنهما مهمتان "يقودهما الحلف الأطلسي"، مع مساحة للمناورة مفترضة للقوات الوطنية المشاركة. فغياب الحلف الأطلسي عن الهزيمة الأفغانية لا تنعكس على قدراته كتحالف.
لكن ذلك يتجاهل حقائق أكبر بكثير. فقد ارتبط اسم الحلف بالتدخل العسكري الغربي في أفغانستان بشكل أكبر بكثير من أي من العمليات في فترة ما بعد الحرب الباردة. إن الاعتداءات التي ارتكبت في 9/11    دفعت الناتو إلى استحضار البند الخامس من ميثاقه لأول مرة ــ والذي يعرف بأن الاعتداء على أحدى دول الحلف هو اعتداء على جميع دوله. الحلف الأطلسي تمسك بوسم عملياته هذا في أفغانستان حتى بعد قتل أسامة بن لادن، وتحول المهمة إلى مهمة تعمل على التنمية و"بناء الدولة".
وهذا برفع إلى الواجهة المشكلة التي كشفتها الأسابيع الماضية. فالولايات المتحدة الأميركية تسيطر على الأمن الغربي إلى حد يصعب معه التمييز بين الدول التي يتكون منها الأطلسي والتحالف نفسه. ومن خلال تفاوض (واشنطن) على اتفاق ثنائي مع طالبان، لم تترك الولايات المتحدة حلفائها فقط بل التحالف برمته  في مهب الريح. وعندما كشف وزير الدفاع البريطاني بين والاس Ben Wallace محاولته ثم فشله في اقناع الحلفاء دعم فكرة البقاء في أفغانستان بعد الانسحاب الأميركي، كان ذلك بمثابة اعتراف فعلي بأن التحالف هو لا شيء من دون الولايات المتحدة الأميركية.
المملكة المتحدة وفرنسا كان حرياً بهما تعلم الدرس في 2011، عندما اضطرتا لطلب المساعدة من الولايات المتحدة الأميركية لمعاونتهما على التدخل في ليبيا، لكن عشر سنوات قد تبدو زمنا طويلا في السياسة العالمية كما في السياسة المحلية.
سيصعب الآن ــ أو سيكون من الصعب ــ النظر إلى ناتو بأنه أي شيء سوى أداة أو امتداد للقوة الأميركية، وتجمع دفاعي يعطي الولايات المتحدة غطاء تعددياً للسعي وارء مصالحها الخاصة.
وهذا يضع الآخرين أمام عدة خيارات. الخيار الأول للحلفاء الأوروبيين هو ترك الأمور على حالها والسير بالخدعة المعتمدة منذ زمن طويل والتظاهر بأن التحالف هو تحالف حقيقي. والخيار الثاني، هو أن يشجع الأوروبيون الرئيس إيمانويل ماكرون وأخرين في سعيهم إلى إنشاء تجمع دفاعي جديد يقوم على أسس المساواة بشكل أكبر من ناتو لو أمكن.
هناك خيار ثالث وقد يكون مفضلاً بعد الكارثة الأفغانية، ربما إعادة التفكير بعمق في المنظومة الأمنية الأوروبية إذا لم نقل المنظومة العالمية وتقييمها. فمنذ نهاية الحرب الباردة، أي قبل 3 عقود من اليوم، كان حلف الناتو يبحث عن وظيفة جديدة يقوم بها. ففي عالم أكثر موضوعية أو رشداً، كان حريا بالحلف أن يعلن النصر في 1991، وينضم إلى حلف وارسو وينتهي على صفحات التاريخ، والمساعدة على تشكيل نظام أمني جديد يضم هذه المرة روسيا.
بدلاً من ذلك، استحضر الحلف خطراً روسيا  من انقاض الاتحاد السوفياتي، وكما لو لم يكن ذلك كافياً، يسعى الحلف اليوم إلى التمدد نحو أسيا.
لم يكن هناك ما يكشف عن انتهاء صلاحية حلف شمال الأطلسي في أيامنا هذه أكثر من الهزيمة الأفغانية المتزامنة مع الجهد لتمدد الحلف في السعي لمواجهة الصين. فبعد بقائه لفترة أطول بكثير من مدة صلاحيته المفترضة، ربما يعترف الحلف بحقيقة نهايته من قوة الهزيمة.