إعداد: الناشط الحقوقي والإعلامي عصام الحلبي
في أحد أزقة مخيم برج البراجنة، تجلس "سمر” على درج بيتها المتداعي، تحمل بيدها أوراقًا صفراء باهتة تقول إنها "هوية مؤقتة” صادرة عن السفارة الفلسطينية في بيروت، تبتسم بحذر وهي تهمس:
"هذه الورقة لا تعني شيئًا، لا تعني أنني موجودة، ولا تمنحني حقًّا واحدًا.”
سمر، مثل نحو ثلاثة آلاف لاجئ فلسطيني فاقدي الأوراق الثبوتية في لبنان، تعيش حالة من اللاهوية القانونية التي تحوّلت إلى سجن مفتوح، حيث لا عمل رسمي، ولا سفر، ولا تعليم مضمون، ولا حتى ولادة معترف بها.
جيل بلا هوية
هؤلاء اللاجئون هم فئة فلسطينية نزحت إلى لبنان بعد نكسة عام 1967 أو إثر الاجتياحات الإسرائيلية المتكررة، لم تشملهم سجلات وكالة "الأونروا” ولا وزارة الداخلية اللبنانية، وهكذا، وجدوا أنفسهم في فراغ قانوني مطلق — لا هم مقيمون شرعيون، ولا لاجئون معترف بهم رسميًا.
يقول أحد الناشطين الحقوقيين في مخيم عين الحلوة:
"نواجه مشكلة أجيال جديدة تولد بلا أوراق، أطفال لا يُسجَّلون رسميًا، وكأنهم غير موجودين قانونيًا. هذه ليست أزمة إدارية، بل أزمة إنسانية عميقة.”
وثائق لا تعترف بها الدولة
بعض اللاجئين تمكنوا من الحصول على بطاقات تعريف من السفارة الفلسطينية في بيروت، أو حتى جوازات سفر فلسطينية صادرة عن "السلطة الوطنية الفلسطينية” لغرض الاستعمال الخارجي، لكن هذه الوثائق لا تُعترف بها رسميًا في لبنان، ولا تمنح أصحابها أي حقوق إقامة أو عمل.
يشرح أحد المحامين العاملين في قضايا اللاجئين:
"حتى المتزوج من لبنانية يواجه بعض العراقيل القانونية ولكن في المحصلة يمنح اقامة أما الآخرون، فلا يمكنهم حتى تجديد إقامة مؤقتة، بعدما توقفت السلطات اللبنانية عن إصدارها قبل سنوات.”
الحرمان اليومي من الحقوق
1. الحق في الإقامة والهوية
العيش بلا أوراق يعني الخوف الدائم من التوقيف أو الترحيل. لا يمكنهم تسجيل زيجاتهم أو مواليدهم رسميًا، ما ينتج عنه أجيال جديدة من عديمي الجنسية.
2. التعليم: أطفال خارج الصفوف
أغلب المدارس اللبنانية الرسمية ترفض استقبالهم، ومدارس "الأونروا” تعقد إجراءات تسجيلهم في مدارسها لعدم تسجيلهم ضمن سجلاتها.
3. العمل: بين الاستغلال والخوف
لأنهم بلا إقامة، لا يستطيعون العمل في أي مهنة نظامية. يعمل معظمهم في البناء أو الورش أو الخدمات بأجور زهيدة، دون حماية قانونية أو ضمان صحي.
4. الصحة: المرض أغلى من الحياة
لا تشملهم تغطية "الأونروا” الطبية، تقدم منظمة التحرير بعض المساعدات المحدودة، لكنها لا تكفي، في المستشفيات اللبنانية، يُعاملون كأجانب بلا إقامة، ما يعني فواتير مضاعفة أو رفض للعلاج.
5. لا حرية في التنقل
لا يستطيعون التنقل بحرية داخل لبنان، فكل حاجز أمني يشكل تهديدًا بالتوقيف. والسفر خارج لبنان مستحيل تقريبًا.
الآثار النفسية والاجتماعية
حالة "اللاوجود” القانوني تولّد عزلة نفسية وانكسارًا جماعيًا. كثيرون يعيشون شعور "النبذ من التاريخ”.
يقول شاب في العشرين من عمره من فاقدي الأوراق:
"لم أخرج يومًا من المخيم. لا هوية، لا مستقبل، ولا حتى حلم.”
الحرمان من الحقوق الأساسية يقود إلى تفكك اجتماعي، وتوريث حالة "الانعدام القانوني” من الآباء إلى الأبناء.
القانون الدولي بين النص والواقع
الواقع اللبناني يتعارض مع عدد من الاتفاقيات الدولية التي تضمن الحق في الهوية والتعليم والجنسية، منها:
الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (1948) – المادة 15: "لكل فرد الحق في التمتع بجنسية ما.”
العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية (1966) – المادة 24: "لكل طفل الحق في اسم وجنسية.”
اتفاقية حقوق الطفل (1989) – المادة 7: "لكل طفل الحق في التسجيل والجنسية منذ الولادة.”
اتفاقية 1954 بشأن وضع الأشخاص عديمي الجنسية – التي تضمن لهم الحماية القانونية والمعاملة المنصفة.
ورغم أن لبنان لم يوقع على بعض هذه الاتفاقيات، إلا أن التزامه بمبادئها يُحتِّم عليه وضع آلية إنسانية لمعالجة أوضاعهم.
المسؤوليات المشتركة
الدولة اللبنانية مطالبة بإيجاد آلية قانونية واضحة تمنح إقامة إنسانية مؤقتة لهذه الفئة، وتتيح لهم الوصول إلى التعليم والصحة والعمل.
منظمة التحرير الفلسطينية وسفارة دولة فلسطين تتحملان مسؤولية متابعة أوضاعهم، وتوفير دعم مالي وصحي مستدام.
وكالة الأونروا مدعوة لتوسيع خدماتها لتشمل اللاجئين غير المسجلين ضمن برامج الطوارئ.
المجتمع الدولي مطالب بدعم لبنان فنيًا وماليًا لإنشاء قاعدة بيانات رسمية لحصر هذه الحالات.
إنسان بلا رقم وبلد بلا هوية
أزمة اللاجئين الفلسطينيين فاقدي الأوراق الثبوتية في لبنان ليست مجرد مسألة بيروقراطية — إنها قضية وجود وكرامة.
إن استمرار تجاهلهم يعني خلق "جيل منسي” يعيش خارج التاريخ والقانون. الحل لا يمكن أن يكون أمنياً أو إدارياً، بل تسوية إنسانية شاملة تعترف بحقهم في الحياة بكرامة، ولو على أرض اللجوء.