مارلين كنعان أستاذة الفلسفة والحضارات، كاتبة وباحثة @MARLKANAAN
لعبت أعمال الشغب والاحتجاجات العنيفة التي عرفتها المدن والأحياء والضواحي "الحساسة" في كل أنحاء فرنسا خلال السنوات الأخيرة دوراً "إيجابياً" في معنى ما أو بين مزدوجين، فقد كانت الدافع وراء ظهور جيل جديد من الكتاب الفرنسيين الشباب المتحدرين من الجيل الثاني والثالث من المهاجرين ذوي الأصول الجزائرية والتونسية والمغربية وغيرها من الجنسيات الحائرة بين لغة أو ثقافة الآباء والأجداد، ولغة أو ثقافة الوطن الذي يعيشون فيه.
كتب هؤلاء الأدباء الشباب سرديات حكت عن أحوال بل و"مغامرات" القاطنين في الأحياء الشعبية المهمشة والراسخة في الأوضاع الاجتماعية والسياسية القائمة في هذه المناطق الفرنسية المنسية. وقد تميزت هذه السرديات التي بدأت تظهر في مشهد النشر والإصدارات الأدبية الفرنسية بسمات أساسية، تشهد، وفق ما يقول النقاد والمتابعون لها، على وجود تحول كبير في مسار تطور الآداب الفرنسية المعاصرة، سواء تعلق الأمر بتقنياتها الكتابية وحبكاتها الروائية واللغوية واللفظية التي تنقل بشكل طبيعي حيوية خطاب "البور" beurs، أو بطبيعة موضوعاتها والقضايا التي تثيرها في سياق مجتمع فرنسي متغير بفعل البروز القوي لمشكلات المهاجرين، وتزايد حدة التطرف الديني والأصوليات الإسلاموية والتضارب بين العادات والتقاليد العربية التي حملتها العائلات المهاجرة معها من وطنها الأصلي، وعيش هذه العادات في الوطن العلماني الجديد.
يتميز هذا الأدب "المهجري" الجديد إذاً بالحفر في مسائل شائكة، كماضي فرنسا الاستعماري وقضايا الاندماج والقبول بالآخر المختلف أو قضايا التهميش والفقر والمخدرات والمسألة الجندرية وغيرها من المسائل التي يجرؤ الأدب على مقاربتها حيث لا تجرؤ السياسة.
ولادة هذا الأدب
ويبدو من الصعب تحديد تاريخ ولادة هذا الأدب الفرنسي الجديد، بدقة. غير أن في بعض الأحيان تلعب الأحداث الاجتماعية والسياسية دوراً حاسماً في نشأة الحركات الأدبية وتطورها، كما في حال هذا الأدب، الذي بدأ بالظهور إثر الاضطرابات وأعمال الشغب التي حصلت في فرنسا على مدى ثلاثة أسابيع عام 2005، والتي أجبرت الرئيس الفرنسي آنذاك على إعلان حالة الطوارئ بعد وفاة شابين صعقاً في محطة للكهرباء أثناء اختبائهما من الشرطة. ولعل الحادثة المؤسفة لمقتل الشاب نائل المرزوقي في ضاحية نانتير غرب باريس والتي حصلت منذ بضعة أيام وأعمال العنف التي رافقتها، ستشكل بدورها مادة أدبية تعبر عن التضارب القائم بين المجتمع الفرنسي المضيف والمجتمع العربي الوافد، غير المندمج كلياً في صفوف الفرنسيين.
في البداية لا بد من القول إن الجيل الأول من المهاجرين العرب لم يول طيلة إقامته في فرنسا، إلا في ما ندر، أي اهتمام بالفكر والأدب والفن. فالغالبية الساحقة من أبناء - وبنات - هذا الجيل الذي هرب من قسوة الحياة في بلدانه الأصلية، انصب اهتمامه على تأمين لقمة العيش، ولم تشكل الثقافة حاجة ملحة في حياته اليومية، علماً أن الغالبية الساحقة منه عانت مشكلة التواصل اللغوي وضيق الحال نتيجة العمل في مجالات صعبة وغير مثمنة، حتى أصبح الانخراط في الحياة الثقافية حاجة كمالية.
عاش إذاً هؤلاء المهاجرون من أصول عربية إسلامية على هامش التظاهرات الثقافية المهمة التي كانت باريس والمدن الفرنسية الأخرى مسرحها الأبرز عالمياً. ولم يقتصر عدم اهتمامهم بالحياة الثقافية على العامة، بل طاول الطلبة والنخبة المثقفة التي نكاد لا نجد لها أثراً كبيراً في صالون باريس للكتاب، ونشاطات المراكز الثقافية والمؤسسات الفرنسية المختلفة، والمكتبات والمتاحف والمسارح والسينما...
لكن الروايات والسرديات الأدبية الجديدة التي وقعها الكتاب الشباب والتي عالجت كما سبق وأشرت، موضوعات الهجرة والاندماج والتطرف الديني والعرقي والتأرجح بين ثقافتين، الثقافة العربية والإسلامية التي يتلقاها الشبان والشابات في عائلاتهم من جهة، والثقافة الغربية الناتجة من تلاقح الثقافات والحضارات الإغريقية والرومانية والمسيحية وعصور النهضة والحداثة وما بعد الحداثة من جهة أخرى، والتي يواجهونها في حياتهم العامة، وغيرها من المسائل الساخنة، والتي أطلق عليها النقاد والدارسون اسم "أدب الضواحي" أو"أدب المدن الفقيرة"، هذه الروايات والسرديات تقدم لنا صورة مغايرة لعلاقة هؤلاء المهاجرين المقيمين في ضواحي المدن الفرنسية المهمشة بالأدب والثقافة.
"أدب الضواحي"
ويهمني أن أشير ههنا إلى أن تعبير "أدب الضواحي" المستخدم للدلالة على هذا النتاج الأدبي يحيلنا أولاً على المكان الجغرافي الذي يأتي منه المؤلفون، كما يحيلنا ثانياً على السياق المكاني الذي تقع أحداث العمل الروائي في إطاره. علماً أن مصطلح "الضواحي" يحمل في دلالاته العديدة ليس فقط معنى الأحياء التي تقطنها الطبقة العاملة الفقيرة في مجمعات سكنية كبرى هي أشبه ما تكون في بعض المناطق بمعزل يعيش فيه مجموعة من الناس ينتمون إلى عرق وثقافة ودين معين، بل يحمل أيضاً معنى الصعوبات التي تواجهها هذه الطبقة في حياتها اليومية على الصعيدين الاجتماعي والاقتصادي.
وعلى رغم اختلاف أسلوب هذه الروايات والسرديات الأدبية الجديدة، فإن موضوعاتها تبقى كلها متشابهة. فهي تتحدث عن اليأس الناجم عن البيئة المنغلقة على نفسها وعن الظروف الاقتصادية والاجتماعية الصعبة التي يمر بها أبطال هذه الروايات.
في الماضي القريب كان أول من تناول موضوع حياة المهاجرين في الضواحي والأحياء الفقيرة الفرنسية هم الكتاب المسمون بالفرنسية العامية "البور" beurs، أي الكتاب المتحدرون من أصول عربية وتحديداً من الجزائر وتونس والمغرب الذين استقر بهم الحال في فرنسا، فأصبحوا مواطنين فرنسيين، لكن إحساسهم بالهوية توزع بين ثقافتهم الأصلية والثقافة الفرنسية التي يكتبون ويعبرون بها عن خصوصية وضعهم. وهم على قلة عددهم، بدأوا كتابة الروايات وإخراج الأفلام السينمائية منذ ثمانينيات القرن العشرين، كالرواية التي كتبها مهدي شرف باسم "الحريم في مخدع أرشي أحمد" أو تلك التي وقعتها ليلى صبار، والتي عالجت مسألة البحث عن الهوية والأم والابتعاد عن الأب والعالم الخارجي المأسوي، كرواية "شهرزاد" التي تجوب أنحاء فرنسا بحثاً عما يكون شخصيتها العربية، وغيرها من الروايات. أو ذلك الفيلم السينمائي الذي أخرجه رشيد بوشارب عام 1991، حول صبي من أصول جزائرية رحلته السلطات الفرنسية إلى الجزائر، هو الذي ولد وعاش في باريس ويكاد لا يعرف كثيراً عن وطنه الأصلي. فيجد نفسه وسط الصحراء، بل إنه يطلب للتجنيد الإجباري على رغم صغر سنه، وغيره من الأفلام والروايات.
لكن سرديات هؤلاء الكتاب الأوائل من المهاجرين العرب تبدو إلى حد بعيد مغايرة تماماً في سياقاتها المختلفة عن السياقات التي أدت إلى ظهور ما يعرف اليوم بـ"أدب الضواحي" أو أدب الجيل الثالث من الكتاب العرب المهاجرين من أصول مغربية، إن لجهة الموضوعات التي يتناولها، أو لجهة الخصائص الكتابية واللغوية التي يتميز بها. من بين هذه الموضوعات موضوع الازدواجية، كأن يضطر الفرنسيون من أصول عربية إلى تغيير أسمائهم، فيتحول محمد إلى ميشال، وعبدالله إلى فرانك بغية الذوبان في المجتمع المضيف... كأني بهؤلاء يخجلون من أصلهم، فيصبح من الصعب عليهم السير في ركاب آبائهم وأمهاتهم، كما يصبح عليهم من الصعب في الوقت عينه السير في ركاب المجتمع الفرنسي الصرف.
ولا شك أن مثل هذه التجارب الحياتية يمكن أن تولد أعمالاً أدبية مميزة. فهؤلاء الأدباء من الجيل الثاني والثالث لم يعيشوا في بلادهم إلا القليل من سنوات الطفولة الأولى. أو لعل بعضهم لم يطأ قط الأرض العربية لكنه يحمل هويتها وجنسيتها ودينها الملتزم به في مجتمع غربي علماني، غالباً ما يعيش على هامشه.
أذكر في هذا السياق الروائي محمد رزان الذي وصل إلى فرنسا قادماً من المغرب في التاسعة من عمره في إطار سياسة لم شمل الأسرة، والذي تعكس كتابته الواقعية أحوال المهمشين والمنبوذين في المجتمع الفرنسي. ففي روايته "القول العنيف" الصادرة عام 2006 عن دار غاليمار، سلط رزان الضوء على معاناة مراهق من الضواحي الباريسية يدعى مهدي وهو بطل في الملاكمة التايلاندية، هذا الفن القتالي العنيف الذي يسمح للشاب بالتنفيس ولو جزئياً عن غضبه تجاه السياسيين والحياة المفروضة عليه. في هذه الرواية ينتقد الكاتب بشدة فرنسا من خلال شخصية بطله لأنها لم تأخذ في الاعتبار معاناته ومعاناة الشباب الذين يعيشون مثله على هامش المجتمع ويشعرون بالضياع، حيث لا أفق ولا مستقبل ولا إمكانات لتحسين أحوالهم الاجتماعية والاقتصادية.
باختصار، تتبدى الضواحي في هذه الرواية، كما في غيرها من الروايات التي خطتها أقلام شبان وشابات متحدرين من أصول مغربية، كالمكان الذي يرغب المرء في مغادرته. وما سرديات إدريس البوطي إلا شهادة على هذا الواقع المرير الذي يعيشه شباب الأحياء العربية في فرنسا الذين تتميز حياتهم بالبطالة والمخدرات، والسرقة والجنوح، مما يشكل حلقة مفرغة يصعب الخروج منها.
جيل جديد
تبين لنا هذه الأمثلة الأدبية القليلة صفة أساسية تميز هذا الجيل الجديد من المهاجرين، وهي عدم قدرته على التطور اجتماعياً خارج إطار الأحياء التي ولد أو عاش فيها. هكذا تصبح من وجهة نظر الكتاب والروائيين الجدد سياسة الفصل الاجتماعي سياسة مكانية مرتبطة بالعيش في مجمعات جغرافية تقع في أكثر مدن الضواحي تدهوراً، هذا ما عبرت عنه أيضاً كلمات أغنيات الراب للمؤدي روست الآتي بدوره من ضواحي باريس، والذي نشر عام 2008 سيرته الذاتية التي تحدث فيها عن واقع الأحياء المحرومة منذ الستينيات من القرن الماضي، حيث غياب تكافؤ الفرص وحيث الطبقات الاجتماعية الفقيرة والضعيفة تعيش برأيه حالاً من الانفصال عن النموذج الجمهوري، بسبب مساهمة المدارس الواقعة في هذه الأحياء في الإبقاء على هذا الإقصاء والهامشية، مما يفسر بالنسبة إلى بعض المراقبين اللجوء إلى المواقف الاستفزازية والسلوكيات العدوانية من قبل الشباب الذين يجوبون الأحياء في مجموعات تجلس أمام مداخل الأبنية أو على سلالمها، لتهاجم وتهين سكانها ممتهنة السرقة والاغتصاب واستهلاك الممنوعات وتجارتها.
يهمني في هذا الإطار أن أستعيد أطروحة تزفيتان تودوروف التي تنظر إلى الأدب، كل الأدب، ليس بوصفه مرآة تعكس حقيقة واقعية، بل بوصفه نوعاً من التأويل يحاول على طريقته فهم الواقع. فالأدب، وهو أول العلوم الإنسانية، يهدف إلى فهم السلوكيات البشرية والدوافع النفسية والتفاعلات بين البشر، لكن الأدب ليس علماً اجتماعياً ولو كان بينه وبين علم الاجتماع بعض القواسم المشتركة. أما الروايات والسرديات التي نحن بصددها، فهي تنتمي إلى الفن الأدبي النثري الذي يعتمد في أساسه على السرد المتخيل، من خلال نسيج تترابط فيه مجموعة من العناصر في ما بينها وفقاً لعلاقات معينة، تسير ضمن تسلسل أحداث مدروس لوصف تجربة إنسانية ضمن إطار من التشويق والإثارة تعكسه مجموعة من الشخصيات، في بيئة معينة، مما يعني أن "أدب الضواحي" ليس بالضرورة تعبيراً دقيقاً عن حقيقة اجتماعية معقدة، ولو كشف في كثير من الأحيان عن وجه آخر لهذا الواقع الاجتماعي المؤسف.
ولا بد من الإشارة في هذا السياق إلى أن هذا الأدب يتأثر أيضاً بالصور والأفكار السلبية التي تعكسها وسائل الإعلام المقروءة والمرئية عن الضواحي الملتهبة، بسبب ازدياد أعمال الشغب المتكررة. ولعله في سعيه نحو الواقعية والصدقية، يقع في كثير من الأحيان في فخ تقليد هذا الواقع الإعلامي غير القادر على استيعاب الأسباب الحقيقية لحال الضواحي والأحياء الفرنسية الحساسة التي تقطنها غالبية من أصول عربية مغربية. مع ذلك تدعونا هذه الكتابات، على طريقتها، إلى إنعام النظر في واقع غالباً ما تشوبه القوالب النمطية، في فهم أحوال مجموعات لم تتمكن من الاندماج كلياً في المجتمع الفرنسي.
أمام زيادة تدفق المهاجرين في السنوات الأخيرة إلى عديد من البلدان الأوروبية، والصورة السلبية التي تعكسها بقوة وسائل الإعلام المقروءة والمرئية، أصبح تغيير المنظور ضرورة ملحة لتقديم صورة حقيقية وموضوعية عن المهاجرين العرب والأفارقة. ولعل "أدب الضواحي" المكتوب باللغة الفرنسية يلعب دوراً مهماً في هذه العملية، ليس لأنه يعكس ماضي الفرنسيين في حاضر هؤلاء الوافدين الجدد فحسب، بل لأنه يذكرنا أيضاً أن ليس ثمة اختلاف جوهري بين هذه الهجرات وتلك التي دفعت في الماضي بعض الفرنسيين إلى مغادرة أراضيهم إلى كندا وأميركا في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين للبحث عن حياة أفضل في مكان آخر.
يبقى في النهاية أنه مهما كانت الجودة الأدبية لهذه الروايات والسرديات فهي تتمتع بلا أدنى شك بالقدرة على رفع مستوى الوعي بين القراء تجاه المشكلات الاجتماعية في فرنسا التي تتشابك فيها القضايا العرقية والدينية والثقافية والأمنية.