محمد جميل أحمد كاتب صحافي من السودان
ليس لأحد أن يتحدث باسم الشعب، ولن يكون أكثر تعبيراً عنه، كما يتحدث الشعب عن نفسه. فلسان حال الشعب أبلغ لسان في التعبير عن نفسه، لأن الشعب في هذه الحالة لا يحتاج إلى كاتب بأمره.
ذلك أن ما عرفه الشعب السوداني واختبره عبر لحمه الحي وأعصابه ودمه ودموعه من آلام وعذابات سمّمت حياته على يد نظام الإسلام السياسي الذي جثم على صدره منذ عام 1989 إلى عام 2019 عبر الانقلاب المشؤوم الذي دبّره الراحل حسن الترابي، ونفذه الجنرال عمر البشير، لم يعرفه شعب آخر في المنطقة. وفي تفاصيل معاناة الثلاثين عاماً هذه مع نظام الإخوان المسلمين، تكمن كل الأسرار الحصرية التي يمكن أن تكون في خلفية أسباب التفسير الأهم والأدق والأسلم لمعرفة حقيقة فعل وردود فعل الشعب السوداني التي نراها اليوم وهو يقود تظاهرات مليونية قلّ أن تحدث في هذه المنطقة.
وفي تقديرنا أن كل تفسير أو رأي سياسي لمن يُسمّون بالمحللين العرب في الفضائيات عبر قياساتهم الفاسدة لأوضاع السودان السياسية خلال نموذج تفكير إلحاقي كسول على حالات أنظمة وشعوب في المنطقة سيكون تفسيراً مزاجياً ومضللاً، ولا ينطوي على أي تقدير مستحق لدراسة الحالة موضع التحليل.
إن إصرار الشعب السوداني وتصميمه على المضي قدماً من أجل دولة مدنية ديمقراطية، ليس موضةً ولا ترفاً، ولا تفصيلاً عابراً.
وإذا ما توقفنا في طبيعة الشعارات الجماهيرية التي أبدعها الشعب السوداني وتوغلنا في سبر وإدراك مفرداتها وما قد تشتبك فيه الشعارات من علاقة قوية بالعقل الجمعي الباطني للشعب، لعرفنا مؤشرات تحيلنا إلى حقائق ربما تكون دلالاتها هي الأكثر صدقاً من التحليلات الباردة والقياسات الفاسدة التي نقع عليها في الفضائيات العربية.
إن الشعار الثوري "اللَّيلة تسقط بس - رُصَّ العساكِر رَصْ" الذي رفعه الشعب السوداني للمرة الأولى، في مواجهة البشير عام 2018 والذي كان واضحاً لجهة أنه يحمل دلالات مخيفة، متى تأملنا في مضمونها الحقيقي عبر تفكيك معنى مفردات الشعار، وأجلنا فيها تفسيراً لا يخرج عن معانيها، سنرى بوضوح أن شعباً يطلق مثل هذا الشعار هو، إما شعب منتصر أو مقتول على بكرة أبيه. فإرادة الشعب الواضحة لإسقاط البشير ونظامه عبر هذا الشعار حدّها الأدنى هو السقوط، من دون أي تفسير لسؤال لماذا السقوط، لأن 30 سنة من تسميم عام لحياة الشعب وتدمير مؤسساته وجهاز الدولة العام، لا يمكن معها أي تفاوض سوى سقوط هذا النظام. وفي الشق الآخر من التحدي في شعار "رُصَّ العَسَاكِر رَصْ" والتقدير اللغوي في الشعار هو (رص العساكر رصاً) بصيغة المفعول المطلق، سيعني بكل وضوح أن الشعب مدرك عبر هذا الشعار الثمن الغالي المستعد لدفعه مقابل إسقاط هذا النظام، أي حتى لو تم اصطفاف كل الجيوش والقوات النظامية إلى جوار الجنرال استعداداً لإبادة الشعب، فإن التحدي من طرف الشعب هو "رص العساكر رص"، أي قبول هذا التحدي كأعلى تكلفة يستطيع أن يدفعها الشعب وهي الموت الجماعي.
وللتذكير بحيثيات لا تقبل القياس لحالة عذابات الشعب السوداني التي وصل إليها في نهاية عام 2018، يمكننا القول إن الشعب السوداني لو كانت حالته المعيشية العامة هي حالة الشعب المصري يوم خروجه على محمد حسني مبارك في 25 يناير (كانون الثاني) 2011، أو حتى حالة الشعب السوري عشية خروجه على نظام بشار الأسد في 17 مارس (آذار) 2011، لما خرج الشعب السوداني على نظام البشير، وهو الشعب الذي قاد ثورتين أسقطتا نظامين عسكريين - ثورة أكتوبر (تشرين الأول) 1964، وثورة أبريل (نيسان) 1985- قبل عقود طويلة من بداية الربيع العربي في 2011. بمعنى آخر، إن صبر الشعب السوداني على نظام الإخوان المسلمين لم يكُن صبراً على طعام وشراب فحسب، فقد كانت أوضاعه لهذه الناحية مزرية جداً ولا يمكن مقارنتها بأحوال أي دولة في المنطقة العربية، لكن هذا الشعب مدّ حبل صبره لنظام الإخوان المسلمين لأنه كان شعباً ذا تديّن صوفي بفئاته كافة (دخل الإسلام السودان عبر الطرق الصوفية وليس عبر الفتوحات الإسلامية)، أي أن التدين الشديد الزهد في الدنيا والصبر على مكارهها، كان هو الذي يحجزه عن إسقاط هذا النظام. لكن، ما إن أدرك هذا الشعب على مستوى الوعي الفطري العام بأن نظام الإخوان المسلمين لا علاقة له بالدين، وعرف ذلك عبر إدراك تام وعميق في مفردات كثيرة للفساد والاستبداد وصبر شديد وطويل على ذلك، قرر أن يسقط نظام البشير بذلك الشعار الذي عبّر تماماً عما أراده.
لقد شهد الشعب السوداني تراكمات وافرة كثيراً من نماذج وأفعال الخراب والنهب والتدمير والإرهاب والفساد والاستبداد، وانقسام وحدة البلاد بانفصال الجنوب 2011 والحروب الأهلية في دارفور والنيل الأزرق وجبال النوبة وشرق السودان، ووضع اسم السودان على قائمة الدول الراعية. للإرهاب، والعقوبات الاقتصادية القاتلة من طرف المجتمع الدولي لـ27 عاماً تدمرت عبرها المشاريع القومية الكبرى للبلاد، كمشروع الجزيرة (وهو أكبر مشروع زراعي في أفريقيا) والسكك الحديدية والخطوط الجوية السودانية والخطوط البحرية السودانية والنقل النهري ونهب موارد وزارات الدولة بواسطة إنشاء هيئات موازية تم تخصيصها لنهب إيراد تلك الوزارات، وإحلال أهل الولاء محل أهل الكفاءة، ما أجهز على الخدمة المدنية، وتدوير حركة إيرادات المال العام عبر أنظمة فساد خارج الدورة الاقتصادية، وتدمير الهوية السودانية للشعب عبر مسخها بما سُمّي بإعادة صياغة المجتمع السوداني "الجاهلي" في ما سُمّي بـ"المشروع الحضاري" الذي كان يبشر به الراحل حسن الترابي، وتدمير التعليم... وكل تلك الردة العظيمة على يد نظام الإخوان المسلمين أفقرت الشعب وعادت بمنوال حياته إلى الوراء عشرات السنين عن ركب العالم.
كل ذلك الخراب هو الذي ثار عليه الشعب السوداني بذلك الشعار الثوري المخيف ليتخلص من نظام الإخوان المسلمين، مرة وإلى الأبد، بإصرار سقفه النصر أو الموت، في ثورة 19 ديسمبر (كانون الأول) 2018 حتى سقط البشير في 11 أبريل 2019.
في ضوء ما قدّمنا، يمكن لكل متابع أن يتخيل عمق حالة الغضب العظيم للشعب السوداني، وهو يتظاهر اليوم بكتلة حرجة تعدادها الملايين رفضاً للانقلاب الذي يريد به قائد الجيش عبد الفتاح البرهان إعادة الشعب السوداني إلى حفرة الجحيم التي مكث فيها ثلاثين عاماً، وخرج منها بثورته العظيمة.
من هنا، يمكن القول أيضاً إن إحساس الشعب السوداني بقدرته على مواجهة انقلاب قائد الجيش أهون عليه من مواجهة نظام البشير، إحساس راسخ وقوي ولا لبس فيه، وهو إحساس شعب يعرف تماماً ماذا يعني وإلى أين يقوده هذا الانقلاب الذي حدث في 25 أكتوبر 2021.
في ضوء هذه الحيثيات المتصلة بجوهر الحالة الخاصة جداً للشعب السوداني جرّاء فصول المأساة العظيمة التي ذاق سمومها على يد نظام الإخوان المسلمين 30 عاماً (وهي حالة لا تشبه أي حالات تصلح للمقارنة مع المجتمعات المجاورة لجهة الخراب والدمار اللذين لحقا بالمجتمع السوداني عبرها)، يدرك شعبنا بوضوح أن حتمية الخروج (كما خرج بالملايين يوم السبت 13 نوفمبر (تشرين الثاني)، على الرغم من القتل الذي حدث، وسيخرج باستمرار في هذه المواجهة) لقطع الطريق على هذا الانقلاب هي خيار بين موت وموت!