السبت 23 تشرين الثاني 2024

الثورة في الفن وبالفن… خواطر على هامش فيلم «ريش»

يحيى مصطفى كامل كاتب مصري 
ونحن نحب الحياة إذا ما استطعنا إليها سبيلا»
محمود درويش
«النباح تحت الشجرة الخاطئة» مثلٌ إنكليزي لطيف يقال عادةً حين يولي الناس اهتمامهم لأمرٍ ما ويغرقونه بتركيزهم، لكن في سياقٍ خاطئ، أي حين يركزون في أمرٍ عارض متناسين أو متجاهلين الشأن الأساسي والأهم، وفي ذلك استعارةٌ من كلب الصيد، الذي ينبح تحت الشجرة التي لم تلذ بها فريسته التي يطاردها.
حضرني هذا المثل فأضحكني من جراء المعركة، المهمة للغاية في حقيقة الأمر، التي أثارها الممثلون شريف منير وأحمد رزق وأشرف عبد الباقي، ومن لف لفهم حين خرجوا أثناء عرض فيلم «ريش» من دون أن يكملوه، محتجين غاضبين منددين به، لما يرونه فيه من إساءةٍ لمصر، ومن ثم انشقت الصفوف في أوساط العاملين في المجال السينمائي والمثقفين والمجتمع بأسره بين مؤيدٍ ومعارض.
«مصر ليست هكذا»، تلك كانت الحجة الكبرى المصرح بها (وربما اليتيمة) لما ارتأوه من تشويهٍ مزعوم وإساءةٍ لسمعة مصر، من جراء عرض أحداثٍ تدور وسط مستنقعات الفقر الممتدة والشاسعة، التي يعيش وسطها جل المصريين، فهم، وفقاً لادعائهم، يرون مصر تحفل بما هو أجمل وأبهى وألمع من منتجعاتٍ ومدنٍ جديدة أفضل تنظيماً وأوفر ثراءً، أي أن هناك وجهاً أفضل نستطيع تصديره إلى الخارج.
ومن ثم انبرى الغالبية يحللون تقنيات الفيلم وأسلوبه، ما بين مهاجمٍ ناقمٍ أيضاً، ومشيدٍ بلغته السينمائية وكوادره الرائعة. إلا أن الأمر في حقيقته لا علاقة له البتة لا بالتقنيات ولا بالفن السينمائي كفنٍ أو لغةٍ أو سرد، وهو ما التفتت إليه قلةٌ بسيطة، بل هو أعمق وأهم وأخطر من ذلك بكثير، فأهم ما في هذا الفيلم وأكثر ما يثير فيه من دهشة، وما يتعين تناوله بالتحليل والحديث الممتد، هو ما يدور حول الفيلم ويصاحبه، وما أنجزه بغض النظر عن أسلوبه أو المدرسة (أو مزيج المدارس) التي اتبعها.
بدايةً لقد تعمد المخرج الشاب الاستعانة بممثلين غير محترفين، وفي رحلة بحثه أوصلته المقادير أو الحظ السعيد الماكر غير العابئ بالقوالب الجامدة، إلى قرية البرشا في المنيا من صعيد مصر، حيث وجد السيدة دميانة نصار، أو «أم ماريو» كما يعرفها جيرانها من أهل القرية، سيدة ريفية، مصريةٌ للغاية، لم تحصل على قسطٍ يذكر من التعليم، مسيحية تعيل أولادها، إذ سافر زوجها إلى ليبيا بحثاً عن الرزق، ما أثر سلباً في نفسية ابنتها ذات الأربعة عشر ربيعاً، فلم يكن منها إلا أن ألحقتها بفرقة ’ «مسرح شارعٍ» أنشأها أبناء القرية، بانوراما البرشا، ما خفف من معاناة البنت وداواها.
«مصر ليست هكذا»، كانت الحجة الكبرى المصرح بها لما ارتأوه من إساءةٍ لسمعتها، بعرض أحداثٍ تدور وسط مستنقعات الفقر الممتدة والشاسعة
كل كلمةٍ في هذا التلخيص مخلة، بيد أنها تصلح تفسيراً لردة الفعل العنيفة تلك من الممثلين المذكورين أعلاه، ومن انضموا إليهم، فهى وما تحيل إليه من رموزٍ وحيثياتٍ ملغمةٌ تماماً. لذا، فعلى عكس ما قد يراه البعض في ردة الفعل تلك من مزايداتٍ أو نفاق (هم بالطبع ليسوا بعيدين عنه في أي حال في مناسباتٍ أخرى)، فالحقيقة أن هؤلاء الممثلين كانوا شديدي الصدق والاتساق مع أنفسهم وما يمثلون، إذ أن حدساً أو غريزةً عميقةً (لن أقول ثقافةً، فمعاذ الله أن تتوفر لدى أيٍ منهم) أشعرتهم بما تمثله تلك السيدة وسائر الممثلين من تهديدٍ، ليس فقط لصنعتهم وإنما لمجمل التركيبة الاجتماعية وترتيبات وعلاقات القوة والسيطرة التي يعيشون وينتعشون ويصعدون بموجبها، ويستمدون مكانتهم وحظوتهم وظهورهم عبر نفوذها. لم يكذبوا أو يبالغوا، فدميانة نصار حنا حقا أتت من خارج السياق، سياقهم هم، سياق القلة الناجية، تلك الجزر متناهية الصغر من الوفرة والثراء الفاحش، التي تطفو على سطح بحرٍ من الفقر المدقع، الفقر «الدكر» كما نقول في مصر، القلة المرتبطة عضوياً ومصيرياً بالطبقة والمنظومة الأمنية الحاكمة. دميانة تقف لا ممثلةً أمام العدسة فحسب، وإنما ممثلةً لسياقها هي وكل من تمثل، سياق الملايين في مساحات وأحزمة العدم في المدن والريف، المهملين أشد الإهمال، المتروكين لقدر الفقر والعوز الساحق، يتحايلون على المعايش بشتى الطرق والوسائل، بزوجها الذي يركض وراء لقمة عيشٍ عزّت في دول الجوار، ويتركها لتكون هي الوتد الذي يرفع أسرةً متحملةً مسؤوليتها؛ على الأغلب دون إدراكٍ منه (ومنها بالطبع) ساق المخرج بهذه السيدة وسائر الطاقم تجسيداً لكل ما من شأنه أن يضرب أسس النظام القائم برمته، فالناس في هذه القرية، قدموا الدليل الدامغ على مبادرتهم وعفويتهم، على سعيهم وراء التعبير عن أنفسهم عبر الفن، وهم مجيدون، بل رائعون بشهادة المحكمين في مهرجان كان، أي أنهم ليسوا في حاجةٍ لتلك الطبقة المخملية الطافية على السطح، مستأثرةً بالثروة والأضواء والنفوذ، ودميانة تحديداً، المرأة، رقيقة الحال، المسيحية، غير المتعلمة، تضرب العديد من ثوابت ونعرات وحزازات، والأحكام المسبقة للطبقة الحاكمة (إن لم يكن كلها). واقع الحال إذن أن تلك الفئة والطبقة في شبكة مصالحها، تقف حائلاً معرقلاً لحركة وتطور تلك القطاعات العريضة من الشعب، الموهوبة والقادرة على الفعل والمبادرة والتفتح الخلاق.
لست ناقداً سينمائياً، وأعترف بأنني لم أشاهد الفيلم بعد، وقد يعجبني أو لا، إلا أنني أعود فأكرر أن الفيلم كعملٍ فني ليس لب القضية هنا، بل الظرف الاجتماعي الطبقي الذي شكل مادته، وصاحب تكونه وتشكله فقد أثبت أن الفن، رغم كل العراقيل والسيطرة الأمنية، لم يزل قادراً على كسر حالة الحصار السياسي التي تكبل العمل العام، ربما من دون إرادةٍ أو وعي ٍ من صانعيه، ولكن لمجرد كونه تعبيراً عن مشاعر الفنانين الحقيقيين. لذا، وعلى الرغم من كل اللغط، فهنيئاً للمخرج والست دميانة، وسائر طاقم العمل الجوائز التي حصلوا عليها، والتي سيحصدونها، وهنيئاً لنا أيضاً، ربما بصورةٍ مغايرة لكن أكبر وأعمق، تلك الهزة التي أحدثها الفيلم بما كشفت من هشاشة موقف وبارانويا الطبقة الحاكمة المصرية وطفيلييها الذين لن نعلم وإياهم من أين ستأتي الشرارة التي تحرجهم وتفضح تفسخهم وإفلاسهم.