باسم جوني
إن كتابة التاريخ لا تقتصر على حفظ الحقائق داخل مسار الحياة اليومية، بل تشكل أداة دفاعية ثابتة في صلب المواجهة، ذات جدوى عملية ومادية، تتحول إلى سلاح معرفي وثقافي وقانوني في وجه محاولات التزوير والإلغاء. وفي ظل احتلال يسعى منذ أكثر من سبعة عقود إلى محو الذاكرة الفلسطينية وإحلال روايته المصطنعة، تبرز الأرشفة كخط الدفاع الأول عن التاريخ والهوية والحقوق، بل كجزء أصيل من مسار النضال الفلسطيني المستمر.
تتجلى أهمية الأرشفة اليوم، أولاً، في مواجهة السردية الصهيونية المدعومة من منظومة رأسمالية عالمية مسلّحة بآلات إعلامية غربية هائلة، لا تنفك عن محاولة تشويه الحقائق، محو الجرائم، والتغطية على الإبادة الممنهجة. يحاول الإعلام الغربي، بسطوته غير المحدودة، أن يحوّل فعل المقاومة الفلسطينية المشروع، بوصفه حقًا أصيلاً في تقرير المصير، إلى تهمة "الإرهاب" المزعومة. وفي هذه المعركة على الوعي، يصبح التوثيق سلاحًا كاسرًا لاحتكار الحقيقة، وحائط صد أمام محاولات شيطنة الشعب الفلسطيني وتجريده من عدالة قضيته.
كما أن الحفاظ على الحقائق، من مسارات النضال اليومية إلى المجازر الوحشية والجرائم الاستيطانية، يعني بالضرورة حماية الذاكرة الوطنية، التي تشكل نواة الصمود وأساس الثبات، وضمانة ألا تذهب دماء الشهداء سدى. فمنذ النكبة، وما تبعها من مجازر، وتهجير، وتدمير للقرى والمدن الفلسطينية، لم تكن أحداثًا عابرة، بل محطة مفصلية في التاريخ العربي المعاصر. من هنا، يصبح حفظ الوثائق، الصور، الشهادات الشفوية، والخرائط ضرورة قصوى لضمان استمرارية الرواية الفلسطينية بعيدًا عن الطمس والتزوير. فالشعوب التي لا توثق تاريخها، تترك للاستعمار فرصة كتابته وفق مصالحه، وعلى حساب دماء أهل الأرض.
وعلى الصعيد السياسي والقانوني، تكتسب الأرشفة أهمية مضاعفة. فهي توفر المادة الموثوقة للمرافعات أمام المحاكم الدولية، ولا سيما في قضايا جرائم الحرب والانتهاكات الإسرائيلية المستمرة. كما تُحرج المؤسسات الدولية، وتقلص ثقة الرأي العام بها، أمام التواطؤ مع الوقائع الإجرامية المحفوظة، بهذا المعنى، تتحول الأرشفة إلى أداة من أدوات المقاومة القانونية والدبلوماسية، ترفد الموقف الفلسطيني في ساحات الصراع الدولي إلى جانب الكفاح المسلح.
ولا يمكن إغفال الدور البحثي للأرشفة، إذ تشكل مادة ثرية للباحثين والمؤرخين والصحفيين الساعين إلى دراسة القضية الفلسطينية، والكتابة عنها، في كافة البقع الجغرافية، حتى تلك الواقعة تحت سيطرة الأنظمة الغربية الاستعمارية. ما قد يخلق واقعًا تعبويًا للشعوب تجاه أنظمتها.
ختامًا، إن الأرشفة ليست مجرد حفظ لأوراق وصور متناثرة، بل هي عملية تأسيس لذاكرة حيّة تتحدى الاستعمار في ميدانه الأخطر، ميدان الوعي. فهي التي تعيد صياغة التاريخ من منظور أصحابه الشرعيين، وفي زمن تُسخَّر فيه الشبكات الإعلامية لتبرير الجرائم وشرعنة الاغتصاب الاستيطاني، تصبح الأرشفة عملًا نضاليًا استراتيجيًا يُكمّل الفعل المقاوم في ساحات القتال، فتحفظ دماء الشهداء من النسيان، وتربط الأجيال الجديدة بجذورها، وتُسقط القناع عن وجه المؤسسات الدولية المتواطئة. وبهذا المعنى، فإن الأرشفة ليست فقط حامية للقضية الفلسطينية، بل هي أيضًا أفق لإعادة إنتاج الوعي العربي والعالمي بها، وضمان أن تبقى فلسطين حقيقةً حاضرة لا يمكن محوها من التاريخ ولا من وجدان الشعوب، وفعل مقاومة متواصل يحمي التاريخ من التزييف ويمنح الأجيال القادمة سندًا راسخًا في معركتها نحو التحرر.