عبد الحليم قنديل كاتب مصري
هل حركة «طالبان» قابلة للاستنساخ عربيا؟ الإجابة القاطعة فيما نتصور هي لا، بالتأكيد. «طالبان» أفغانية لحما ودما وسلوكا ولسانا، وتأثيرها أفغاني محصور غالبا في مناطق قبائل «البشتون» وفي امتدادات مجاورة من باكستان، حيث مناطق «البشتون» بالذات، وعدد هؤلاء ضعف عدد «البشتون» في أفغانستان، ويصل إلى 40 مليونا، بينما كل عدد سكان أفغانستان حاليا أقل من الأربعين مليونا، ونصفهم من «البشتون» متعددي القبائل، ما يؤثر مباشرة على طرائق التفكير.
فهناك «طالبان باكستان» المختلفة عن «طالبان أفغانستان» وكانت موردا لكثير من عناصر «داعش أفغانستان» المعروفة باسم «ولاية خراسان» وهي تكفّر الجميع بمن فيهم «طالبان أفغانستان» وفي الأخيرة نفسها اتجاهات بحسب المحاور القبلية «البشتونية» فشبكة حقاني مثلا، تختلف عن جماعة «قندهار» والأخيرة هي مورد قادة طالبان الأكثر نفوذا، من المؤسس الملا عمر إلى الملا هبة الله زاده إلى محمد يعقوب نجل الملا عمر، وقد شغل يعقوب منصب وزير الدفاع في حكومة طالبان، بينما يشغل سراج الدين حقاني منصب وزير الداخلية، وكلها محاور خلافات مرشحة للتفاقم، فوق صراعات الأعراق الأفغانية المتعددة، لكن الأصول التاريخية تبدو هي ذاتها بين فرقاء «طالبان» فكلهم دينيا تابعون لما يعرف باسم «المدرسة الديوبندية» التي يطلق عليها أحيانا اسم «الأزهر الهندي» وقد أخذت «الديوبندية» صفتها من مدينة «ديوبند» في الهند، وقد نشأت فيها أول مدارسها للتعليم الديني في ستينيات القرن التاسع عشر، وانتشرت منها إلى غيرها مع تكريس الاحتلال البريطاني للهند، وتوالدت بكثرة في باكستان بعد انفصالها عن الهند عام 1947، ونظام التعليم في هذه المدارس يقوم على مذهب الإمام أبو حنيفة النعمان، وعلى العقيدة «الماتريدية» نسبة لأبي منصور الماتريدي، وعرفت هذه المدارس عند بدايتها باسم «المدارس العربية الإسلامية».
وكان للتعريف الأصلي دواعيه، فقد كانت عقيدة المسلمين بالهند وقتها محاطة بمخاطر، من هجمات «التشيع الصفوي» الإيراني، ومن تيارات الهندوسية والسيخية، ومن طرق «الدروشة» الصوفية الموالية للاحتلال البريطاني، وإن كان «الديوبنديون» عموما، ممن لا يمانعون في الانتساب لطرق دفاعية صوفية من نوع «النقشبندية» و»القادرية» وغيرها، لكن طابع الدمج بين الأعراق القبلية وفهم الشريعة ظل غالبا، خصوصا في «طالبان أفغانستان» وهم في الأصل طلبة علم في المدارس «الديوبندية» قبل أن يندفعوا أو يدفع بهم في صراع مع جماعات إسلامية أخرى، كانت تتصارع بدورها على الغنائم والسلطات والجرائم بعد هزيمة الغزو السوفييتي عام 1989، فيما بدت «طالبان» حين ظهرت فعليا عام 1994، أكثر براءة وبساطة والتزاما خلقيا، ما مكنها من هزيمة الآخرين بسرعة، وقصم ظهر «الجمعية الإسلامية» بزعامة برهان الدين رباني، وغريمها «الحزب الإسلامي» الذي يمثل جماعة الإخوان في أفغانستان.
حركة «طالبان» تتصور أن السماح بعمل النساء في عصرنا تلزمه فتوى الملالي، وأن الديمقراطية والانتخابات رجس من عمل الشيطان
وإعادة النظر في الصورة تظهر المعنى ببساطة، فأفغانية طالبان و»ديوبنديتها» الحنفية، و»بشتونيتها» القبلية، كلها عناصر امتياز للحركة في بيئتها التاريخية والاجتماعية، فقد كانت قبائل «البشتون» هي مصدر السعي غالبا لحكم أفغانستان، وحتى الذين حكموا في ظل الاحتلال الأمريكي، كانوا من «البشتون» بمحاورهم القبلية المتعددة، بحكم غلبتهم العرقية، وبحكم لغتهم «البشتونية» المتمايزة عن «الفارسية الدرية» المنتشرة بين الأعراق الأخرى، وبحكم أدوارهم التاريخية في صد غزوات الأجانب، وبما جعل أفغانستان الشهيرة بقسوة تضاريس الجبال وتضاريس البشر فيها، تحصل على لقبها المميز كمقبرة للإمبراطوريات، و»طالبان» بصرف النظر عن التفاصيل، كادت تنفرد بالحرب حتى النصر على الاحتلال الأمريكي، في حين بدت الأطراف الأخرى حتى ذات النسب الأفغاني منها، إما في خانة التواطؤ والعمالة للاحتلال، أو في خانة التقاعس والتخلي عن المعنى المقاوم، كما في حالة «الحزب الإسلامي» بزعامة قلب الدين حكمتيار، وبسلوك لم يكن مختلفا كثيرا عن سلوك حزب الإخوان في العراق تحت الاحتلال الأمريكي، والمحصلة ظاهرة، فقد بدا تأثير الجماعات «الإسلامية» عربية المنشأ سلبيا بامتياز في أفغانستان، ليس فقط بدلالة سلوك جماعة وحزب الإخوان الأفغاني، بل أكثر بدلالة سلوك جماعات ما بعد الإخوان، من نوع «القاعدة» عربية الأصول، وقد كانت سببا في دمار أفغانستان، وخليفتها «داعش خراسان» التي نشأت كفرع من تنظيم ما يسمى الدولة الإسلامية، ودولة خلافته الخرافية، التي دمرت نصف العراق وثلث سوريا، وانطوت على أبشع صور الإساءة لمعنى الإسلام دينا وشريعة، ومراجع الإخوان والقاعدة وداعش عربية المنشأ، كما هو معروف، وبمزيج خطر من التشدد «الوهابي» وكتابات سيد قطب منظر الإخوان، أي أن التأثير العربي المنشأ كان مدمرا لأفغانستان، وبأسباب بينها أيديولوجيات الجماعات «الإسلامية» عربية المنشأ، والكثير منها أقرب لتفسيرات ضيقة الأفق للمذهب الحنبلي المتشدد أصلا، ولا مكان فيه لنظر العقل في النقل، وحرفيته مفرطة مانعة للتجديد مغرقة في اتباع السلف، وقابلة مع إساءة التفسير للتحريض على التكفير فالتفجير وقطع الرؤوس إلى ما لانهاية، وبصورة لم تكن واردة طبعا في حساب الإمام أحمد بن حنبل نفسه، فوق أن دمار أفغانستان لم يكن فقط نتيجة لجرائم الاحتلال، ولا لغزو البيئة الدينية الأفغانية من جماعات التكفير ذات المنشأ العربي، بل أيضا بسبب سلوك نظم حكم عربية خاضعة للهيمنة الأمريكية، خصوصا نظام الرئيس السادات في مصر، ودور الفوائض المالية في ممالك الخليج، وقد لعب الطرفان أدوارهما بتنسيق مركزي من المخابرات الأمريكية، ودفعا بعشرات الآلاف من الشباب «الإسلامي» المصري والعربي إلى أفغانستان زمن الغزو السوفييتي، وفي جهاد «أمريكاني» تماما، كانت دواعيه ظاهرة في رغبة واشنطن بالانتقام من موسكو، التي دعمت المقاومة الفيتنامية ضد الاحتلال الأمريكي، وأرادت أمريكا أن ترد الجميل الحربي بمثله، ووجدت ضالتها في دعم ما يسمى «المجاهدين العرب» ودفعهم إلى ساحة الحرب ضد «الكفرة» السوفييت، وهزم السوفييت كما هزمت أمريكا من بعد، لكن بعد تحويل أفغانستان إلى أطلال وأوكار وملاعب تدريب مُثلى لجماعات إرهاب عربية، عادت وقتلت من العرب والمسلمين أضعاف أضعاف من قتلتهم أمريكا و»إسرائيل» معا.
وإعادة النظر في الصورة مجددا، تكشف ببساطة فداحة وإجرام التأثير العربي، واستنساخ أبشع صور التخلف العربي في أفغانستان، فالأخيرة على نحو ما هي ضحية زمن التخلف ذي المنشأ العربي، حكاما ومحكومين، بينما لم يكن لأفغانستان القبلية البدائية ذنب في ما جرى، وفي مراحل تاريخية سبقت كان الوضع معكوسا، وكان المعنى «الأفغاني» مختلفا في وجداننا، ففي عام 1955، زار الزعيم جمال عبد الناصر أفغانستان، وكان استقباله جماهيريا حافلا كما توثقه الصور، وقتها ذهب عبد الناصر في زيارة واجبة إلى ضريح جمال الدين الأفغاني في العاصمة كابول، وقرأ الفاتحة ترحما على روحه الطاهرة، على سبيل الامتنان والعرفان بدور الأفغاني في تاريخ الحركة الوطنية المصرية والعربية، كان الأفغاني رائدا لمدرسة «الجامعة الإسلامية» وكان يحمل على تخلف وعجز الإمبراطورية العثمانية في وقته، ويتهمها بمحاولة «تتريك» العرب بدلا نن فريضة «تعريب» الترك، وكان يشحذ الهمم لحشد المقاومة ضد زحف الاستعمار الغربي، ويؤازر ثورة أحمد عرابي، طلبا للاستقلال والدستور والجمهورية، وكان جل تلاميذ الأفغاني من العرب، على طريقة محمد عبده في مصر، وعبد الرحمن الكواكبي من سوريا، وصولا إلى عبد الحميد بن باديس في الجزائر، كان الأفغاني الذي مات غيلة في الآستانة عام 1897، يمثل النور الذي جاءنا من جبال أفغانستان البعيدة، وسعى لاستزادة ودور مركزي في عواصم العرب، وفي القاهرة بالذات، كان التأثير العربي لغة وحيوية يضيء القلب الأفغاني، وعلى عكس ما جرى في عقود سوداء قريبة، استشرت فيها أمراض وجماعات التخلف والتكفير والتفجيرعربيا، وكفرت جمال الدين الأفغاني نفسه، تماما كما كفرت مولانا جلال الدين الرومي الأفغاني الأصل.
إنه زمن التخلف العربي الذي رمى بظلاله وشروره على أفغانستان، وليست حركة «طالبان» التي لا تبارح بدائيتها حدود أفغانستان المنكوبة، وتكاد تتهجى حروف و»ألف باء» الدولة الحديثة في زماننا، وتخلط بينها وبين التركيب القبلي العرفي، وتتصور أن «البرقع الأفغاني» هو حجاب النساء الشرعي، وأن السماح بعمل النساء في عصرنا تلزمه فتوى الملالي، وأن الديمقراطية والانتخابات رجس من عمل الشيطان، ومثال من هذا النوع الطالباني شبه الداعشي، لن يكون مغريا باستنساخ عند أغلب الجمهور العربي في هذه اللحظة الفارقة، التي تخرج فيها جماعات اليمين الديني بعد إخفاقات مفزعة من مراكز السلطة تباعا، وعلى حلقات كان آخرها هزيمة «حزب الإخوان» المدوية في دولة المغرب.
كاتب مصري