السبت 23 تشرين الثاني 2024

إلى متى نبقى بين بساطير العسكر وسيوف الدواعش؟



د فييصل القاسم.   كاتب وإعلامي سوري 

الصراع السياسي في العالم العربي منذ عقود لم يخرج مطلقاً عن دائرة ثنائية العسكر والإسلاميين. ولو نظرنا إلى معظم الجمهوريات العربية كسوريا والعراق ومصر وتونس والجزائر والسودان لوجدنا أن هذا السيناريو يتكرر حرفياً. نظام عسكري مخابراتي تواجهه جماعات إسلامية. وكما هو واضح ممنوع أن يخرج التنافس السياسي عن لعبة العسكر والمتدينين. لا محل من الإعراب مطلقاً لأي تيارات علمانية ديمقراطية ليبرالية تنويرية حقيقية، وكأن المجال السياسي أصبح مطوّباً باسم العسكر ومنافسيهم الملتحين دون غيرهم وبشكل مقصود كي تبقى بلادنا بين مطرقة الجنرال وسندان الخليفة الداعشي.
لا أعتقد أن شعباً في التاريخ الحديث تكالب عليه القاصي والداني كي يحول بينه وبين حريته وكرامته كالشعب العربي. ثارت شعوب كثيرة في العقود الماضية، وتمكنت بسرعة من الخلاص من الظلم والطغيان. ففي نهاية ثمانينيات القرن الماضي، أي قبل أقل من ثلاثة عقود، شهد العالم سلسلة من الثورات في الاتحاد السوفياتي وتوابعه في أوروبا الشرقية. ولم يمر وقت طويل حتى انتزعت الشعوب الأوروبية الشرقية حريتها من براثن الاستبداد الشيوعي.
ولو نظرنا إلى ثورات أوروبا الشرقية لو جدنا أنها مرت بسلام، فلم يسقط ذلك العدد المهول من القتلى، ولم تتم تسوية بعض المدن والقرى بالأرض، ولم يتشرد الملايين من بيوتهم كي يبقى هذا الطاغية أو ذاك في السلطة. والأجمل من ذلك أن تلك الدول المتحررة من نير الطغيان الشيوعي سرعان من انضمت إلى شقيقاتها في أوروبا الغربية لتنضوي تحت لواء الاتحاد الأوروبي. وقد لاحظنا كيف بدأت الديمقراطية تتجذر في البلدان الجديدة رغم جثومها لعشرات السنين تحت نير الديكتاتوريات الشيوعية الوحشية.
لقد عملت أمريكا وأوروبا الغربية كل ما بوسعها لإخراج الأوروبيين الشرقين من تحت نير الطغيان الشيوعي، ليس فقط حباً بها، بل لأن الشيوعية كانت العدو الأكبر للغرب الرأسمالي على مدى عقود.
على العكس من ذلك نجد أن الثورات العربية الأخيرة أصبحت كالأيتام على مائدة اللئام. وليتهم تركوها يتيمة تتدبر شؤونها بأنفسها، لا بل راحوا يتآمرون عليها بشتى الأساليب القذرة كي يعيدوا شعوبها إلى زريبة الطغيان والخضوع بدل الأخذ بأيديها كي تخرج إلى فضاء الحرية والكرامة الإنسانية. فليس هناك أفضل من الطواغيت بمختلف ألوانهم لخدمة المخططات الاستعمارية الجديدة.

لو نظرنا إلى ثورات أوروبا الشرقية لو جدنا أنها مرت بسلام، فلم يسقط ذلك العدد المهول من القتلى، ولم تتم تسوية بعض المدن والقرى بالأرض، ولم يتشرد الملايين من بيوتهم كي يبقى هذا الطاغية أو ذاك في السلطة

ولم يكتف المتآمرون على الربيع العربي بتحويل الثورة السورية مثلاً إلى جحيم كي تكون بعبعاً يرعب بقية الشعوب، بل راحوا يخيرّون الشعوب التي ثارت، ويمكن أن تثور بين البقاء تحت نعال الديكتاتوريات العسكرية أو الانتقال إلى ديكتاتوريات دينية لا تقل سوءاً. كل الشعوب تثور على الاستبداد لتنتقل إلى الديمقراطية، أما نحن فالديمقراطية ليست مطروحة كخيار أمامنا، بل علينا أن نختار بين طاغية عسكري وآخر ديني يعمل في خدمة ضباع العالم.
على الرغم من أن الحركات الإسلامية لم تلعب أي دور في بداية الثورات العربية، حيث كانت الهبّات شعبية بحتة دون أي لون سياسي أو عقدي، إلا أن تلك الجماعات، وخاصة المتطرف منها سرعان ما ركب الثورات، وراح يلبسها ثوباً دينياً بمباركة من القوى الكبرى وأزلامها وفلول الساقطين والمتساقطين الذين ثارت عليهم الشعوب. لماذا لم تظهر الجماعات المتطرفة إلا بعد الثورات؟ لماذا لم تبرز قبل تمرد الشعوب على الأنظمة ما دامت تحمل راية الاسلام، وتملك سلاحاً وتنظيماً، وترى ظلم وقمع الشعوب؟ لقد نجحوا في سوريا مثلاً في حرف الثورة عن مسارها وتحويلها إلى حركات إرهابية في نظر العالم بعد أن اختفى الجانب الثوري منها، وتحولت بمباركة النظام وحلفائه إلى صراع بين جماعات متشددة والنظام. ومن سوء حظ السوريين أن الكثيرين في العالم باتوا ينظرون إلى الثورة السورية على أنها مجرد إرهاب تمارسه جماعات متطرفة ضد نظام علماني. والهدف واضح جداً. لقد أردوا من وراء دفع تلك الجماعات المتشددة إلى الواجهة تخويف الداخل والخارج بأن بديل الديكتاتوريات إمارات ظلامية أشد وأنكى.
ومن الجلي أن الكثيرين باتوا يتمسكون بالديكتاتوريات العسكرية القديمة كي لا تحكمهم الجماعات الإسلامية المتطرفة. ورغم كل الطغيان الذي تعرض له الشعب السوري على أيدي النظام على مدى عقود، إلا أن بعضه بات يفضل البقاء تحت سلطة النظام القديم خوفاً من الجماعات الإسلامية كداعش وحالش وعافش وغيرها، وكأن تلك الجماعات جاءت أصلاً لتثبيت أنظمة القهر والطغيان.
واضح تماماً أن الرسالة الدولية لشعوبنا كالتالي: أيتها الشعوب العربية الثائرة: لا تحلمي بالديمقراطية، بل اختاري بين البسطار العسكري وسيف الخليفة الداعشي، فهما الأفضل لمساعدتنا في التحكم بالمنطقة والسيطرة على شعوبها وثرواتها. هكذا يقولون للشعوب. فهل ستقبل الشعوب بأن تبقى على قرودها كي لا يأتيها الأقرد منها، أم إنها ستتخلص من القرود والأقرد منها ومن يحركها من الخارج معاً، وتقرر مصيرها بنفسها عاجلاً أو آجلاً. ألم تصبح ألاعيب مكافحة الإرهاب، وخلق البعابيع الدينية المتطرفة هدفاً مفضوحاً لتنفير الشعوب من الثورات وإبقائها في دائرة الخضوع والسيطرة؟ أليست لعبة استخباراتية مكشوفة من صنع محلي ودولي هدفها إعادة رسم ملامح لعبة الهيمنة على منطقتنا بالدرجة الأولى؟
صحيح أن اللعبة الخبيثة نجحت هذه المرة في كل الثورات العربية وأجهضتها بالبعبع الديني، لكن هذا البعبع أيضاً سقط إلى غير رجعة، ولم يعد استخدامه ممكناً في أي ثورات قادمة بعد أن أدى مهمته القذرة على أكمل وجه.

كاتب واعلامي سوري
falkasim@gmail.com