بلال التليدي
كاتب ومحلل سياسي مغربي
من شك في أن هزيمة الإسلاميين الانتخابية بالمغرب ستفتح نقاشاً كبيراً في الساحة المغربية والعربية والدولية، فالأمر يتعلق بنموذج مختلف من الإسلاميين ظل التبشير لمدة طويلة بكونهم يمثلون اجتهاداً مختلفاً عن الصيغة المشرقية، وأنهم أسسوا لنموذج مختلف لتدبير العلاقة بين الدعوي والسياسي واندمجوا في النسق السياسي، وحافظوا على وتيرة مطردة في التقدم الانتخابي منذ أول مشاركة انتخابية سنة 1997 إلى ما قبل هذا الاستحقاق أي انتخابات 2016.
البعض ممن تعجبهم العناوين العريضة، سيسارع إلى القول بأن قوس الإسلاميين، بل قوس الربيع العربي برمته، قد تم إقفاله بفشل آخر تجربة للإسلاميين في المنطقة بعد تجربة تونس، والبعض الآخر سيبحث عن كوّة يحاول من خلالها إثبات أثر الدور الدولي والإقليمي في تفسير هذه النتائج.
البعض الآخر، ممن تستهويه نظرة المؤامرة، سيسارع إلى اجترار أطروحة انتصار "المخزن" وقدرته على ترويض كل الأحزاب، وضمن ذلك الإسلاميون، بعد أن نجح في ترويض اليسار والقوى الديمقراطية.
لكن مهما تكن هذه العناوين التي تتواتر في التحليلات السطحية، فإنها لا تستطيع أن تغطي عن الأسباب الحقيقية المُفسرة لهذه النكسة الانتخابية المؤلمة والمُذلة أيضاً.
داخل المغرب، تتجاوز -أو بالأحرى تتقاطب- أطروحتان تفسيريتان؛ الأولى تتبناها بعض مكونات قيادة "العدالة والتنمية"، التي ترى أن المقاعد الضئيلة التي حصل عليها، أي 12 مقعداً، بعد أن حقق في انتخابات 2016، 125 مقعداً، لا تجد أي تفسير طبيعي، وأن أصوات مناضلي الحزب ومقربيه ودوائره المتعاطفة معه، وحدها يمكن أن تصنع نتيجة أكبر من هذه (عبد العزيز رباح).
قيادة الحزب عند مناقشة القوانين الانتخابية، رفضت بشكل قاطعٍ القاسم الانتخابي وحذف العتبة، وظنت أن هذا التعديل وُجِّه إليها لضرب قوتها في المدن، بحكم أنها كانت تفوز بأكثر من مقعد في المجال الحضري، بينما لا يتيح القاسم الانتخابي الجديد إلا إمكانية الفوز بمقعد واحد في كل دائرة، لكن النتائج أثبتت اليوم أن أكبر مستفيد من القاسم الانتخابي الجديد هو "العدالة والتنمية"، إذ كان بالإمكان ألا يفوز بأي مقعد لو تم اعتماد القاسم الانتخابي السابق
الأمين العام للحزب أنهى سهرة متابعة نتائج الانتخابات على الصفحة الرسمية للحزب، وغادر مقر الحزب ليلة أمس، بعد قراءة بلاغ قصير يشتمُّ منه رائحة الطعن السياسي في نتائج الانتخابات، بحجة أن وزارة رؤساء مكاتب التصويت لم يسلموا ممثلي الحزب نسخاً من المَحاضر، وأنهم لا يستطيعون البصم على نتائج انتخابات لا يعرفون مدى صدقيتها طالما لم يُمكَّنوا من حقهم الطبيعي والقانوني في تسلُّم هذه المحاضر.
لا تكتفي هذه الأطروحة بهذا التفسير الذي يتهم بشكل ضمني، الإدارة الترابية بإفساد العملية الانتخابية والتدخل بها، بل تزيد إليها تفسيرات أخرى ترتبط باستعمال المال بشكل كثيف، وشراء المرشحين والناخبين على السواء، واحتكار وسائل الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي بوصلات دعائية ضخمة، وتدخُّل الإدارة في إسناد بعض المرشحين والتحريض ضد مرشحي "العدالة والتنمية".
الأطروحة المقابلة، تفسر هزيمة "العدالة والتنمية"، بعقاب شعبي للحزب على خلفية تدبيره الحكومي لفترة 2017-2021، وبسبب سياساته التي جاملت الأغنياء، وأضرت بمصالح الطبقات الفقيرة، ومسَّت الطبقات الوسطى.
تبدو الأطروحتان مختلفتين تماماً؛ فالأولى ترمي بالكرة على الآخر، وتتجنب الحديث عن أعطاب الذات، والثانية تحاول استصحاب الأطروحة التقليدية التي ترى أن التدبير الحكومي يستنزف الأحزاب الحكومية، وأن هذا هو مصير كل الأحزاب، مرَّت بذلك تجربة القوى الديمقراطية في تجربة التناوب، واليوم يذوق لهيبها الإسلاميون.
والحال، أن انتخابات 2016 مرت تقريباً بالظروف نفسها التي عرفت كثافة استخدام المال، وتوجيه الأعيان لفائدة حزب واحد خصم للإسلاميين (الأصالة والمعاصرة)، ودعم غير مسبوق للإدارة الترابية لهذا الحزب، كما كان الإسلاميون في الفترة الممتدة ما بين 2011 و2016، في قلب التدبير الحكومي، بل في رأسه، واتخذوا قرارات مؤلمة شعبياً، بحجة إعادة التوازن المالي للدولة، وأن "النسر إذا عاش، عاش أولاده"، كما هي عبارة بن كيران التي لا يمل من تكرارها، ومع ذلك حقق الحزب نتائج غير مسبوقة حصد بها 125 مقعداً.
قيادة الحزب عند مناقشة القوانين الانتخابية، رفضت بشكل قاطعٍ القاسم الانتخابي وحذف العتبة، وظنت أن هذا التعديل وُجِّه إليها لضرب قوتها في المدن، بحكم أنها كانت تفوز بأكثر من مقعد في المجال الحضري، بينما لا يتيح القاسم الانتخابي الجديد إلا إمكانية الفوز بمقعد واحد في كل دائرة، لكن النتائج أثبتت اليوم أن أكبر مستفيد من القاسم الانتخابي الجديد هو "العدالة والتنمية"، إذ كان بالإمكان ألا يفوز بأي مقعد لو تم اعتماد القاسم الانتخابي السابق.
تقدير قيادة الحزب لأثر القاسم الانتخابي لم يكن دقيقاً، إذ تصورت، بوهم تفوُّق حزبها، أن شعبيته لاتزال قادرة على تحقيق التفوق في المدن، لكنها لم تنظر إلى الجانب الآخر من تأثير القاسم الانتخابي؛ لكونه يساعد في تشتيت الأصوات وقسمتها بين الأحزاب، بما يجنب سيناريو التقاطب الثنائي الذي أفاد منه الإسلاميون كثيراً في انتخابات 2016، بل كان مفعوله السلبي الأكبر على البنية الداخلية للحزب، إذ أدى تقليص حظوظ الفوز في الدائرة إلى تنافس محموم بين مناضلي الحزب على تصدُّر وكالة اللوائح، مما نتجت عنه تصدعات واستقالات ومغادرات، بل نتج عنه ضعف كبير في الجاهزية الانتخابية، بسبب إصرار شرائح واسعة من المناضلين على عدم المشاركة في الحملة الانتخابية، بسبب تذمرها من تزكيات القيادة للوائح.
جانب آخر من تفسير هذه الهزيمة المدوية، يرجع إلى الذات الحزبية، وفقدان نقاط قوته في انتخابات 2016، ونقصد بذلك أولاً التماسك التنظيمي، فالحزب دخل الانتخابات في حالة شرخ قيادي مزدوج، صراع بين جناحي الحزب (العثماني/بن كيران) وصراع داخل القيادة التي أدارت المرحلة (العثماني/الرميد)، فضلاً عن شرخ امتد للقاعدة بين تيارين، لم تستطع القيادة جمعهما، واعتمدت نهج التغلب بتقريب الموالين وإقصاء المعارضين. وبسبب هذا الشرخ، حرم الحزب من خدمات تواصلية رهيبة لأمينه العام السابق عبد الإله بن كيران، الذي يميل أكثر المراقبين إلى أنه كان يمثل القوة الانتخابية الضاربة لحزب العدالة والتنمية.
ومما زاد في إضعاف الجاهزية الانتخابية، مستوى الحملة الانتخابية التي قام بها الحزب، وضعف الخطاب القيادي بها، إذ بقي منحصراً حول الدفاع عن الحصيلة والمنجز دون الدخول في سجالات سياسية مع خصوم الحزب، سواء من حلفائه في الأغلبية الذين كانوا يطعنونه من تحت الحزام أو من معارضيه.
والمثير في هذه الانتخابات، أن العنوان السياسي الذي دأب الحزب على تبنّيه في كل محطة انتخابية تراجَع بشكل نهائي، وحلَّ محله خطاب تدبيري تقني، يعتمد المنجزات في شكل أرقام وجداول، لا يتجاوب الشعب مع دلالاتها، بل إن "السياسي" -في ظل تدبير القيادة الحالية لحزب العدالة والتنمية- تراجَع بالكامل، وتم تعويضه بخطاب التدبير، إذ تبنت القيادة شعار الصمت والإنجاز، تاركةً الخصوم، يملأون كل الفضاءات الإعلامية والتواصلية، دون قدرة على مباشرة سجال سياسي قوي بخطاب وحجج يتفاعل معها الشعب كما كان يفعل في الاستحقاقات السابقة مع خطاب القيادة السابقة.
والمفارقة، أن القيادة الحالية للحزب تورطت في مواقف مُضرة بالحزب سياسياً وحقوقياً وهوياتياً، مما جعلها تفقد جزءاً من قواعدها التقليدية، إذ سمحت بحدوث انتكاسات حقوقية، دافعت عنها، وتخلَّت عن موقفها الداعم للغة العربية بمسايرتها المنطق الفرنكفوني (فرنسة التعليم).
على أن الذي زاد الطين بلة، هو شكل تعاطيها مع جائحة كورونا، حيث ساهمت بعض القرارات الحكومية، في تفقير فئات وشرائح اجتماعية واسعة دون تقديم بدائل مُقنعة، ولا الدخول في حملة تواصل سياسي بهذا الخصوص، مما ولَّد حالة غضب شعبي عارم من رئيس الحكومة، وأثار موجة غضب شعبية عارمة، لاسيما من بعض القرارات المرتبطة التي تكشف تناقض التدابير المرتبطة بالاحترازات من جائحة كورونا.
والمثير في هذا الأمر، أن الأحزاب الأخرى الشريكة للحزب في تحالفه الحكومي، تركته وحده يتحمل تكلفة هذه المواقف، وعملت على إنتاج خطاب معارض للحكومة، ضاربة في العمق واجب التضامن الحكومي، دون أن يثير ذلك أي استفزاز لقيادة الحزب للتعامل بصرامة مع هذه الأحزاب.
والتقدير، أن أكثر ما يفسر هزيمة "العدالة والتنمية" هو فقدان القيادة لبوصلة سياسية، ورؤية في الحكم، يدير بها رئيس الحكومة، ويفهم الشعب بخطاب تواصلي دقيق ماذا يريد أن يصل إليه في فترة انتدابه الحكومي، فقد غلبت السمة الانتظارية على سلوك رئيس الحكومة، وبدا كما لو كان مجرد مُنفذ لتعليمات الدولة، لا يبادر للاقتراح في القضايا الكبيرة، بل يخشى حتى في الصغير من الأمور، من إزعاج دوائر بالسلطة.