النهار الاخباريه مقالات سامي الخطيب
لطالما كان صاحبي يحدِّثني عن الممتع من العلوم والمفيد منها، معتبراً أن المفيد النافع هو العملي التجريبي، وأن الممتع الذي لا فائدة منه هو النظري الإبداعي، وكنت أحاول إقناعه أنَّ النوعين كما الجسد والروح لا يفترقان إلا بالموت، فالعلوم التجريبية إن لم يؤمن بها صاحبها ويتماهى معها العامل فيها لم تنبت معرفة ولن تغني مجتمعاً، ومثلها علوم النظر والأدب والفن إن لم تختزنها رسالة فلن يكون لها نفع ولن تكتب لها حياة.
تحضرني هذه الجدلية بين الممتع والمفيد، أو بين الروح والجسد كلما زرت الكعبة المشرَّفة حرسها الله تعالى حاجاً أو معتمراً ألبِّي نداء إبراهيم وأشواق الروح بزيارة البيت العتيق، فهناك عند المشاعر يستحضر المسلم صورة الرسول والرسالة، وتضحيات السنين وتوالي تلبية الملايين، الذين تأملت حشودهم مع بداية رمضان وقد جاؤوا (من كل فجٍّ عميق ليشهدوا منافع لهم). حشود هائلة وجماهير لا تحصى، كلُّهم يتَّجه وجهة واحدة، يلبي تلبية واحدة، يلبسون ثياباً واحدة، ويتوجهون إلى ربٍّ واحد، ويؤدون المناسك نفسها حيث لا فوارق ولا تفاوت ولا مسافات، فـ"كلكم لآدم وآدم من تراب".
لقد وحَّدت الكعبة وجهتهم لربهم كما أزالت الفوارق بينهم، فهي رمز الوحدة والتوحيد في آن، فبالتوحيد نتوجّه إلى الله، وبالوحدة نبني مجد أمتنا، ونتعامل داخل دائرة الإسلام مع مخالفينا، على أساس الرحمة والمساواة والتسامح، وما قيمة التوحيد إذا لم يؤدِّ إلى الوحدة؟ وهل تقوم الوحدة على غير أساس التوحيد؟!
أتأمل حشود الناس وملايينهم، الملايين الذين احتشدوا في هذه البقعة الضيقة من الأرض، لا على أرحامٍ بينهم، ولا على مصالحَ تجمعهم. لا تتشابه فيهم لغة ولا لون أو لسان، لم يعيشوا في بيئة واحدة أو ظروف مناخية وعادات اجتماعية متشابهة، جميعهم بألوانهم وألسنتهم وأشكالهم واختلاف صورهم وعاداتهم يتحركون بانسيابية هادئة، ويطوفون حول كعبتهم بروحانية آسرة، تشدُّهم الكعبة المقدسة إليها كالمغناطيس، تربطهم الفكرة والهدف والشعور والمعتقد، فما أعظم الدين الذي نظَّم حركتهم! وما أعظم الكعبة التي جذبت جمعهم! وما أعظم الإله الذي ألَّف بين قلوبهم! (لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم، ولكنَّ الله ألَّف بينهم).
لو أراد علماء التربية وفقهاء السلوك وعلم النفس والاجتماع أن يدرسوا ظاهرة انسيابية الحركة وهدوءها الكوني الآسر في طواف الحجيج حول البيت لقالوا بصوت واحد: إنها ناتجة عن قوة خارقة لا صلة لها بالأرض وموازينها، فاختلاف اللون والعادات، وظروف الحياة واللسان، في ظلِّ الازدحام الشديد والحرِّ اللاهب والشمس الحارقة والضغط القائم، كلُّ ذلك كفيل بأن يربك الجمع ويحدث المشكلات، لكنَّ شيئاً من ذلك لم يحدث، فقد وحَّد الإسلام بينهم، وألَّف الله بين قلوبهم، فاتحدت المشاعر اتحاد الهدف والغاية والأداة والوسيلة، فما أعظم الدِّين الذي يصنع هذا التلاحم وتلك الوحدة! وما أغبى الزعماء الذين يملكون هذا السلاح الربَّاني القاهر ثم يذهبون عنه إلى سواه!
طفت بالبيت العتيق، أسمع نداء إبراهيم الخليل عليه السلام يخترق الزمان ويتجاوز حدود المكان ليلبي آلاف آلاف المؤمنين الدعوة على مرّ السنين: الرجال والنساء، الصغار والكبار، العربي والأعجمي، الأبيض والأصفر والأسود، الصحيح والسقيم والمقعد، والأمير والعامي، كلُّهم يؤدي المناسك نفسها، لا فرق ولا تمييز، لأنه "لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى".
في كلِّ الوجود دلائل على وحدته سبحانه وقوَّته وجبروته وعظمته، لكنّ مشهد ملايين المعتمرين وهدوءهم كان وجهاً جديداً من الإعجاز المبهر لم آلفه أو لم أتنبه إليه من قبل، حتى لكأني بقول الله تعالى: (الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج)، وصف لا توجيه كما أشار علماء التفسير، فالهدوء ومظاهر الحبِّ والتعاون والإخاء تتجاوز حدود الإعجاب إلى الإعجاز.
ووجهٌ آخر للإعجاز يتجلَّى في عظيم رحمة الله بعباده حين راعى عقول الناس، فجعل لهم بيتاً يرونه ويلمسونه، يطوفون به ويقدسونه، ليكون مدخلاً لأصحاب العقول الصغيرة التي لا تؤمن إلا بالمحسوس ولا ترى آثار عظمة العظيم سبحانه، يرون من رمزية الوحدة فيه عظمة التوحيد، ويجسِّدون من خلال مادية الملموس فيه قدسية الفكرة والمعتقد، فتتماهى المادة بالجوهر، والجسد بالروح، وبذلك تتجلَّى أعظم نماذج المتعة النافعة، والروحانية المتجسدة، فما أعظمك يا رب! وما أرحمك! وما أكرمك!