احمد مولانا. باحث في الشؤون السياسيه والتنميه
من. أبرز الأحجيات التي برزت خلال حقبة الغزو الأمريكي لأفغانستان، كيف تمكنت قيادة حركة طالبان من إخفاء خبر وفاة زعيمها ومؤسسها الملا عمر لأكثر من سنتين دون أن تدري أجهزة الاستخبارات النشطة في أفغانستان شيئاً عن ذلك. فالاستخبارات الأمريكية والبريطانية والروسية والصينية والباكستانية والإيرانية لم تتمكن من معرفة أي خبر عن مصير الملا عمر سوى بعد إعلان طالبان، في 29 يوليو/تموز 2015، عن وفاته في 24 أبريل/نيسان 2013. فكيف تمكنت طالبان من إخفاء خبر وفاته؟ بل وكيف كان الملا عمر يتواصل مع مساعديه؟ وأين كان يعيش؟
ظللت أبحث عن إجابة عن هذا السؤال، سواء في تقارير الأمين العام للأمم المتحدة الخاصة بأفغانستان، والتي تصدر دورياً كل ثلاثة شهور بعنوان (الحالة في أفغانستان وآثارها على السلم والأمن الدوليين)، أو تقارير فريق الرصد التابع للجنة الجزاءات الأممية، حيث من بين ما تتناوله البنية التنظيمية القيادية الخاصة بطالبان، وكذلك بحثت في مجلة "الصمود" الشهرية التي تصدرها طالبان باللغة العربية منذ عام 2007 حتى الآن. وبالرغم من تلك الجهود لم أعثر على أي تفاصيل خاصة بالإجابة عن الأسئلة أعلاه، إلا عندما قرأت كتاباً باللغة الإنجليزية بعنوان (طالبان: تاريخ نقدي من الداخل)، دوّنه الملا عبدالحي مطمئن، الناطق الرسمي السابق باسم الملا عمر، والمستشار السياسي لزعيم طالبان الثاني الملا أختر منصور، وقد تُرجم الكتاب من لغة البشتو إلى الإنجليزية في عام 2019.
رحلة اختفاء الملا عمر بعد الغزو الأمريكي
بحسب الكتاب المذكور، عندما أوشكت القوات الخاصة الأمريكية رفقة حلفائها الأفغان من الاقتراب من مدينة قندهار مقر حكم الملا عمر، عقد الأخير اجتماعاً مع كبار قادته وزع خلاله عليهم 2.5 مليون دولار بمتوسط يتراوح من 50 إلى 100 ألف دولار لكل قائد، وطلب منهم استخدام تلك الأموال في بدء حرب عصابات، وأخبرهم بأنه سيبقى في قندهار حتى آخر نفس، لكن مساعديه أقنعوه بضرورة مغادرة المدينة باعتبار أن بقاءه على قيد الحياة سيمثل شريان حياة للمقاومة المستقبلية. ومن ثم غادر الملا عمر قندهار إلى زابل، حيث شارك بنفسه في بعض الاشتباكات المسلحة، لكنه اقتنع في النهاية بضرورة التفرغ للقيادة والاختفاء في منزل صغير بمنطقة جبلية، ولم يكن الملا عمر يلتقي أفراد أسرته أو قادة طالبان خلال اختفائه، إنما يتواصل معهم عبر تسجيلات صوتية يرسلها عبر مبعوث خاص.
مع امتصاص الحركة لصدمة الانسحاب أمام الاجتياح الأمريكي، أرسل الملا محمد عمر في بداية عام 2003 شريطاً صوتياً إلى كوادر طالبان، أعلن فيه تعيين الملا برادر كنائب أول له، والملا عبيد الله كنائب ثانٍ، كما أعلن تعيين عشرة أشخاص في مجلس شورى الحركة. وبعد ذلك أصبحت رسائل الملا عمر وتوجيهاته عن الأحداث المهمة تصل إلى دائرة ضيقة تضم الملا برادر والملا عبيد الله. كما أرسل الملا عمر بعض رسائله على صورة فيديو وبالأخص في الأمور الحساسة مثل تعليماته بإبعاد آغا جان معتصم، مسؤول الشؤون المالية بالحركة عن منصبه لاستخدامه أموال الحركة بشكل شخصي (تولى لاحقاً منصب مسؤول اللجنة السياسية قبل أن يُبعد تماماً من الحركة).
الملا عمر
الملا عمر، مؤسس حركة طالبان
ولكن في يناير/كانون الثاني 2007، اعتقل الملا عبيد الله على يد المخابرات الباكستانية في بلوشستان، وفي عام 2010 اعتُقل الملا برادر في باكستان أيضاً، فعين الملا عمر الملا آختر منصور نائباً لأمير الحركة.
وفي عام 2013 اشتد مرض السل على الملا عمر، فأحضر مضيفه طبيباً محلياً موثوقاً به، فقال إن الملا يحتاج إلى فحوصات وعلاج مكثف، وهو ما لا يتوافر سوى في باكستان، فرفض الملا عمر مغادرة أفغانستان. ومن ثم أخبر المضيف نجل الملا عمر مولوي محمد يعقوب، وشقيقه الملا عبد المنان بتدهور حالته، لكنهما وصلا إليه بعد أن فارق الحياة.
كيف تسرّب خبر موت الملا عمر بعد سنتين
بعد وفاة الملا عمر، أبلغ نجله يعقوب وشقيقه الملا عبد المنان مولوي عبد الحكيم رئيس مجلس الإفتاء بالحركة، ورئيس القضاء مولوي هيبة الله أخوندزادة، فقررا دعوة عدد محدود من قادة الحركة لبحث الموقف، واقترح الملا آختر منصور إعلام كافة أعضاء مجلس الشورى بوفاة الملا عمر كي يشتركوا في اختيار قائد جديد، لكن مال آخرون إلى إخفاء الخبر نظراً لحساسية الوضع السياسي، وإعلان واشنطن الانسحاب في 2014، ومن ثم انعقد اجتماع آخر حضره عشرة أشخاص من بينهم رئيس اللجنة العسكرية الملا عبد القيوم ذاكر. وبعد مشاورات قرر العلماء الأربعة مولوي عبد الحكيم والشيخ عبد السلام (رئيس مكتب الملا عمر سابقاً) ومولوي هيبة الله ومولوي نور محمد ثاقب (رئيس قضاة المحكمة العليا سابقاً) اختيار الملا أختر منصور أميراً، وبايعه الحاضرون عدا الملا عبدالمنان شقيق الملا عمر.
بعد بضعة أشهر من هذا الاجتماع، حدث صراع بين رئيس اللجنة العسكرية الملا عبد القيوم ذاكر وعدد من القادة العسكريين البارزين بالحركة في جنوب أفغانستان، على خلفية رغبة ذاكر حل بعض المجموعات العسكرية وإعادة دمجها. ورفض الملا آختر منصور إجراءات ذاكر، فاستقال ذاكر من منصبه كرئيس للجنة العسكرية، لكنه لاحقاً أخبر الشيوخ الأربعة الذين اختاروا الملا منصور بأن لديه شكاوى ضد القيادة، وفي حال عدم الاستجابة له سيفضح خبر موت الملا عمر.
ومن ثم انعقد اجتماع لقادة الحركة استمعوا خلاله إلى شكاوى ومطالب عبد القيوم ذاكر، وقبلوا ما تقدّم به عدا اشتراطه تسلم قيادة اللجنة العسكرية مجدداً، وقال له الملا منصور إنك إذا قبلتني كقائد فعليك العمل في المنصب الذي أعينك فيه، فلا أستطيع تعيين شخص في منصب يطلبه، لكن الملا ذاكر لم يرضَ بنتائج اللقاء، وأخد يتحدث عن وفاة الملا عمر بين دوائر معارفه، ما أدى لتسرب الخبر إلى خارج الحركة، وانتشاره بين صفوف طالبان، فاضطر الملا أختر منصور إلى دعوة بقية قادة الحركة لاجتماع لتدارس الموقف، ومراجعة اختيار الأمير، والإعلان عن وفاة الملا عمر، فبايعه جل الحاضرين عدا قلة، وأعلنت طالبان في بيان رسمي في ٢٩ يوليو/تموز ٢٠١٥ وفاة الملا عمر بتاريخ ٢٤ إبريل ٢٠١٣.
من أبرز من رفضوا مبايعة الملا أختر منصور قائدا لطالبان، الملا عبدالقيوم ذاك الذي بايع لاحقاً في مارس/آذار 2016، وانخرط مجدداً ضمن صفوف الحركة حيث شغل عقب سقوط كابول منصب وزير الدفاع بالوكالة قبل أن يتم سحب المنصب منه ثم تم تعيينه لاحقاً بتاريخ ٢١ سبتمبر/أيلول ٢٠٢١ في منصب نائب وزير الدفاع.
كذلك رفض عبدالمنان شقيق الملا عمر مبايعة أختر منصور، واشترط للمبايعة تعيينه نائبا لقائد الحركة، وهو ما قوبل بالرفض، لكن عُين لاحقا الملا عبدالمنان عضوا في مجلس شورى طالبان ليشغل لأول مرة منصباً قيادياً ضمن عملية ترضية لأسرة الملا عمر. فيما أعلن الملا محمد رسول انشقاقه وشكل جماعة مسلحة منفصلة رفقة الملا عبدالمنان نيازي حاكم ولاة هرات السابق في حكومة طالبان. وقد شغل الملا محمد رسول خلال فترة حكم طالبان الأولى منصب حاكم ولاية نمروز، كما انخرط عقب الغزو الأمريكي في عضوية مجلس شورى طالبان، لكنه اختفى لاحقا بعد انشقاقه ومحاولته عقد صلح منفرد مع الحكومة الأفغانية عقب تركه لطالبان. بينما اغتيل القيادي المنشق الآخر الملا عبدالمنان نيازي في عام ٢٠٢١ .
الملفت أن تقارير لجنة الجزاءات الأممية الخاصة بأفغانستان رصدت الخلافات بين عبدالقيوم ذاكر وبقية قادة طالبان، وانشقاق الملا محمد رسول، لكنها لم ترصد بدقة أسباب تلك الخلافات، وربما لو لم تحدث خلافات داخلية لم يكن العالم ليعرف بخبر موت الملا عمر سوى بعد فترة أطول، كما سبق للتقارير الأممية وتصريحات كبار قادة الجيش وأجهزة الاستخبارات الأمريكية أن رجحوا تواجد الملا عمر بمنطقة كويتا بباكستان، وبالتالي جاء خبر وفاته في أفغانستان ليمثل فشلا استخباريا غير مسبوق للأجهزة الأمنية والاستخبارية التي كانت تطارد الرجل وتتقصى أخباره.