السبت 23 تشرين الثاني 2024

حسام الصباح: الرحيل الموجع

‏كامل جابر
حسام يا حسام…

يكوي الألم قلوبنا، فلماذا تفعلون بنا كلّ هذا؟
لم نصدق، نحن وأياك، من سنة وشهر بالتمام والكمال رحيل عزيزنا الفنان المبدع الصديق علي بدر الدين "الديك” وقلنا: "عزاؤنا برحيله إننا نراه في وجهك!”، أخبرني الآن: بوجه من بعد اليوم، سنراكما؟ لقد تخلّيت عنّا باكراً وانتقلت إلى جواره، ما هذا الحبّ وهذه الزمالة وتلك الرفقة، بدأت منذ سنيّكما الأولى وانتهت في زمن متقارب؟ كثيرً علينا هذا!.
في تفاصيلك الخاصة، عاندتَ المرض، ولازمتَ التعبَ وهجرتَ الرّاحة والطعام، وسَاكنت السيجارة… فمن أين لجسدك النحيل كلّ هذا الاحتمال؟ كأن كان ينقصك أن تنقلب بك السيارة، لتجعلك على سكّة الرحيل بعد ثمانية أيام من الحادثة…
عزيزي حسام جواد الصباح، لن أجد أيّ كلام يرثيك، أو يحكي عن مسيرة طويلة رفعتَ بها اسم مدينتك النبطية عالياً، بل اسم وطنك لبنان عالياً، بل رفعت قلوبنا لتجعلها تحلّق في مجد النجاح والتألّق مزهوّة بأعمالك، من المسرح إلى السينما إلى التلفزيون، إلى مسرح الفضاء الواسع عاشوراء… لن ترمح الخيل بعد اليوم أو تصهل، مثلما كانت في ظلال هالتك ولمساتك وإخراجك…

قلت فيك مرة، ونحن نكرّمك في العام 2011 (15/10/2011) في قلب مدينة النبطية، في المجلس الثقافي للبنان الجنوبي: "كيف أستطيع أن أنير نجمة في سماء حسام الصباح، وأنا جُرم بين كواكب تشعّ الفنً، التقت ها هنا في عيد الفنان الشامل المتواضع، فيما يسطع دويّ عطائها في كل الأرجاء؟ لكن حسبي في الكلام أنه سيصبّ هذه المرة فقط في تقديم الفنان الرائع حسام، كما يقدّم الجدول النهر، ليذوب فيه.
خيّال عصامي من منبت هذه الأرض الجنوبية، النبطانية، يتحدّر من عائلة لا تحتاج إلى تدليل وتعريف، وينبثق في الوقت عينه من معين ثقافي لعب حسام الصباح دوراً ناجعاً في صقله وبلورته ورفده بالعلم والكفاح والاطلاع، مع استناده طبعاً إلى موهبة فطرية اكتشفها باكراً أولاد الحيّ، ثم البيئة المحيطة وأنديتها الثقافية، لا سيما نادي الشقيف، فالمنتديات المسرحية والتلفزيونية الأوسع في لبنان والعالم العربي.
هو تارة الممثل المطل في دور بسيط ليسجل فيه حضوراً لافتاً، وأخرى، لاعب رئيسي في عمل مسرحي يدرك كيف يُدخله، أي الدورَ، إلى العقول والنفوس ليسجل حضوراً ربما لن يجيدَه إلا حسام الصباح بحد ذاته؛ ولا يغيبُ كثيراً عن الكواليس ليديرَ إخراجاً، عملاً من هنا ومسرحاً من هناك، ثم تحت قبة السماء، تراهُ يرمحُ على بيدر النبطية ليدير واحدة من عشرات المحاولات في إيجاد تشخيص مسرحي لائق لموقعة عاشوراء، في قالب يستطيع أن يخرجَ عن السائد الموروث ويستندَ إلى خبرة الأداء والنُطق ليصلَ في قالبٍ ثقافي حضاري إلى المشاهد والمستمع، وها هو وسط معمعة الرماح المنهالة من كل حدب وصوب، لم يهدأ أو "يكنّ” ولم يزل يحاول، فليُعِينُه الله.
صديقي الفنان حسام الصباح.. ارقد بسلام، فالموت لا يوجع الموتى، ولنركن نحن إلى وجعنا، بعدما تركتموننا، أنتم المثقفين الفنانين العظماء البسطاء أبناء المدينة التي تشبهكم، على قارعة الرصيف، ولمّا نشبع بعد مما قدمتموه من غذاء ثقافي وفكري وروحي وبصري ووجداني ومن تواضع لن نعهد مثله…


 
توفي حسام جواد الصباح صباح اليوم السبت في 29 أيار/ مايو 2021 عن 73 عاماً، متأثراً بإصابات وجروح إثر انقلاب سيارته على طريق النبطية الزهراني بتاريخ 21 أيار/ مايو 2021…
السيرة الذاتيّة للفنان حسام الصبّاح

هو تارة الممثل المطل في دور بسيط ليسجل فيه حضوراً لافتاً، وأخرى، لاعب رئيسي في عمل مسرحي يدرك كيف يُدخله، أي الدورَ، إلى فكر المشاهد ليسجل حضوراً ربما لن يجيده إلا بطل "حلم رجل مضحك” حسام الصباح؛ ثم لا يغيب كثيراً عن الكواليس ليدير إخراجاً، عملاً من هنا ومسرحاً من هناك؛ ثم تحت قبة السماء، تراهُ يرمحُ على بيدر مدينة النبطية ليدير واحدة من عشرات المحاولات في إيجاد تشخيص مسرحي نوعي لـ”موقعة عاشوراء”، في قالب يستطيع أن يخرجها عن السائد الموروث ويستند إلى خبرة الأداء والنُطق، فيصل في قالب ثقافي حضاري إلى المشاهد والمستمع.

في أقدم أحياء مدينة النبطية، حي السراي، ولد حسام جواد الصبّاح سنة 1948، والده كان تاجر نوق وجِمال بين جنوب لبنان وشماله وسوريا، ولأنه كان يكثر من الترحال نحو بيروت والشمال قادماً من الجنوب لقّب بـ”القبلاوي”، في كنفه عاش حسام الفتى، حيزاً من هذا الترحال. من مدرسة "أحمد جابر” الابتدائية إنتقل إلى مدرسة "سميح شاهين” المتوسطة، ومنها نال شهادة "البريفيه” سنة 1966، فيلتحق في العام التالي بدار المعلمين والمعلمات في النبطية؛ وكان أن عين في سنة 1970 مدرساً في مدرسة أرنون الرسمية. تقدم في أثناء الوظيفة إلى البكالوريا، القسم الثاني، ثم التحق بالجامعة اللبنانية، في قسم الفسلفة، وبعد الانتهاء منها التحق بمعهد الفنون الجميلة سنة 1978 وتخرج منه بعد ثلاث سنوات. في سنة 1984 انتقل من وزارة التربية إلى وزارة الإعلام، فوزارة الثقافة ومنها التحق بقصر الأونيسكو.
في إحدى فرق كشاف التربية الوطنية بدأ يكتشف ميوله نحو التمثيل، كان ذلك في العام 1961. عزّز هذه الموهبة بعد انتسابه إلى دار المعلمين والمعلمات حيث كانت تقدم أعمال فنية في نهاية كل سنة دراسية. وبين "نادي الشقيف” في النبطية و”اتحاد الشباب الديموقراطي” صار يشارك في أعمال احترافية ولعب دوراً مميزاً في مسرحية "الغربال” التي قدمت في النبطية عام 1970؛ وفي العام التالي في مسرحية "عتمة الليل” للشاعر الراحل طعان أسعد وقدمت فيها أغنيات من ألحان إيلي شويري وعازار حبيب.
حمله التهجير بسبب القصف الإسرائيلي الذي كانت تتعرض له مدينة النبطية إلى العاصمة بيروت عام 1976، فيها التحق معلّماً في إحدى مدارسها، وطالباً في معهد الفنون الجميلة حيث تعرف على روجيه عساف ويعقوب الشدراوي؛ مع رئيف كرم ومشهور مصطفى ومهدي زعيتر ووسام خالد ألف فرقة "السندباد” التي قدمت "دشّر قمرنا يا حوت” (1977) ثم "رحلة السندباد الثامنة” في العام التالي. مع الشدراوي شارك إلى جانب رفيق علي احمد وحنان الحاج علي وزياد أبو عبسي في "جبران والقاعدة” (1981) بدور خليل الكافر.

بين 1982  و1983 ظهر حسام الصبّاح في أكثر من فيلم لبناني، منها: "بيروت اللقاء” لبرهان علوية، و”الانفجار” لرفيق حجار، "المجازف” ليوسف شرف الدين، "المخطوف” من تأليف إبراهيم مرعشلي وإخراج فؤاد جوجو. وشارك سنة 1992 في فيلم "ناجي العلي” لعاطف الطيّب. ظهر حسام الصباح في معظم هذه الأفلام بدور الشرير "مما حدا بأحد كبار مدينة النبطية عندما التقى مرة بشقيقي، أن يطلب إليه التدخل لردعي مما أنا فيه من سكر ومجون، واحتاج شقيقي وقتاً طويلاً لكي يقنعه بأن ما يراه مجرد تمثيل بتمثيل” يقول. أما في التلفزيون فقد أطل من خلال "قناديل شعبية” لرشيد علامة و”قريش” لجورج غياض الذي صور في استديوهات الفارس الذهبي في سوريا.
بعد مسرحية "الطرطور” ليعقوب الشدراوي (1983) ومسرحية "الشهيد ابن البلد” (1984) وهي من إخراج نقولا دانيال وبطولة أحمد الزين انتقل حسام الصباح إلى الإخراج، وكانت باكورته مسرحية "الدبّور” (1985) من تأليف رفيق نصرالله وبطولة أحمد الزين، هذه المسرحية عرضت في سينما "استرال” في الحمراء مدة سنة ونصف السنة. بعدها توالت الأعمال مع احمد الزين فكتب له نص مسرحية "زمن الطرشان” وأخرجه (1988) وكذلك مسرحية "رقصة المساء” عن كتاب "المرمعون” للأديب محمد ماضي، ومسرحية "مهر العرب”؛ وقد قدمت جميع هذه الأعمال في سوريا وغيرها من البلدان العربية والأفريقية.

في عام 2008 عاد حسام الصباح ممثلاً إلى المسرح، ليلعب دور البطولة في "حلم رجل مضحك ” للدكتور طلال درجاني (عن نص الأديب الروسي دستويفسكي) وقد عرضت في المركز الثقافي الروسي في بيروت وفي "مهرجان دمشق المسرحي الرابع عشر”. عن دوره كتب الباحث سليم سعد قائلاً: "بالإضافة إلى كون الممثل حسام الصباح قديراً، متعلماً وجريئاً، ظهرت نتائج العمل الدؤوب الذي قام به في هذا العمل، فقام بنقل الرؤية الإخراجية المميزة بالشكل الأرقى والأكثر تعبيراً في عصرنا المسرحي الحالي. وبهذا أحرز بعمله هذا نقلة نوعية في المسرح الكلاسيكي العالمي على أرض لبنان، المسرح الذي راح يتجنبه كثيرون من الممثلين والمخرجين بسبب الدقة والتشدد ليلجأوا إلى المسرح الحرِّ المركب، أو إلى غيره من الأنواع الحديثة الأكثر حريةً وسهولة. فهو الممثل والحكواتي الكلاسيكي والشخصية الرئيسية المعبرة لهذا العمل، إلى جانب ظهوره كإنسان واقعي الوجود وخيالي التفكير في آن بالإضافة إلى الحس الفلسفي المتألق”.
في التلفزيون عاد حسام الصباح ليجسد شخصيات تشبهه، فهو ابن هذه الأرض التي قاومت الاحتلال الإسرائيلي. أما المشاهد التي ستظهر من خلال مسلسلي "زمن الأوغاد” (2003) عن من إخراج يوسف شرف الدين، و”الغالبون” (2011) من إخراج باسل الخطيب، فهي ليست غريبة عنه، "لقد عايشت ما يشبهها في مسقط رأسي هنا في النبطية التي عانت ما عانته من الاحتلال الإسرائيلي، وفي العديد من قرى الجوار، من مقاومة هذا الاحتلال ومقاومة عملائه، لذلك كنت أمثل نفسي”. وفي مسلسل "نورا” للمخرج السوري مأمون البني (2011) ظهر حسام الصباح بدور جمال باشا الجزار وقد أدى أكثر مشاهده باللهجة العثمانية. ثم شارك في فيلم "خلّة وردة” (2011) للمخرج اللبناني عادل سرحان.
برغم مئات الساعات من إعارة صوته للدوبلاج في مسلسلات مكسيكية وكرتونية، يبقى حسام الصبّاح ضائعاً "بين كوني مخرجاً أو ممثلاً أو أنني لم أزل أقوم بتجاربي، غير مدرك إلى أين قد يصل الأمر بي. أنا متأكد أن الممثل الذي في داخلي هو أقوى شيء في شخصيتي، خصوصاً كممثل مسرحي حيث أجد نفسي قادراً على التكيف مع مختلف الحالات التي يمكن أن يعبر بها الممثل؛ أما عملي في الإخراج فقد ساعدني على إدارة الممثل أكثر من السينوغرافيا والديكور والإضاءة، وأنا أعتبر أن الممثل الممثل، لو كان عارياً من جميع أدواته الخارجية، تبقى لديه القدرة على إيصال إحساسه وموقفه إلى الجمهور”.
كان يقلقه ما يجري من تناكف سياسي في لبنان "بيد أن هذا يحرضني على الكتابة. إنّ ما عبر به لبنان منذ 1975، تاريخ اندلاع الحرب الأهلية وحتى اليوم، لم يعطَ حقه في الدراما المسرحية والفنية، يجب على جيلنا أن يؤرخ لهذه الحقبة، وإلا فإننا فشلنا فشلاً ذريعاً، لذلك أعدّ العديد من النصوص التي تتناول هذه المرحلة”. أما ما يجري في سوريا "فهو يشبه إلى حدّ كبير حكاية الرجل المضحك في رواية دستويفسكي، الذي أتى ليغير الشعب فنقل إليه عدواه من الشرّ بعدما كان طيباً عريقاً. يريدون القضاء على هذا الكيان الجميل الذي يتمتع بثقافة عالية واهتمام فني متقدم”.
حينما أتى صديقنا إلى التمثيل كانت لديه أحلام جميلة في الشهرة، لكنها صارت "مضحكة” عندما أضحى  الممثل في هذا البلد "يبحث عن أمكنة يمكنها أن تؤمن عيشاً كريماً لعائلته، في ظل تنامي فن هابط يديره الإعلان الشرس الذي يتوجه نحو الغناء والرقص والتخلي عن التمثيل، إلى فن لا أخلاقي”.