النهار. الاخباريه وكالات
في ظل التأثير المتعاظم الذي باتت تملكه وسائل التواصل الاجتماعي تبدو مفردة "وسائل" التي نصف بها هذه المنصات خادعة، فهي لم تعد مجرد وسيلة للتعبير عن الرأي ومشاركة الآخر، إنما تضخم وجودها لدرجة أنها باتت تؤثر بصفتها المستقلة في سلوكيات المستخدمين وتقيد وجودهم داخل أيقوناتها المتزايدة، وعلى الرغم من أن تأثيرها المخيف في واقعنا برز أخيراً في أعقاب العطل الذي أصاب "فيسبوك" ومنصاتها قبل أسبوعين، فإن جذور القصة تمتد إلى أبعد من ذلك.
"فيسبوك" من أكثر الشركات التي تلطخت سمعتها بسبب مشكلات الخصوصية وأمان بيانات المستخدمين، وخير مثال لهذه السمعة المتدهورة هي الفضيحة السياسية الكبرى التي تفجرت في أوائل عام 2018 عندما تم الكشف عن أن شركة الاستشارات السياسية "كامبريدج أناليتيكا"، قد جمعت بيانات شخصية حول ملايين الأشخاص على المنصة من دون موافقتهم لاستخدامها لأغراض الدعاية السياسية والتأثير في الانتخابات الأميركية ونتائج صناديق الاقتراع في دول أخرى.
لكن وعلى الرغم من العواصف الكاسحة التي ضربت مصداقية الشركة طوال السنوات الماضية، فإن تطبيقها ما زال يحافظ على مكانته كأحد أكثر وسائل التواصل الاجتماعي شعبية بما يقرب من 2.85 مليار مستخدم نشط شهرياً. كما لم يحدث خروج موظفة "فيسبوك" فرانسيس هوغن مستهل الشهر الحالي لتكشف عن بعض الممارسات الداخلية التي اعتبرت بأنها تقدم الربح على أمن المستخدمين غير ضجيج وقتي، من دون تشريعات حازمة حتى الآن تقلل من نفوذ هذه الشركات التي تحيط بعملها هالة من الغموض.
تغذية الانقسامات
خلال جلسة الاستماع أمام الكونغرس الأميركي التي جذبت أنظار العالم، اتهمت هوغن منصة مارك زوكربيرغ بتغذية الانقسامات وتقديم الربح المادي على سلامة مستخدمي المنصة، كما استعرضت أمثلة عن كيفية استخدام الشبكة الاجتماعية لتحقيق غايات خطيرة، مشيرة إلى سلسلة من الروابط بين النشاط على "فيسبوك" والتجسس من جانب الصين وإيران والعنف في ميانمار وإثيوبيا، وقالت إن منتجات "فيسبوك"، بما في ذلك تطبيق "إنستغرام"، تضر بالمراهقين والأطفال والصحة النفسية للفتيات والنساء.
وطالبت مهندسة البيانات السابقة، التي عملت لدى عملاق التقنية الأميركي مديرة للمنتجات، الكونغرس بالتحرك لحل الأزمة، مشيرة في شهادتها إلى خطر القوة التي تملكها خدمة أصبحت منسوجة في الحياة اليومية لكثير من الأشخاص. وقالت "مضيت قدماً لأنني أدركت حقيقة مخيفة: لا أحد خارج فيسبوك يعرف ما يحدث داخلها. تخفي قيادة الشركة المعلومات الحيوية عن الجمهور والحكومة الأميركية والمساهمين فيها والحكومات في أنحاء العالم".
نفوذ متزايد
ما طرحته الأميركية هوغن حول تزايد نفوذ شركات التواصل الاجتماعي يتفق معه كثيرون من أبناء جلدتها، إذ يظهر استطلاع لمركز "بيو" للأبحاث أجري العام الماضي، بالتزامن مع استجواب الكونغرس مجموعة من قادة شركات التكنولوجيا الكبرى، بأن 72 في المئة من الأميركيين يعتقدون بأن شركات التواصل الاجتماعي باتت تتمتع بقوة ونفود كبيرين في السياسة، فيما يرى نصف الأميركيين تقريباً بأنه يجب تنظيم عمل هذه الشركات.
وتتفق غالبية الجمهوريين والديمقراطيين على أن الشركات المالكة وسائل التواصل الاجتماعي لديها الكثير من القوة والنفوذ في السياسة، ويتبنى الجمهوريون والمستقلون ذوو الميول الجمهورية تحديداً هذا الرأي بنسبة 82 في المئة، مقارنة بـ63 في المئة من الديمقراطيين والمستقلين ذوي الميول الديمقراطية. ومن ناحية أخرى، يقول 28 في المئة من الديمقراطيين إن هذه الشركات لديها القدر المناسب من القوة والنفوذ، في مقابل 13 في المئة من الجمهوريين الذين يتشاركون الرأي نفسه.
"الحرب على الإرهاب" تكسب عمالقة التكنولوجيا المليارات
ووسط المخاوف والتحذيرات، يفضل الأميركيون فرض المزيد من اللوائح التنظيمية لشركات التكنولوجيا الكبرى، إذ يعتقد نحو 47 في المئة من الناس أن الحكومة يجب أن تنظم شركات التكنولوجيا الكبرى أكثر مما هي عليه الآن، بينما يعتقد 11 في المئة
فقط أن هذه الشركات يجب أن تخضع للتنظيم بدرجة أقل، ويرى نحو 39 في المئة بأن التنظيم يجب أن يظل عند مستواه الحالي.
تشريعات قاصرة
وتعرضت شركات التكنولوجيا لانتقادات شديدة في الأشهر الماضية من شخصيات تبدأ بالرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب ولا تنتهي عند المدافعين عن الحقوق المدنية وموظفي تلك الشركات. وتصطدم التحذيرات من مخاطر وسائل التواصل الاجتماعي على الأمن القومي بقصور التشريعات التي تحكم أنشطة شركات التقنية في الولايات المتحدة بخاصة أن معظم سياسييها ليسوا ضليعين بهذا القطاع.
ومع ذلك، فإن مصادقة ترمب في شهر مايو (أيار) 2020 على أمر تنفيذي يحد من حصانة مواقع التواصل الاجتماعي ضد الملاحقة القانونية شجع الحراك الداعي إلى تبني مزيد من القيود والمحاسبة على هذه الشركات.
وقال ترمب من المكتب البيضاوي حينها "نحن هنا اليوم لحماية حرية التعبير من أحد أبرز المخاطر التي واجهتها في التاريخ الأميركي". وعلى الرغم مما رافق الأمر التنفيذي من جدل وجه الأنظار إلى شركات "فيسبوك" و"تويتر" وغيرهما، فإن خبراء قانونيين شككوا في أن يكون لهذه الخطوة أي تأثير عملي في عمالقة التكنولوجيا، بخاصة أن الأمر التنفيذي لا يغير القانون الفيدرالي الحالي ولن يكون له أي تأثير في المحاكم الفيدرالية.
وجاء قرار ترمب بعد أن وجه له "تويتر" إنذاراً لأول مرة بشأن تغريداته ضمن حزمة إجراءات اتخذها الموقع للتصدي لـ"المحتوى الذي يحرض على العنف" بوضع علامات تحذيرية أو حجب المحتوى، فيما اتهم الرئيس الأميركي السابق الموقع بالانحياز، وقال إن "الجمهوريين يشعرون بأن منصات التواصل الاجتماعي تعمل على إسكات الأصوات المحافظة"، متوعداً بالتنظيم أو الإغلاق قبل السماح بحدوث هذه الممارسات.
الفصل 230
واستهدف ترمب بأمره التنفيذي الفصل 230، وهو قسم من قانون الاتصالات الأميركي يمنح شركات مثل "تويتر" و"فيسبوك" حصانة قانونية لكثير من المحتوى الذي ينشره مستخدموهما، وينص هذا الفصل من القانون على أنه لا يتم التعامل مع أي مقدم أو مستخدم خدمة تفاعلية على الإنترنت باعتباره الناشر أو الناطق بالمعلومات المقدمة من مزود محتوى آخر، وهو بذلك يخلي مسؤولية هذه الشركات في حال نشر أحد مستخدمي هذه الشبكات أي محتوى قد يعد مخالفاً للقانون، وهذا ما دفع أعضاء من كلا الحزبين إلى المطالبة بتحديث القانون.
وفي مارس (آذار) الماضي، استدعى الكونغرس الرؤساء التنفيذيين لـ"فيسبوك" و"غوغل" و"تويتر" بشأن المعلومات المضللة والتطرف عبر الإنترنت، في أول ظهور لهم أمام المشرعين منذ أحداث الشغب في الكابيتول في يناير (كانون الثاني) الماضي. واعتبر ذلك الاستجواب فرصة أخيرة لعمالقة التكنولوجيا لتقديم حججهم قبل أن يشرع الكونغرس في إجراء تغييرات شاملة محتملة على القانون الفيدرالي.
وتزامنت جلسات الاستماع مع تشريع قيد الدراسة في كل من مجلسي النواب والشيوخ لكبح جماح صناعة التكنولوجيا، المتهمة بالهيمنة الاقتصادية وضلوعها بممارسات منافية للمنافسة. ومن المتوقع أن تفرض مشاريع القوانين متطلبات جديدة صارمة لمنصات التكنولوجيا، أو تعرضها لمسؤولية قانونية أكبر بطرق قد تعيد تشكيل الصناعة من جديد.