النهار الاخبارية - وكالات
ليست الإثارة والغموض كلمات تستعمل لتوصيف ألمانيا حالياً. ويعود ذلك إلى سبب معين، أو لعله السبب الرئيس، وهو طريقة قيادة البلاد على مدى 16 عاماً من قبل المستشارة أنغيلا ميركل التي بات خروجها من السلطة وشيكاً.
والسمات التي تخطر على البال لتوصيفها هي أنها يمكن الاعتماد عليها، كما يمكن توقع تصرفاتها، وحتى أنها مملة أيضاً. وهذه أشياء كان كثيرون في ألمانيا وخارجها ممتنين لتوفرها، كما كانت موضع حسد في بعض الدول.
لكن ربما كانت نهاية كل ذلك الهدوء الموزون قد اقتربت، وستطوى صفحته لفترة من الوقت على الأقل. فسيتوجه أبناء أغنى الدول الأوروبية وأكبرها إلى مراكز الاقتراع، اليوم الأحد، وليس لدى أي كان أدنى فكرة عمن سيخلف أنغيلا ميركل؛ ويلف قدر أكبر من الغموض نوع الحكومة التي سيشكلها الفائز.
وتخلو ورقة الاقتراع للمرة الأولى في الانتخابات التي شهدتها البلاد في مرحلة ما بعد الحرب، من اسم الشخص الذي لا يزال يشغل منصب المستشارية. وتصل نسبة من يقولون إنهم لا يعرفون حتى الآن لمن سيعطون أصواتهم إلى 4 من أصل كل 10 ناخبين ألمان ، كما أن نسبة غير مسبوقة من الناخبين تقدر بـ30 في المئة ستدلي بأصواتها عن طريق البريد، وهي نسبة تعود جزئياً إلى الاحتياطات المتعلقة بكوفيد-19، والتي تشجع كثيرين على عدم التوجه إلى مراكز الاقتراع.
وبالطبع، فإن هذا الواقع الذي تغادر فيه المستشارة التي ارتبط اسمها باستقرار ألمانيا المشهد تاركة الناخبين يحدقون في الفراغ السياسي، ينطوي على قدر غير قليل من السخرية. لكن مع ذلك، تستمر الحياة المبهجة في البيت، والعمل، والمدرسة، وتناول القهوة مع الكعك بعد الظهر وارتشاف البيرة في المساء، على حالها من دون إحساس بالقلق أو حتى بالتغيير، عدا عن وجود الملصقات الانتخابية التي تتنافس عند كل زاوية ومنعطف على استقطاب اهتمام الناخب، وهذا كله يعتبر شهادة على قوة الديمقراطية الألمانية.
وفي الوقت نفسه، يجدر القول إن كل الأخطاء الممكنة المتصلة بخروج ميركل تقريباً قد وقعت، وذلك ليس لأنها أبدت أي تلكؤ في التنحي. فهي قد أعلنت حين أعيد انتخابها قبل أربع سنوات أنها لن تسعى للفوز بولاية أخرى. وقد استقالت من قيادة حزبها "الاتحاد الديمقراطي المسيحي" (سي دي يو) قبل ثلاث سنوات، من أجل إتاحة الفرصة لمن يخلفها لكي يترك بصمته على أمل أن يصبح مرشحاً يتمتع بالمصداقية لمنصب المستشار، ويحل محلها.
بيد أن مرشحتها المفضلة انغريت كرامب كارينباور، أثبتت أنها غير مناسبة لتبوء هذا المركز فاستقالت واحتفظت بمنصبها وزيرة للدفاع. وهكذا بدأت عملية البحث عمن يتولى قيادة الحزب وخلافة ميركل. ويشغل شخصان مختلفان المنصبين حالياً، واختير آرمين لاشيت، بأغلبية ضئيلة، كمرشح للمستشارية.
لم يسهل التذمر في صفوف الحزب مهمة لاشيت، كما كان لأسلوبه الباهت في الحملة الانتخابية ولبعض زلاته المبكرة أثرهما السلبي المماثل على شعبيته. ويذكر أن إحدى هذه الزلات تمثلت في ضبطه وهو يضحك مع زملائه وسط الدمار الذي خلفته الفيضانات في يوليو (تموز) الماضي. وكانت الافتراضات أن تجربته الخاصة كرئيس لمنطقة شمال الراين وستفاليا، ومباركة ميركل له، سيضمنان معاً له الارتقاء إلى المستشارية. غير أن ذلك لم يحصل.
وبحلول أواسط أغسطس (آب) الماضي، كان تقدمه في استطلاعات الرأي قد تبدد. كما أن آفاق نجاح مرشحة الخضر أنالينا بربوك، التي كان ينظر إليها لفترة وجيزة كمنافسة واقعية من الجيل الجديد على أعلى وظيفة في البلاد، قد اضمحلت هي الأخرى في أعقاب توجيه اتهامات لها بأنها قد سرقت عناصر في أطروحة الدراسات العليا التي كانت قد قدمتها (وهي اتهامات وصفها حزب الخضر بأنها تمثل محاولة لـ"اغتيال شخصية"). كما أن افتقار بربوك للخبرة السياسة بدأ يتكشف بوضوح. في تلك المرحلة، تقدم المرشح أولاف شولتز نحو ذلك الفضاء الشاغر حالياً ومعه "الحزب الاشتراكي الديمقراطي" (أس بي دي) الذي كان قد أسقط من الحسابات إلى حد بعيد واعتبر أنه لا أمل له في النجاح.
يمثل نجاح شولتز تحدياً لكثير من القوانين السياسية. فقد تمت معاقبة "الحزب الاشتراكي الديمقراطي" في الماضي عبر صناديق الاقتراع (كما هو حال حزب الديمقراطيين الأحرار في المملكة المتحدة) لكونه الشريك الأصغر في ثلاثة من الائتلافات التي شكلتها ميركل. وكان شولتز نفسه نائب المستشارة ووزير المالية في الحكومة الحالية، لذا فإن من الصعب عليه أن يقدم نفسه كقيادي معارض لأن أوراقه مكشوفة. ومع ذلك، فهو قد تصدر منافسيه بفارق سبع نقاط في استطلاعات الرأي بفعل مجموعة من العناصر التي خدمته، وهي ]تمتعه[ بالسلطة الطبيعية، ووعود المساعدة على ردم هوة الانقسامات الاجتماعية التي كشفت عنها جائحة كوفيد، في ألمانيا كما في أي مكان آخر، علاوة على أنه ليس أرمين لاشيت.
تم تقليص هذا التقدم بنقطتين مئويتين في الأسبوع الماضي، ما فتح الباب على فرصة ضئيلة للحاق بشولتز، وخصوصاً إذا كان هناك ناخبون "خجولون"، وهذا أمر محتمل، في أوساط اليمين أكثر منهم بين اليساريين، ممن يمتنعون عن الإفصاح عن نواياهم الانتخابية لمنظمي استطلاعات الرأي. لذلك، بينما يذهب المرشحون إلى حملاتهم التقليدية عشية الانتخابات، فإن الرهان يكون على أشده وفرصة الفوز لا تزال متاحة لجميع الأطراف.
أما الآن، فإن ديناميكية الحملة الانتخابية المتأرجحة التي كان يعتقد أن من الممكن التنبؤ بنتيجتها، قد كشفت عن بعض الحقائق الغائمة حول ألمانيا بقيادة ميركل. وكما يتجلى في برلين، فإن المزاج العام يبدو أكثر تشاؤماً بكثير مما قد يوحي به الإعجاب شبه العالمي بميركل في الخارج.
ربما تكون قد تألقت بصفتها مدافعة عن ألمانيا في أنحاء العالم، ولعل إدارتها، في أربع ولايات قوامها ائتلافات متفاوتة، كانت من أكثر الإدارات تواضعاً واجتهاداً في العالم. لكن العديد من مواطنيها يشعرون بأنهم قد تعرضوا للإهمال هم ووطنهم ومؤسساتهم- على أنواعها من التعليم إلى الصناعة والعلاقات الصناعية وحتى الحكومية- التي حظيت بثناء كبير، والفشل في البقاء في ميادين المنافسة.
لا تبدو ألمانيا، إجمالاً، بعد 16 عاماً من قيادة ميركل، أنها بشكل خاص البلاد حيث تسود السعادة أو يعمها الشعور بالرضى. وقد يكون هذا أحد الأسباب التي تجعل القيام بالحملة الانتخابية كخليفة طبيعي لميركل، كما حاول كل من لاشيت وشولتز أن يفعل في البداية، عائقاً أمام المرشح أكثر من كونه مفيداً له. كما أن إضافة لاشيت اسم ميركل إلى فريق المتحدثين في بعض تجمعاته الانتخابية الأخيرة لن تساعده. وكان استقبال الجمهور لهما عندما ظهرا معاً هذا الأسبوع في شترالسوند، وهي دائرة ميركل الانتخابية، أكثر عدوانية من كل ما شاهدته من مظاهر العداء لها في دائرتها الانتخابية على مر السنين. ونشرت إحدى الصحف رسماً كاريكاتيرياً بعد ذلك صورة كبيرة لميركل على هيئة قديسة وهي تحتضن لاشيت "الرضيع". والوضع مفهوم ولم يعد ثمة داع لمزيد من الكلام.
وشهدت هذه الانتخابات أيضاً بعض التساؤلات النادرة حول النظام الانتخابي الألماني، والتي تظهر كل عيوب التمثيل النسبي، فضلاً عن المكاسب التي يوفرها. وتكمن الصعوبة في أن هذا النظام ينتج ائتلافات بشكل أساسي. ولكن تحدث "الائتلافات الكبرى" التي تشكلت منها الحكومة الألمانية في ثلاث من ولايات ميركل الأربع تأثيراً مشابهاً لما يؤدي إليه "نظام الأغلبية البسيطة" لجهة استبعاد الأحزاب الأصغر عن الاتجاه السائد، ويحتمل أن يحرمهم من إسماع صوتهم السياسي (إلا في الشوارع ووسائل التواصل الاجتماعي). لماذا التصويت، كما يقول البعض، إذا كان هذا التصويت لن يأتي بجديد بل المزيد من الشيء نفسه؟
وربما لم تدُر الانتخابات الألمانية، كنتيجة لذلك جزئياً، على السياسات الفعلية بقدر ما كان مدارها على الولاءات والانطباعات الشخصية. لكنها أيضاً [في مثابة] إقرار بواقع الأمور.
وعلى أي حال، إذا لم يجر التنافس الحقيقي على السلطة في الانتخابات الفعلية وإنما في المقايضات لتشكيل الائتلافات التي تليها، وإذا كانت التوليفات المحتملة، كما هو الحال هذه المرة، تكاد تكون غير محدودة، فإن القليل من التعهدات الانتخابية الحزبية سيصمد حتى النهاية ويترجم على أرض الواقع. واللافت أن التوليفات الممكنة التي لا حصر لها تشتمل على "ائتلاف كبير" آخر مؤلف من الاتحاد الديمقراطي المسيحي والحزب الاشتراكي الديمقراطي (سي دي يو - أس بي دي) يكون نسخة من ائتلافات "إشارة المرور الضوئية" ]الألوان التقليدية لهذه الأحزاب هي ألوان إشارة المرور[، التي تجمعهما مع الحزب الديمقراطي الحر (أف دي بي) المؤمن باقتصاد السوق، وحزب الخضر؛ أو ربما تأتي على شكل "أحمر-أخضر" (الحزب الاشتراكي الديمقراطي – حزب الخضر)؛ أو تكون بلون "أحمر، أحمر، أخضر"، بانضمام حزب "دي لينك" (اليسار) إلى التوليفة الأخيرة؛ أو ائتلاف من الاتحاد الديمقراطي المسيحي و"الحزب الديمقراطي الحر" وحزب الخضر.
في الواقع ، بدأت المساومة بالفعل خلال الأسبوع الماضي، مع قيام "الحزب الاشتراكي الديمقراطي" بمغازلة حزب الخضر علناً، كما أفيد بأن لاشيت يفكر في احتمال أن يكون رقم اثنين في "ائتلاف كبير" آخر. ولكن حتى تتضح الأصوات النسبية، فإن أي استنتاجات حول الحكومات أو السياسات المحتملة، تعتبر سابقة لأوانها. وهذه المرة تكون أبكر من المعتاد.
إن أحد مبررات ذلك يعود إلى خسارة الخضر بعضاً من تميزهم، مع وصول أزمة المناخ إلى صدارة متن الحياة السياسية. لكن ثمة سبباً آخر هو أن الموضوعات الكبيرة التي لم تظهر في هذه الحملة تفوق بكثير من حيث العدد المسائل المهمة المطروحة فيها. لم يكن هناك أي ذكر تقريباً، على سبيل المثال، لمسألة الهجرة، علماً أنها كانت الموضوع الساخن قبل أربع سنوات، أو لموقع ألمانيا في الاتحاد الأوروبي، أو لموقفها من إنشاء جيش أوروبي، أو موقفها من الولايات المتحدة، أو كيفية تعاملها مع روسيا، أو الصين، أي لم تذكر كل القضايا التي ستكون على رأس أولويات أي مستشار جديد.
هيمن على المشهد في الأيام القليلة الماضية نقاش حول توجه في ألمانيا يمكن اعتباره معادلاً لحركة مكافحة الإغلاق في المملكة المتحدة، في أعقاب مقتل أمين الصندوق في محطة وقود برصاصة بعد حادث قالت السلطات، إنه كان عبارة عن خلاف حول ارتداء القناع. وهذا يشكل بطريقة ما، استمراراً لجدل قديم بين الممتثلين [للأوامر أو التوجيهات] والمتمردين، وهو أمر له صدى خاص في ألمانيا لأسباب مفهومة.
لكن هذا هو حال ألمانيا الآن، منصرفة إلى شؤونها الداخلية، وهي تستعد للتصويت الذي يمكن أن يحقق أكبر تحول [انعطاف] في سياساتها المحلية والخارجية على مدى جيل كامل، أو قد لا يحدث أي تغيير على الإطلاق.