الخميس 28 تشرين الثاني 2024

تقارير وتحقيقات

نجاة من حرب الإبادة للخيام بالعراء

النهار الاخبارية - وكالات 

في أقل من عدة ساعات امتلأت ساحة كبيرة مجاورة لمستودعات وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "أونروا" غربي محافظة رفح جنوب قطاع غزة، وممتدة على عشرات الدونمات بخيام  صنعت من الخشب والنايلون نصبها نازحون من محافظة خان يونس هربا من القصف المميت وحرب الإبادة التي يشنها جيش الاحتلال الإسرائيلي الفاشي على قطاع غزة يستهدف فيها البيوت السكنية على رؤوس من فيها من المدنيين الآمنين.

على امتداد بصرك ترى نساءً وأطفالهن يفترشون الأرض بينما يقوم الشباب بتجهيز الخيام لتكون جاهز للإيواء، وسيارات وشاحنات في طابور طويل حملت كل عائلة بعض الأغطية والفرشات وبعض حقائق الملابس وخزانات مياه صغيرة تساعدهم في مواجهة البرد والأمطار ونقص المياه، هذا كل ما خرجت به العائلة من مدنها في مشهد قاس تركوا خلفهم منازلهم وذكرياتهم.

لم تكفِ هذه المساحة لاستيعاب عدد النازحين الكبير، فامتدت الخيام إلى الشوارع والأراضي الفارغة وفي محيط المدارس التي تأوي نازحين سابقين من محافظتي غزة والشمال، وداخل البيوت قيد الإنشاء والحواصل الفارغة وأسفل المنازل، بعض العائلات لم تجد مكانًا يأويها فباتت ليلتها في الشوارع مما اضطر وزارة الأوقاف والشؤون الدينية بمحافظة رفح بفتح المساجد لإيواء النازحين الذين تقطعت بهم السبل.

النزوح الثاني

يجلس المسن سهيل النحال على كرسي بلاستيكي ويضع عكازه بجانبه، يراقب حالة النزوح الكبيرة بعيون الحسرة والوجع بعد فقده لزوجته وثلاث من بناته وزوجة نجله وحفيديه وابنتي شقيقته أثناء قصف إسرائيلي مربع سكني كامل في مخيم جباليا شمال القطاع ونزح بعدها لمدينة خان يونس ولم يمكث فيها نحو عشرة أيام حتى عاش مجددًا مشاهد الإبادة والمجازر باستهداف جيش الاحتلال للمدينة بشكل مروع وعنيف تجددت فيه الأحزمة النارية وقصف مربعات سكنية فانتقل قبل ثلاثة أيام لمدينة رفح ليعيش النزوح الثاني.

"بعد المجزرة في شمال القطاع نزحت مع ما تبقى من أفراد عائلتي إلى جنوب القطاع، وتكرر نفس مشهد الإبادة" يروي النحال لشبكة "قدس" بينما يشير بيده نحو مشهد الخيام التي يحال النازحون نصبها في المكان قائلا بصوت مقهور: "هذه هي معاناة الناس، الشعب لا يستطيع العيش بهذا الحال وهذه الخيام لا تصلح لأن تأوي حيوانات"، معتبرًا ذلك "جريمة إنسانية تستدعي تدخلاً من العالم الذي يراقب معاناة الشعب بصمت".

للتو وصل الشاب عبد الله أبو جامع المكان وهو يحمل بعض أغراضه قادما من منطقة "بني سهيلة" شرق خان يونس التي شهدت عدوانا إسرائيليا مدمرا منذ ثلاثة أيام دمرت خلالها مربعات سكنية، يحاول إيجاد مكان يأوي أطفاله في تلك الساحة المكتظة بالنازحين.

حاول أبو جامع البقاء في منطقته لآخر لحظة إلا أن شاهد الدبابات الإسرائيلية على أطراف منطقته السكنية، يستذكر آخر المشاهد التي عاشها وهو يقف على تلة مرتفعة تكشف حجم خيام النازحين الكبيرة على مد بصره قائلا لشبكة "قدس": "رأيت شهداء ملقون على الأرض، وموت في كل مكان، حتى أننا لم نستطع إيجاد سيارة للنجاة إلا بصعوبة".

تلتهب حنجرته بالقهر وهو يحاول إيجاد خيمة تأوي 40 نازحا "لا تسمن ولا تغني من جوع" ولا تقي من ريح أو مطر، وتساءل: "وين نروح. وين الدول العربية".

محطات مؤلمة

أما الحاجة جميلة أبو شام (75 عاما) فكانت تجلس على الأرض بين أغطية وفرشات وبعض المستلزمات تنتظر هي وبناتها وحفيداتها انتهاء أبنائها الرجال من نصب الخيام.

يوازي عمر الحاجة أبو شام  البالغ خمسة وسبعين عامًا عمر النكبة الفلسطينية التي عاشت مراحلها الطويلة ومحطاتها المؤلمة، ورغم أنها لم تجرب النكبة الأولى عام 1948 إلا أن ما شاهدته خلال هذا العدوان يفوق حجم قصص المآسي والقتل التي ارتكبها الصهاينة الأوائل إبان احتلال فلسطين.

لحظة بدء القصف البربري لبني سهيلة لجأت ابو شام وعائلتها بإحدى المدارس التي اتخذها السكان مركز إيواء، إلا أن مشهد إطلاق رصاصة إسرائيلية على أحد المواطنين أثناء صلاته بالمدرسة لا يفارقها: "كانَ مشهد استهداف الرجل مرعبًا".

بين تشققات ملامح وجهها ينحفر الألم والحزن على حال لم تتخيل أن تعيش فيه، يتقد صوتها بجمرات الغضب وهي تلقي بنظرها على الخيام حولها: "لا أستطيع تحمل العيش بخيمة، كوني امرأة مسنة ولدي أمراض مزمنة، نعيش في هذا البرد وهذه الخيام في مكان يشبه الصحراء"، مطالبة الدول العربية والمجتمع الدولي بالنظر إلى الشعب الفلسطيني بعين الرحمة.

على ناحية أخرى، كان الأربعيني أبو محمد أبو عاصي يسابق الزمن في قص الأخشاب وتثبيت النايلون بالخيام، وفي السماء كانت الغيوم ملبدة مع تساقط قطرات بسيطة من الأمطار ورياح باردة تنذر بقرب منخفض جوي.

بكلمات مليئة بالرضا وممزوجة بالحزن قال أبو عاصي لـ "شبكة قدس" بعد أن توقف قليلا عن العمل: "نحن هنا مثلنا مثل الناس، يجب أن نتحمل وهذا قدرنا وما يكتبه الله سيصيبنا في هذا الزمن وسط تخاذل العرب عنا، وتخلي العالم الظالم الذي يدعي الإنسانية عنا، فليس لديهم مبدأ إلا على الطيور أما البشر فلا يحتجون على ما يحدث لنا".

ستأوي الخيمة 23 فردا، يدرك أبو عاصي أنه بالرغم من محاولته تثبيتها بالأرض وربطها بأوتاد، إلا أنها لن تصمد كثيرا أمام رياح باردة شديدة، كغيره من السكان هنا يتخوف من أي منخفض جديد سينكأ معاناتهم ويغرق خيمهم كما ينخر البرد أجساد أطفالهم.

على عربة يجرها حيوان اشترى هيثم أبو عاصي نايلون وأخشاب لصناعة خيمة بلغت تكلفتها 500 شيقل، يحتج على ارتفاع ثمنها كونه عاطل عن العمل، كما احتج الكثير غيره هنا على ارتفاع تكلفة إنشاء الخيام التي قاربت ألف شيقل في وقت تتفاقم معاناة الناس مع تجاوز العدوان يومه الستين.

لعدة ساعات استمر قدوم سيارات العائلات النازحة، بعض تلك السيارة كانت تتجول بين الشوارع والأراضي في طابور طويل يحاولون البحث عن أية قطعة أرض.

كانت الحاجة سعاد الهندي تجلس على كرسي بلاستيكي بجانب حافلة ابنائها المليئة بالأمتعة والأغطية أصابها العطل، بعدما نزحت العائلة من حي "الأمل" بخان يونس، تقول لـ "قدس الإخبارية" بينما كانت تنتظر هي وأحفادها عودة أبنائها لتشغيل الحافلة: "ما حدث لنا قدر ومكتوب ونحن صابرون وصامدون".

بنظرات لا زالت ممتلئة بالخوف مما عاشته ليلة أمس في خان يونس تضيف: "كان مشهد رعب وترويع طوال الوقت من القصف والأحزمة النارية، بترت من القصف قدم ابنة جيراننا البالغة من العمر 23 عامان  كان القصف حولينا وفي كل مكان، خرجنا أكثر من 50 فردا من العائلة لا تعرف تريد أن تحزن على نفسك أم أطفالك، ومنذ خروجنا حتى الآن لم نجد مكانا يأوينا واكتملت المعاناة بتعطل الحافلة".