بقلم: شوكت سليم
حين تندلع الثورات، تكون لحظة أمل وتطلع نحو الحرية والعدالة. لكن التحول من الثورة إلى الدولة غالبًا ما يصطدم بعقبات داخلية معقدة، خصوصًا حين تتولى الحركات الثورية بنفسها مهمة بناء السلطة. فكيف تتعامل هذه الحركات مع التحدي؟ وهل تستطيع الموازنة بين منطق المقاومة ومنطق الحكم؟
أزمة البنية الداخلية بعد الثورة
غالبًا ما تدخل الحركات الثورية في حالة من الترهل التنظيمي والجمود الفكري بعد اندلاع الثورة، وخاصة عندما تطول المرحلة الانتقالية. تتجلى الأزمة في ثلاثة مظاهر رئيسية:
تهميش المؤسسية: تُدار الأمور عبر مراكز قرار غير رسمية تستند إلى "الشرعية الثورية"، مما يضعف اللوائح الداخلية ويهمّش الهياكل التنظيمية.
تغوّل النفوذ الشخصي: يتراجع القرار الجماعي لصالح الولاءات الشخصية، وتتحول الثورة من مشروع شعبي إلى ساحة نفوذ لبعض الأفراد.
هشاشة المشاركة: تُقصى الكفاءات لحساب المحسوبية، وتتراجع مشاركة الشباب والكوادر الجديدة، ما يضعف الحيوية التنظيمية والفكرية.
معضلة التحرر الجزئي: نصف ثورة ونصف دولة
في السياقات التي يتم فيها تحرير جزء من الأرض بينما يبقى الآخر تحت الاحتلال، تواجه الحركات تحديًا كبيرًا: كيف تدير حكمًا مدنيًا في جزء محرر، دون أن تتنازل عن خطاب المقاومة والتحرير؟
ازدواجية الخطاب: يتناقض خطاب "بناء الدولة" مع "استمرار المقاومة"، ما يربك الرأي العام ويضعف الثقة.
ازدواجية البنية: وجود أجهزة ثورية موازية لمؤسسات الدولة يربك القرار السيادي ويخلق صراعًا داخليًا.
احتكار الشرعية: يتم استغلال "الشرعية الثورية" لتبرير تأجيل الديمقراطية أو إقصاء الآخر.
المخاطر: حين تتحول الدولة إلى ظل باهت للثورة
الدولة تُختزل في التنظيم: تتحول المؤسسات العامة إلى أدوات تنفيذ لأجندة الحزب أو الفصيل، أو يُبتلع الحزب داخل بيروقراطية الدولة فيفقد هويته.
تأبيد المرحلة الانتقالية: تُستخدم ظروف "التحرر الوطني" ذريعة لتعليق المساءلة وتأجيل الإصلاحات.
تفكك الجبهة الوطنية: يتم إقصاء قوى وطنية شريكة، ما يفتح الباب للانقسام الداخلي.
ضياع فرصة النموذج: بدلًا من تقديم تجربة ناجحة في الحكم، يغرق الجزء المحرر في الفوضى، مما يضعف رمزيته في مشروع التحرير الأكبر.
ما الحل؟ مزيج من الثورة بعقل الدولة
صيغة التوازن بين منطق الثورة ومنطق الدولة ليست مستحيلة. بعض المبادئ يمكن أن ترسم طريق العبور:
1. فصل الأدوار لا فصل المسارات: المقاومة شيء، وإدارة الدولة شيء آخر، يجب تكامل لا تداخل.
2. الشرعية عبر المشاركة: الانتخابات والمساءلة، لا التضحيات التاريخية، هي ما يصنع شرعية مستدامة.
3. نموذج ملهم في الجزء المحرر: تقديم مثال ناجح في الحكم يعيد الزخم للمشروع الوطني بدلًا من أن يُثقله.
4. تداول القيادة: ضخ دماء جديدة لا يعني إقصاء القدامى، بل مشاركة الأجيال.
5. تحالف وطني لا انفراد حزبي: توسيع قاعدة الحكم لتشمل كل من يؤمن بالمشروع الوطني، لا احتكاره.
في الختام: من يحمل البوصلة؟
الثورة بلا مؤسسات تفقد الاتجاه، والدولة بلا مبادئ تتحول إلى مجرد سلطة. التحدي الأكبر ليس فقط في "التحرر"، بل في كيفية إدارة هذا التحرر بأفق دولة عادلة. فالبوصلة الوطنية لا تقودها الشعارات ولا تملكها القيادات، بل يرسمها مشروع جامع يضع الإنسان – لا الحزب ولا القائد – في قلب المعادلة.