الجمعة 29 تشرين الثاني 2024

تقارير وتحقيقات

بيروت مدينة مطفأة وغير صالحة للمرور

حتى إشعار آخر، ستبقى أعمدة الإنارة في بيروت مطفأة ومشاريع الترميم معلقة والحُفر تغزو الطرق، فلم تعد بلدية العاصمة ذات الموازنة الأكبر في البلاد بين البلديات تجذب المتعهدين مع استمرار دفع تكاليف المشاريع بالليرة اللبنانية الفاقدة القيمة.

ويقول مسؤول في البلدية مفضلاً عدم الكشف عن اسمه، لوكالة الصحافة الفرنسية، "ما من مُتعهد يريد العمل مع البلدية".

ليلاً، تغرق شوارع بيروت في الظلام جراء تقنين قاسٍ تفرضه مؤسسة كهرباء لبنان من جهة، وأعمدة إنارة وأضواء أنفاق تلفظ أنفاسها الأخيرة في انتظار صيانتها من جهة ثانية.

تمرّ السيارات بصعوبة بين حفر في بعض الطرق. وعند كل تقاطع، يحاول السائقون تفادي التعرّض لحادثة بسبب إشارات ضوئية مطفأة أو محطمة. ومنذ نحو عام ونصف العام، لم تتجدد عقود صيانة الإنارة والطرقات وإشارات السير.

وأعلنت بلدية بيروت عن مناقصة لتلزيم مشروع صيانة إنارة شوارع وأنفاق بيروت، لكن خلال اجتماعين عقدا الشهر الماضي لتلقي العروض، لم يحضر أحد.

ويعاني لبنان منذ عقود أساساً من مشكلة متفاقمة في قطاع الكهرباء ذي المعامل المتداعية، ومن ساعات تقنين طويلة تتخطى 12 ساعة في بعض الأحيان. وتدين بلدية بيروت اليوم بـ27 مليار ليرة تراكمت على مرّ 15 عاماً لمصلحة مؤسسة كهرباء لبنان، وفق المسؤول في البلدية.

الانهيار الاقتصادي

ومنذ صيف العام 2019، على وقع الانهيار الاقتصادي الأسوأ في لبنان، بدأت الليرة تتراجع تدريجياً أمام الدولار وسط أزمة سيولة حادة. ويلامس سعر الصرف في السوق السوداء اليوم 12 ألفاً للدولار، أما سعر الصرف الرسمي فلا يزال مثبتاً على 1507 ليرة.

وبالتالي لم تعد التلزيمات مربحة وسط عدم القدرة على استيراد مواد أولية يحتاجها المتعهدون بالدولار، وعدم قدرة البلدية على الدفع إلا بالعملة المحلية. ويقول المسؤول، "إذا أردنا تلزيم مشاريع لهذا العام"، بحسب سعر الصرف الذي يريده المقاولون، "فلن تبقى أموال في الخزانة".

في مناطق تضررت من انفجار مرفأ بيروت في 4 أغسطس (آب) الماضي، الذي تسبّب بمقتل 200  شخص ودمار هائل في الأحياء القريبة، تبقى حركة الترميم بطيئة، في ظل أعمال يقوم بها بضعة متعهدين لا يتجاوز عددهم أصابع اليد الواحد.

ولم تتمكن البلدية التي وقعت عليها مهمة تلزيم مشاريع تدعيم البنى المتضررة من إتمام المهمة.
ويقول المسؤول، "قسمنا المباني المتضررة إلى 15 مجموعة، نجحنا في تلزيم أربع مجموعات فقط".
وعلى الرغم من إعلان المناقصة مرات عدة، لم يبد أحد اهتماماً بالمجموعات الأخرى، أما الشركات العاملة حالياً فبدأت تشتكي كون العقد الذي وقعها كل منها بقيمة ملياري ليرة، جرى حين كان سعر الصرف 6 آلاف.
على صعيد آخر، تبدو أزمة نفايات جديدة حاصلة حتماً ما لم تتمكن البلدية من إيجاد حل مع شركة "رامكو" المتعهدة بإزالة النفايات.
ويقول المسؤول، "لا يزال العقد سارياً مع الشركة، لكنها بين الحين والآخر تُهدد بالإضراب وتعليق العمل، لأنها تريد تعديل السعر".
وكانت قيمة العقد بالليرة اللبنانية تعادل 14 مليون دولار سنوياً، بحسب ما يقول رئيس بلدية بيروت جمال عيتاني لوكالة الصحافة الفرنسية، لكنها تبلغ اليوم نحو مليوني دولار، وفق سعر السوق السوداء.
احتجاجات شعبية متقطعة
في شوارع بيروت التي تشهد منذ أشهر طويلة احتجاجات شعبية متقطعة على الوضع المعيشي تركت آثارها على أسفلت المدينة حيث تحرق بين الحين والآخر إطارات، وعلى جدرانها حيث تكتب شعارات تشتم المسؤولين وتطالب بتنحيهم، يبدو الناس منصرفين الى أعمالهم وهمومهم.
ولم تجد مناقصة صيانة الطرق والأرصفة من يتلزمها حتى الآن.

في أحد شوارع منطقة الحمرا، يشهد تقاطع رئيس بين الحين والآخر حادثة سير، فيما إشارة السير مكسورة منذ أشهر، ونادراً ما تعمل.

وكانت هيئة إدارة السير تستخدم مدخولها من عدادات مواقف السيارات في بيروت لتمويل صيانة إشارات السير ونفقاتها، فيما تحصل البلدية بالمبدأ على جزء من العائدات.

وأثار إعلان البلدية عام 2019 أنها لم تتلق أي مبلغ من العائدات تساؤلات عدة. وخلال التحركات الشعبية المناهضة للسلطة تعرض عدد من العدادات للتخريب على أيدي محتجين غاضبين إثر تقارير إعلامية عن شبهات فساد في الملف. ومنذ ذاك الحين، توقفت أيضاً صيانة إشارات السير.

وتضاف إلى المشهد ظاهرة تشهدها بيروت منذ فترة تتمثل بسرقة أغطية الصرف الصحي من شوارعها وحتى كابلات الكهرباء والقساطل المعدنية. ويرجح أن السارقين يبيعون هذه القطع بعد ارتفاع أسعار الحديد بشكل كبير.

وعن تراجع عدد المقاولين، يقول نقيب المهندسين جاد ثابت للوكالة الفرنسية إن السبب "بسيط جداً وهو البلدية".

ويضيف، "الشركات الخاصة بشكل عام لا تريد العمل مع أي مؤسسة رسمية لأن الالتزامات بالليرة، ولا أحد يريد أن يأخذ تلزيمات بالليرة"، مشيراً إلى مناقصات عدة أطلقتها وزارة الأشغال "من دون أن يتقدم أحد". ويوضح "لا يريد الناس الدخول في مشاريع خاسرة".

وتُعد بلدية بيروت أغنى بلديات لبنان، لكن تبقّى اليوم من موازنتها حوالى 800 مليار ليرة، أي 64 مليون دولار فقط، بحسب سعر صرف السوق حالياً.

وتبلغ نفقاتها الثابتة 300 مليار ليرة سنوياً تصرف على الرواتب وخدمات الاستشفاء للموظفين وخدمات تشغيلية وإدارة مشاريع وغيرها، فيما "تدنت الواردات بشكل كبير". فمنذ انفجار المرفأ "لم تجن البلدية إلا مبلغاً يترواح بين 70 و 100 مليار ليرة، بينما يفترض بها أن تجني من ضرائب ورخص بناء ورسوم أكثر من 300 مليار سنوياً"، وفق المسؤول الذي يضيف "العجز المالي يزداد".

وعلى وقع الانهيار الاقتصادي المتمادي، خسرت البلدية أحد أبرز مصادر وارداتها، وهي رخص قطاع البناء، التي تراجعت بمعدلات قياسية.

ويوضح المسؤول، "لم نمنح في العام 2020 سوى أربع رخص بناء فقط" مقابل العشرات سابقاً.
وبغض النظر عن مشاريع الاستثمار والخدمات، فتاريخ بيروت مفعم بمشاريع غير مكتملة، مما جعل البعض ينظر إليها كأحد نماذج الفساد في البلاد.
فحتى قبل الأزمة، لم يكن تلزيم المشاريع يمر من دون مناورات. ويقول مصدر مطلع على عمل البلدية "دفتر شروط المناقصة كان يُعد بحسب المتعهد" الذي يُراد العمل معه، وبالتالي تكون النتيجة محسومة سلفاً.
ويقول نقيب المهندسين بدوره، "منذ ما قبل الأزمة والبلدية غير فعالة"، مشيراً إلى مشاريع عدة تمت دراستها ومنها ما كان ممولاً من الخارج إلا أنه "لم ينفذ شيء منها".
إلا أن جمال عيتاني يعيد عدم تنفيذ المشاريع بشكل أساس إلى "بيروقراطية متعبة"، ومن ثم انخفاض قيمة الليرة. ويقول إن "ثمّة عجزاً عن استكمال مشاريع كانت أساساً قيد التنفيذ".
وذلك كله حوّل بيروت التي كانت مفعمة بالحياة إلى مدينة منهكة و"حزينة"، كما تقول أليسار بودرغم (49 عاماً) في محل بيع حقائب صغير في شارع الحمرا.
تنتظر أليسار ساعات طويلة أن يطل عليها ولو زبون واحد من دون جدوى. وتضيف، "الجميع يتحمل المسؤولية من الناس إلى البلدية فالوزراء والنواب".
عند تقاطع شارع رئيس تنتظر صديقتان داخل سيارة أن تجدا السبيل للمرور، فيما إشارة السير مطفأة. وتقول إحداهن "طبعاً ما من إشارة سير"، فتجيبها الثانية "ما من بلد".
ويقول المسؤول في البلدية، "اذا بقي الوضع على حاله، فالبلدية حتماً في طريقها إلى الإفلاس كما هو وضع البلد".