خاص وكالة النهار الاخبارية/ نابلس – نهلة صالح
تُعد بلدة سبسطية، الواقعة شمال غرب مدينة نابلس، واحدة من أهم المواقع الأثرية في فلسطين، إذ تمتد جذورها إلى آلاف السنين، وتضم آثارًا من العصور الكنعانية ،الرومانية ، البيزنطية والإسلامية.
ورغم قيمتها التاريخية والحضارية العالمية، تواجه البلدة اليوم خطر التهويد والاستيلاء على أراضيها من قبل سلطات الاحتلال الإسرائيلي، التي تعمل بشكل متسارع على طمس هويتها الفلسطينية وتغيير معالمها الأثرية.
تتعرض بلدة سبسطية منذ سنوات لسلسلة من الانتهاكات الإسرائيلية التي تستهدف معالمها الأثرية والتاريخية، في محاولة للسيطرة على رواية المكان وتشويه هويته الفلسطينية الأصيلة.
وكان آخر تلك الاعتداءات قد طال مركز التفسير السياحي التابع لوزارة السياحة والآثار الفلسطينية، ضمن سياسة ممنهجة تهدف إلى فرض واقع جديد في البلدة وإحكام السيطرة على مواقعها الأثرية.
أنشأت وزارة السياحة والآثار الفلسطينية مركز التفسير السياحي عام 2014 عند الطرف الشرقي للساحة العامة للمدينة الرومانية ليكون بوابة تعريفية للزوار، ومصدراً للمعلومات التاريخية الموثوقة عن المدينة التي تعاقبت عليها حضارات كنعانية ورومانية وبيزنطية وإسلامية، من خلال عرض الأفلام الوثائقية التي تروي تاريخ سبسطية ومكوناتها الأثرية، لكنّ هذا المشروع الحضاري الذي جاء ليعزز الوعي بالتراث الفلسطيني، بات منذ سنوات في مرمى الاستهداف الإسرائيلي المباشر.
أفاد السيد خالد حجة، مسؤول مركز التفسير، بأنّ قوات الاحتلال الإسرائيلي اقتحمت المركز بتاريخ 21 أيلول 2025، حيث طردت الزوّار واعتدت على الموظفين، وهددتني بالاعتقال في حال لم أُزل صورة الشهيد ياسر عرفات من جدران المركز وأسلمها لهم، كما أشار إلى أنّ طاقم "صحافة الغد”، الذي كان في زيارة للمركز، تعرّض أيضاً للاعتداء أثناء عملية الاقتحام.
وأضاف السيد خالد حجة أنّ الاعتداءات الإسرائيلية تتكرر بشكل دائم، تكاد تكون شبه يومية، حيث تجبرنا قوات الاحتلال في كل مرة على إغلاق المركز ومغادرته.
تخضع بلدة سبسطية لتقسيم إداري معقّد بموجب اتفاقية أوسلو، حيث تقع أجزاؤها بين المنطقتين ( ب) و( ج) الأمر الذي أتاح لسلطات الاحتلال الإسرائيلي استغلال هذا التقسيم لفرض سيطرتها على المنطقة الأثرية العليا، ومنع الجهات الفلسطينية من إدارتها أو تطويرها.
كما تمنع إسرائيل وزارة السياحة والآثار الفلسطينية من تنفيذ أي أعمال ترميم أو صيانة في الموقع، في حين تسمح للمستوطنين بتنظيم جولات سياحية إسرائيلية داخل المنطقة الأثرية بحماية كاملة من جيش الاحتلال.
أفاد الدكتور ضرغام الفارس، مدير مديرية السياحة والآثار الفلسطينية في نابلس، بأنه منذ السابع من أكتوبر، شهدت بلدة سبسطية انتهاكات متعددة، أبرزها الاقتحامات المتكررة للمستوطنين تحت حماية جنود الاحتلال، بالإضافة إلى حفريات غير قانونية عند مدخل المدينة المعروف بالأبراج الدفاعية والبوابة الغربية.
وأشار الفارس إلى أن العامين الأخيرين شهدا تسارعًا ملحوظًا في إجراءات الاحتلال الإسرائيلي الرامية إلى ضم المزيد من الأراضي وتهويدها، في مشهد يعكس طبيعة الاحتلال الإحلالي الذي يسعى إلى الاستيلاء على الأرض وإفراغها من سكانها الأصليين.
وفي هذا السياق، تم الإعلان العام الماضي عن مشروع لتطوير سبسطية بتكلفة تصل إلى 32 مليون شيكل، وهو في الحقيقة مشروع يهدف إلى ضم المنطقة الأثرية وتهويدها. ولاحقًا، استولى الاحتلال على نحو 1300 متر مربع في منطقة الأكروبوليس، وهي الجزء الأعلى من المنطقة الأثرية في سبسطية، لتحويلها إلى نقطة عسكرية إسرائيلية.
وأوضح الفارس أن الإجراءات الجارية في سبسطية هي في جوهرها خطوات لضم وتهويد الموقع الأثري، من خلال إعادة ترسيم حدوده بطريقة مسيّسة وغير علمية وغير مهنية. فالاحتلال قام بضم المنطقة الواقعة بين سور المدينة الغربية (المدينة الرومانية) والطريق الواصل بين نابلس وجنين إلى المنطقة الأثرية، رغم أنها تقع خارج أسوار المدينة الرومانية القديمة.
وبيّن الفارس أن الهدف من هذه الإجراءات هو الاستيلاء على مزيد من الأراضي بحجة حماية الآثار، ما انعكس سلبًا على أصحاب الملكيات الخاصة في تلك المنطقة، إذ يُمنعون من خدمة أراضيهم أو استغلالها، كما يتعرض بعضهم للاتهام بالاتجار بالآثار أثناء عملهم فيها، رغم أن تلك الأراضي غير أثرية أساسًا، إلا أنه تم إدراجها ضمن حدود الموقع الأثري بعد إعادة الترسيم.
وأكد الفارس أن المضايقات الإسرائيلية تتزايد يومًا بعد يوم، مشيرًا إلى أنه في الوقت الذي يعمل فيه الفلسطينيون جاهدين لترميم الموقع وتحسينه، تمنعهم إسرائيل من تنفيذ أي أعمال صيانة أو تطوير، بل وتعرقل جهود وزارة السياحة والآثار الفلسطينية في حماية الإرث التاريخي للبلدة، حيث خلال قيام فرق وزارة السياحة الفلسطينية بأعمال تنظيف وصيانة في أحد المواقع الأثرية الواقعة ضمن المنطقة (ب)، تدخل جنود الاحتلال، وسرقوا تابوتًا رومانيًا، واحتجزوا الموظفين لساعات قبل إطلاق سراحهم.
كما أفاد رئيس بلدية سبسطية، محمد عازم، بأن سلطات الاحتلال الإسرائيلي أصدرت قرارًا يقضي بتحويل مساحات واسعة من أراضي البلدة إلى موقع أثري، في خطوة تُكمل ما يُعرف بمشروع "حديقة السامرة" الذي بدأ قبل أشهر. ويأتي هذا القرار ضمن سياسات ضم وتهويد الأراضي الفلسطينية التي تنفذها الإدارة المدنية الإسرائيلية في الضفة الغربية.
وأشار عازم إلى أن هذا القرار يمثل خطورة كبيرة على سبسطية وموروثها الثقافي والحضاري، إذ يشمل أراضي ملكية خاصة للفلسطينيين، لكل منهم أوراق تثبت حقه في الأرض، لكن القرار يجعل الملكية تعود بالكامل للإدارة المدنية الإسرائيلية وعصابات المستوطنين.
وأوضح عازم أن مساحة الأراضي المراد تحويلها في المرحلة الأولى تصل إلى نحو 1800 دونم، بينما مساحة بلدة سبسطية بالكامل لا تتجاوز 5000 دونم، ما يجعل هذه الخطوة تشكل تهديدًا كبيرًا للمدينة ولحقوق سكانها.
وأكد أن الاحتلال يستغل القوانين الإسرائيلية الخاصة بأراضي "الدولة" للسيطرة على الأراضي الفلسطينية، ويطبق هذا في سبسطية من خلال إصدار قرارات تعطي الحق الكامل للإدارة المدنية، مما يؤدي إلى حرمان المواطنين من أراضيهم ومنعهم من استغلالها.
في ظل هذه الاعتداءات المتكررة وسياسات التهويد والضم، تواجه سبسطية خطرًا مباشرًا على تراثها التاريخي والثقافي، وعلى ملكية أراضي سكانها الفلسطينيين. وتشير جميع المؤشرات إلى أن سلطات الاحتلال تسعى إلى فرض واقع جديد في البلدة يخالف القوانين الدولية، ويطمس الهوية الفلسطينية الأصيلة للموقع الأثري.
وفي هذا السياق، دعت وزارة السياحة والآثار الفلسطينية المجتمع الدولي إلى التدخل العاجل لوقف هذه الانتهاكات، وإلزام إسرائيل باحترام المواثيق الدولية التي تحمي التراث الثقافي في الأراضي المحتلة، لا سيما اتفاقية لاهاي لعام 1954 واتفاقية اليونسكو لعام 1970.
يبقى السؤال الأكبر: هل سيتحرك المجتمع الدولي لإيقاف هذه الممارسات قبل أن تتحول سبسطية إلى مجرد موقع تاريخي مسيّس يخضع للسيطرة الإسرائيلية الكاملة، أم أن إرث آلاف السنين سيصبح مجرد صفحة في التاريخ لا أكثر؟