السبت 7 حزيران 2025

تقارير وتحقيقات

الفن كأرشيف بديل: تجربة هيسم شملوني بين السجن والمنفى


النهار الاخباريه - المانيا 

 فنّان فلسطيني يرسم الغياب ويحرس الوجدان
بقلم: عصام الحلبي
في عالم تتقاطع فيه المأساة مع الإبداع، يقف الفنان التشكيلي والروائي الفلسطيني السوري هيسم شملوني شاهدًا على زمن المنفى، وحارّسًا لذاكرة تأبى الاندثار. من دمشق التي وُلد فيها عام 1968، إلى سجون النظام السوري، ثم إلى لجوئه القسري في فرنسا، بقي شملوني وفياً للفن كأداة للتعبير، والكلمة كأداة للبوح، مستعيناً بريشة مقاوم تحفر في الذاكرة، وتقاوم بعناد النسيان.

من مهجره... المقاومة بالفن والإبداع
هذا الفلسطيني، المحاط بالحرب واللجوء، فحياته كحياة سائر أبناء شعبه منذ ولادته، يسعى هيسم شملوني لنسيان ألم ومرارة اللجوء عبر فنه. فهو لا يرى في ألم اللجوء نهاية، بل بداية لفعل جمالي. ولأنه عاش بين عدة ثقافات، فهو يسعى دائماً في مد الجسور الثقافية والإبداعية الشرقية بكل ما تحمله من روحانيات والأوروبية بكل ما تحمله من فكر وفلسفة وماديات.. ففي أعماله، والتي تبدو خيوطاً واصلة بين ما هو وجداني وتعبيري مستمدة من الفضاء المشرقي، وما هو بصري فكري من الفضاء الغربي. هذا التفاعل والتلاقح الثقافي تجلّى بوضوح في معرضه الأخير المقام في قاعة كوليت مدينة "نوتردام دوي" في وسط فرنسا.
السجن كاختبار روحي وفني
دخل شملوني سجن صيدنايا وهو في سن السابعة عشرة بسبب مواقفه الوطنية والسياسية، وهناك في تلك العتمة، بدأت ملامح تجربته تتشكّل. لم يكن السجن مجرد عزل عن الواقع أو عقوبة مسلكية، بل كان مختبراً ثقافياً وإنسانياً، حيث التقى هناك بعدد من المثقفين والفنانين المعتقلين، ما كان له بالغ الأثر في صقل موهبته ورؤيته الفكرية والفنية، وفي ذلك يقول: "الرسم كان مقاومتي الشخصية... وذاكرتي الوحيدة التي لم تصادرها الزنزانة."
الفن كهوية وطنية لا تموت
شملوني ليس فناناً تشكيلياً فقط، بل هو روائي وكاتب يحمل في وجدانه الهموم الوطنية والإنسانية، وفلسطين بالنسبة له مفهوم يتجاوز الجغرافيا. لذا أتت أعماله التشكيلية نابضة بالرمزية والتجريد والتجريب، لكنها دائماً متمسكة بخيوط الذاكرة الجمعيّة. كما يحمل معه مشروعاً أدبياً يتجلّى في روايتيه "قيد النشر":
"سماء رمادية، ظل باللون الأصفر"
"بوح من دفاتر الغربة".

أما معرضه الحالي "شظايا الذاكرة"... فيمكن القول عنه بأنه رسم بالضوء ما لا تحتمله العتمة.
ففي 3 حزيران/يونيو 2025، افتتح شملوني معرضه الجديد تحت عنوان "شظايا الذاكرة" داخل قاعة كوليت، حيث قدّم 30 لوحة متنوعة الأحجام، وتنتمي إلى اتجاهات فنية مختلفة لكنها تلتقي في فكرة واحدة: إعادة ترميم الإنسان مما تبقّى من الحطام، ومقاومة الاندثار.
يقول الفنان: "أنا لا أرسم العالم كما هو، بل كما ينبغي أن يكون."
وهكذا جاء المعرض، لا كتظاهرة فنية فقط، بل كأرشيف بصري لجروح مفتوحة ولا تزال تنزف. تتقاطع فيه ثيمات المنفى، الهوية، الدمار، والحب، في حوار حادّ بين ما مضى وما لا يزال يصرخ داخل الوجدان.
من بين أطلال نفسه نبتت لوحاته التي تنبض بالحياة
ومنها لوحات تناولت تدمير الإرث الحضاري في سوريا والعراق وفلسطين على يد القوى الظلامية رغم اختلاف منابتهم الدينية، وفيها لا يُقدّم شملوني سرداً للخراب، بل يحاول بعث الرموز من جديد وكأنها ولادة حديدة، وفيها تتحول اللوحة إلى مقاومة بصرية ضد الإبادة الثقافية، وسجل بديل لما فشلت في حفظه الذاكرة.
فلسطين: من الذاكرة إلى الأبدية
ففلسطين لا تغيب في أعماله، بل هي الأكثر حضور في اللوحات وتمتدّ، كعلامة على أن الفن بالنسبة لشملوني ليس فعل توثيق وجداني فقط، بل هو حالة إبداعية ومقاومة روحية متجددة. وحضور فلسطين في المعرض ليست خريطة أو وطناً مفقوداً فقط، بل قصيدة موزعة بين المنفي والحنين، بين الرمل والغيمة، بين قبة في يافا وآثار المسيح الذي مشى من قريته في الطابغة على مياه بحيرة طبرية ومخيم في الشتات.
المسيح يولد من قصيدة
من بين اللوحات اللافتة، تظهر لوحة بعنوان "المسيح يولد من قصيدة"، وهي عبارة عن تركيب بصري رمزي شديد الحساسية، يربط بين المقدس والشعري، ويعيد تعريف الخلاص كفعل لغوي لا لاهوتي. هذه اللوحة تمثّل ذروة النضج الرمزي لدى شملوني، وهي شهادة على انتقاله من الفنان االمصور إلى المفكر البصري.
الحب والتراث... جذور المقاومة والبقاء
بعض اللوحات تفاجئ المتلقي ببساطتها وعمقها، حيث يظهر الحب كفعل موازٍ للمقاومة، والحنين كأداة للبقاء. كما تظهر في أخرى عناصر مستمدة من التراث الشعبي الفلسطيني والشامي بمفهومه الواسع، لا بوصفها نوستالجيا، بل كمادة قابلة لإعادة التكوين والتأويل، في بحث دائم عن معنى جديد.
مسيرة معارض تجسد الالتزام
لم يكن "شظايا الذاكرة" التجربة الوحيدة في مسيرة شملوني. فقد سبق أن شارك ونظم عدة معارض في سورية ولبنان وبلدان أخرى، أبرزها:

معرضه "شظايا حرية" – دكار، السنغال (2016): ضمّ 23 لوحة ربطت معاناة الفلسطيني بتاريخ الاستعباد الأفريقي. كما شارك مه نخبة من الفنانين السينغاليين والأفارقة من عشر بلدان إفريقية وتحت رعاية الرئيس السنغالي في متحف "غوريه" كصرخة إنسانية مدوية من أجل الحرية.
وهو فنان ملتزم ومثابر على المشاركة الدائمة في جميع معارض اتحاد الفنانين التشكيليين الفلسطينيين في سورية حتى خروجه من سورية في أواخر 2012.. كما أقام عدة معارض في عدد كبير من المدن الفرنسية وعدد من العواصم الأوربية.."
كل هذه المعارض تؤكّد التزام شملوني بقضايا الحرية والعدالة والهوية، وهذا ما جعلت من لوحاته شهادات حية لا تخضع لفعل الزمن.

هيسم شملوني... لاجئ منفى يقاوم النسيان
يقيم شملوني حاليًا في فرنسا، حيث يواصل مشواره الفني والأدبي، متفاعلاً مع المشهد الثقافي العربي الأوروبي على السواء، دون أن يتخلى عن بوصلته الفلسطينية. فهو في فنه، لا يصرخ، بل يهمس بما تبقّى من إنسانيتنا، ويجعل من الريشة وسيلة لتذكير العالم بأن الشعوب لا تنقرض حين تحمل ذاكرتها بين أضلعها. ونحافظ عليها
"شظايا الذاكرة" ليس معرضاً لتتأمله فقط، بل للدخول إليه لا كمتلقي بل كشريك في حمل الرسالة الإنسانية. وللمشاركة في ترميم ما كسر فينا.. وفي النهاية، يقول شملوني:
"أنا لا أقاوم من أجل العودة فقط، بل لأحمل الذاكرة إلى العالم، كي لا ننسى".