النهارالاخباريه – احمد صلاح عثمان - لندن
لم تعد أزمة المياه في طهران مجرّد تحذير بيئي عابر، بل تحوّلت خلال الأشهر الأخيرة إلى تهديد وجودي يطال واحدة من أكبر مدن الشرق الأوسط. فالعاصمة الإيرانية، التي يقطنها أكثر من عشرة ملايين نسمة، وجدت نفسها على مسافة قصيرة من سيناريو "اليوم صفر”، حيث تجف الصنابير وتُدار الحياة بنظام الحصص.
خلال ذروة الأزمة، انخفض مخزون السدود التي تغذي طهران إلى مستويات غير مسبوقة، فيما تراجعت كميات الأمطار بشكل حاد مقارنة بالمعدلات التاريخية. هذا الواقع انعكس مباشرة على حياة السكان، مع انقطاعات متكررة للمياه، وضعف شديد في الضغط، ومناشدات رسمية لتقليل الاستهلاك المنزلي إلى الحد الأدنى.
التساقطات الأخيرة حول العاصمة جنّبت طهران الأسوأ، ووفّرت هدنة قصيرة للنظام المائي المنهك.
إلا أن هذه الأمطار، وفق خبراء، لا تعني نهاية الأزمة، بل تؤجل انفجارها فقط. فالمدينة لا تزال تعتمد على منظومة مائية هشة، غير قادرة على تحمّل موجات الجفاف المتكررة.
حتى الرئيس الإيراني أقرّ بخطورة الوضع، ملوّحًا سابقًا بإمكانية إخلاء أجزاء من العاصمة في حال استمرار الجفاف، في تصريح يعكس حجم القلق داخل دوائر الحكم.
تسخن إيران بمعدل يفوق المتوسط العالمي، ويشهد الشتاء تقلصًا واضحًا في مدته وكمياته، فيما يتراجع الغطاء الثلجي في جبال زاغروس والبرز، المصدر الطبيعي الأهم لتغذية الأنهار والسدود. هذه التحولات المناخية جعلت الاعتماد على الأمطار والثلوج أكثر خطورة من أي وقت مضى.
لكن اختزال الأزمة في المناخ وحده يخفي جانبًا أكثر تعقيدًا: عقود من سوء إدارة الموارد المائية، ونقص الاستثمار في البنية التحتية، والتوسع العشوائي في حفر الآبار الجوفية، لا سيما لخدمة الزراعة والصناعة، غالبًا خارج أي رقابة فعلية.
مدينة نمت أكثر مما تحتمل
طهران تضاعف حجمها السكاني عشرات المرات خلال أقل من قرن، من مدينة متوسطة في منتصف القرن الماضي إلى كتلة حضرية مكتظة تستهلك كميات هائلة من المياه هذا النمو السريع لم يرافقه تخطيط مستدام، بل زاد الضغط على موارد طبيعية محدودة أصلًا.
في هذا السياق، طُرح مجددًا اقتراح نقل العاصمة إلى منطقة أخرى، باعتباره حلًا جذريًا. غير أن هذا الطرح يواجه انتقادات واسعة، ليس فقط بسبب كلفته الباهظة في ظل العقوبات والأزمة الاقتصادية، بل لأنه يتجاهل جوهر المشكلة.
يرى مراقبون أن نقل العاصمة قد يتحول إلى مشروع سياسي وإعلامي، يستهلك موارد نادرة بدل توظيفها في إصلاحات أكثر إلحاحًا، مثل إعادة هيكلة إدارة المياه، وتسعير الاستهلاك بشكل عادل، وتقليص الهدر الزراعي، وضبط التوسع العمراني غير المنظم.
تجربة مدن أخرى حول العالم أظهرت أن النجاة من "اليوم صفر” لا تتحقق بالمشاريع العملاقة وحدها، بل بتغيير أنماط الاستهلاك، وربط حجم المدن بقدرتها البيئية، والاعتراف بأن الماء لم يعد موردًا لا ينضب.
نجت طهران مؤقتًا من العطش، لكن الإنذار لا يزال قائمًا. فالأزمة الحالية ليست حادثًا استثنائيًا، بل مؤشرًا على مستقبل مائي بالغ الهشاشة، قد تعيشه العاصمة مجددًا في أي موسم جفاف قادم، ما لم تُتخذ قرارات جذرية تعالج المشكلة من جذورها، لا من عناوينها الكبرى فقط.