الجمعة 22 تشرين الثاني 2024

هل تستطيع إثيوبيا أن تنجو من براثن الشقاق؟


النهار الاخباريه -   قسم  التحليل
أمر آبي أحمد، رئيس الوزراء الإثيوبي في أكتوبر (تشرين الأول) بشن هجوم على قوات المتمردين التيغرانيين (نسبة إلى تيغراي) الذين يسيطرون على معظم إقليم تيغراي في شمال البلاد وجزء من إقليمي أمهرة وعفر المجاورين. وهدف آبي من ذلك إلى إجبار المتمردين على مواجهة أخيرة على أرضهم، ووضع حد في نهاية الأمر لحرب دامت سنة كاملة وأوقعت آلاف القتلى كما شردت ما يزيد على 1.7 مليون شخص. وبدلاً من ذلك، يبدو أن تلك المناورة قد أدت إلى نتائج عكسية، إذ لم تفشل القوات الإثيوبية في التقدم فحسب، بل عانت سلسلة من الهزائم جعلت العاصمة أديس أبابا عرضة للهجوم، الأمر الذي أجبر آبي على إعلان حالة الطوارئ هذا الأسبوع ودعوة السكان إلى حمل السلاح للدفاع عن المدينة.
وحتى لو تكلّل هجوم آبي بالنجاح، لواجه تحدياً كبيراً لناحية إعادة دمج تيغراي واستعادة نوع من الشعور بهوية وطنية جامعة. لكنه الآن، وبعدما بات قاب قوسين أو أدنى من الفشل، أثار رئيس الوزراء تساؤلات حول مقدرته الشخصية على الحكم، وأيضاً حول وجود دولة إثيوبيا نفسها في شكلها الحالي.
جادل ريتشارد هارتشورن، وهو متخصص بالجغرافيا السياسية، جدالاً ذائع الصيت أن قابلية أي دولة للبقاء تعتمد على ما إذا كانت قواها الجاذبة نحو المركز (التي توحد) تفوق قواها الطاردة من المركز (التي تُقسم). وتشتمل القوى الأولى على جهود الحكومة لإنشاء بنية تحتية، وتوفير الخدمات، وتعزيز قوة الحدود، فضلاً عن الجهود الرامية إلى إقناع بفكرة الدولة، إما بالترويج لمشتركات مثل الثقافة الوطنية واللغة والاقتصاد، وإما لرؤى جامعة أخرى. أما العناصر الثانية فتشمل أراضي شاسعة أو عديمة الجدوى [بور] وغير عملية، وبنية تحتية ضعيفة، ونقصاً في الموارد، وانقسامات عرقية واجتماعية راسخة.
ولعل التحدي الأساسي الذي يواجهه آبي يتمثل في تعاظم القوى النابذة أو المُفرقة [الخلافات في الأفكار السياسية، واللغة، والدين والأقوام الإثنية] في إثيوبيا أكثر من قوى الجذب المركزي [في أمة سياسية منضوية في وحدة سياسية]. فبالإضافة إلى تيغراي، هناك عدد من حالات التمرد الأخرى المستمرة منذ وقت طويل. وتواصل العنف بين المجموعات الإثنية، وفي بعض الحالات، زادت حدته.
وتأجج التوتر العرقي والإقليمي أكثر فأكثر من طريق شن الأطراف كلها حملات دعائية (بروباغندا) وبسبب منصات التواصل الاجتماعي مثل "فيسبوك" و"تويتر" التي سهّلت انتشار خطاب الكراهية وأسهمت في تفاقم الفظاعات، والأعمال الوحشية.
صارت إثيوبيا مصدراً لعدم الاستقرار بدلاً من كونها حصناًمنيعاً في وجهه.
كان الصراع في تيغراي أكثر الصراعات المستشرية في البلاد زعزعة للاستقرار، ولا سيما أنه زرع الشقاق في التحالف الحاكم في إثيوبيا منذ عام 1991 وقطعه إرباً. فالحرب تضع حكومة آبي في مواجهة "الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي"، التي هيمنت ذات يوم على الحكومة الإثيوبية، غير أنها بنت جيشاً هائلاً من المتمردين، وتسعى في الوقت الراهن إلى إجراء استفتاء لتحديد مستقبل تيغراي وحيازة صلاحيات أوسع في الحكم الذاتي. ولقد قام كل من الجانبين بتأطير الصراع أحياناً من منظور إثني، ما أدى إلى تفاقم خطر انتشار العنف العرقي على نطاق واسع. ويعتبر كل منهما رؤية الآخر لكيفية حكم إثيوبيا غير منسجمة بتاتاً في الجوهر مع رؤيته الخاصة. وقد اجتذب الصراع أيضاً مجموعة من القوى الأجنبية، بما فيها الصين ومصر وإريتريا والصومال والسودان وتركيا والولايات المتحدة، الأمر الذي دفع كلاً من الطرفين إلى اتهام الآخر ببيع السيادة الإثيوبية والتفريط بها، كما زاد من مخاطر وقوع إثيوبيا ضحية حروب بالوكالة تخوضها قوى عالمية وإقليمية متنافسة.
ونظراً إلى أن إثيوبيا هي أكبر دول شرق أفريقيا وأقواها، لطالما اعتبرها حلفاؤها قوة لحفظ الاستقرار في منطقة مضطربة عادة. لقد كانت شريكاً قوياً للولايات المتحدة في مكافحة الإرهاب، ولعب جيشها دوراً رائداً في محاربة حركة "الشباب" المتطرفة في الصومال المجاورة. مع ذلك، فقد أشار النقاد، حتى قبل اندلاع الأزمة الأخيرة، إلى أن تدخل إثيوبيا في الصومال غالباً ما كان يضر أكثر مما ينفع. ومع اشتداد حدة الصراع في تيغراي أصبح من الواضح بشكل متزايد أن البلاد صارت مصدراً لعدم الاستقرار بدلاً من كونها حصناً منيعاً في وجهه.
وحتى لو كان من الممكن وقف القتال، فإن الخلافات الشديدة حول هوية من هو مخول بحكم إثيوبيا وعلى أي وجه يحكمها، ستستمر. وما لم تكن هناك رؤية مقنعة ومشتركة على نطاق واسع للدولة الإثيوبية، فلن يستطيع آبي ولا أي خليفة محتمل له أن يحول دون غلبة قوى الطرد المركزي على قوى الجذب المركزي. وقد كتب هارتشورن قائلاً "يجب أن يكون لدى الدولة غاية تسوغ وجودها". إذا أرادت إثيوبيا أن تكتب لها الحياة في شكلها الحالي، فستحتاج إلى الخروج بفكرة من هذا القبيل تسوغ وجودها.
معركة شاقة
اندلعت الحرب في تيغراي في نوفمبر (تشرين الثاني) 2020، بعد أشهر من التوتر المستعر بين حكومة آبي و"الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي"، التي رفضت الانضمام إلى "حزب الازدهار" الذي أسسه آبي. وقدم رئيس الوزراء النزاع بادئ الأمر على أنه "عملية لحفظ الأمن" سريعة ضرورية لاستئصال من زعم أنهم أعضاء فاسدون ومتمردون من النخبة في "الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي". وسرعان ما سيطرت قوات الحكومة الإثيوبية مدعومة بقوات من إريتريا المجاورة، على بلدات رئيسة في تيغراي وعلى مدينة مقلى [ميكيلي]. غير أن آبي أساء تقدير مدى صعوبة الاحتفاظ بهذه المنطقة. وكانت "الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي"، التي خاضت حرب عصابات ناجحة ضد نظام "ديرغ" ]اللجنة التنسيقية للقوات المسلحة والشرطة التي شكلت الحكومة العسكرية المؤقتة في إثيوبيا الاشتراكية[ الماركسي اللينيني منذ عام 1974 وحتى عام 1991، قد تراجعت في أعقاب ذلك وانفرط عقدها كما أطلقت تمرداً لاستعادة السيطرة على المنطقة. وسرعان ما تحول الصراع مع "الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي" إلى شوكة في خاصرة آبي، إذ كانت هناك انتكاسات عسكرية تسير جنباً إلى جنب مع ورود أدلة على ارتكاب انتهاكات لحقوق الإنسان على نطاق واسع، ما أدى إلى تشويه صورة الإصلاحي التي عمل على رسم معالمها لنفسه بعناية.
كان حرياً بآبي أن يتوقع ويستبق مدى صعوبة القضاء بدقة بالغة على قيادة الجبهة. فهو كان قبل أن يصبح رئيساً للوزراء في عام 2018، رئيساً للاستخبارات في الحكومة السابقة، المعروفة باسم "الجبهة الثورية الديمقراطية الشعبية الإثيوبية"، التي حكمت إثيوبيا قرابة ثلاثة عقود. ولقد هيمنت "الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي" على تلك الحكومة، وتمتع قادتها بمناصب عسكرية بارزة في ظلها كما سيطروا على شطر كبير من الاقتصاد. ولم يكن هؤلاء ليتنحوا جانباً ببساطة، على الإطلاق. مع ذلك فإن آبي قد أخفق في تقدير مدى شراسة مقاومة ذلك التنظيم لأي محاولة لغزو إقليم تيغراي أو الإمساك بأراضيه بالقوة والسيطرة عليها.
فهو سعى إلى إنشاء إدارة مؤقتة، حتى إنه اختار المسؤولين الجدد بعناية من بين التيغرانيين أبناء الإثنية المحلية. غير أن هؤلاء الإداريين كانوا إما غير قادرين على كسب قلوب مواطنيهم وعقولهم من جديد، وإما كانوا يتعاونون مع "الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي" بشكل نشيط.
وعلى الرغم من ادعاءات الحكومة المتكررة بأنها كانت تحقق الانتصارات في الحرب، كانت قوات تيغراي تخوض قتالاً فعالاً استماتت فيه من أجل الحؤول دون هيمنة القوات الإثيوبية [النظامية] على الإقليم وتمكنت في نهاية المطاف من استعادة السيطرة على معظم أراضي تيغراي في يونيو (حزيران) الماضي، ما اضطر القوات الإثيوبية إلى الانسحاب على نحو محرج. والأسوأ من ذلك بالنسبة إلى رئيس الوزراء، هو أن قوات تيغراي لم تتوقف عند هذا الحد بل غزت أجزاءً من إقليمي أمهرة وعفر المجاورين، في محاولة منها لإرغام الحكومة الإقليمية هناك ]في أمهرة[ على التخلي عن منطقة متنازع عليها تحت سيطرتها، ويشار إليها عموماً باسم "تيغراي الغربية".
وكان الهجوم الأخير الذي شنه آبي قد صُمّم من أجل طرد قوات تيغراي من إقليمي أمهرة وعفر وقطع خطوط الإمداد الخاصة بهذه القوات حتى لا يعود في وسعها أن توفر لشعب تيغراي احتياجاته. إلا أن القوات الإثيوبية لم تخفق في استعادة الأراضي فحسب، بل فقدت أيضاً السيطرة على مدينتي ديسي وكومبولشا في أمهرة، ما أفسح المجال، إلى حد كبير، أمام وصول المتمردين إلى مطار وإحباط محاولة آبي قطع الطريق إلى الإقليم. لكن هناك جانباً أكثر إثارة للقلق من وجهة نظر حكومة آبي، وهو أن قوات تيغراي قد بدأت تنسق مع "جيش تحرير أورومو" (OLA)، الذي عزز حدة تمرده المستمر من زمن طويل وبات يضيق الخناق على العاصمة من جهة الجنوب الغربي. وتفيد تقارير صحافية أخيرة بأن الحركتين المتمردتين قد تشكلان مع مجموعات معارضة أخرى تحالفاً مضاداً لآبي يرفع لواء "الجبهة الموحدة للقوى الفيدرالية الإثيوبية".
ومن الممكن في الوقت الحالي استشراف أربع نتائج محتملة للنزاع، بوسعها كلها أن تهدد في نهاية المطاف بقاء الدولة الإثيوبية نفسها. وتتمثل الأولى في انتصار متمردي تيغراي وأورومو على الجيش الإثيوبي الذي يشاع حالياً بأنه آخذ بالانهيار. ومن شأن نتيجة كهذه أن تحل الصراع مع حكومة آبي، بيد أنها تقتضي أن يتوصل كل من "الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي" و"جيش تحرير أورومو" على سبيل لحكم البلاد معاً، مع أن أجزاءً واسعة منها تكن لهما العداء. كما أن اضطرار المجموعتين إلى تقاسم السلطة سيؤدي على الأغلب إلى دفع التوترات القائمة بينهما منذ زمن طويل إلى ذروته، ما سيفاقم خطر تعاظم الاضطراب السياسي.
أما النتيجة الثانية الممكنة فهي التوصل إلى تسوية ما عبر التفاوض. فالإقرار بأن الفوز العسكري قد يودي بها إلى أفق مسدود شأن آبي -أي محاولة السيطرة على إقليم مترامي الأطراف في مواجهة تمرد لا مناص من اندلاعه- قد يحمل "الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي" على تقرير عدم الزحف على أديس أبابا، وتسعى رسمياً عوضاً عن ذلك إلى تحقيق السلام بشروط مواتية لها. ويمكن لزعماء إقليم تيغراي أن يطالبوا، من بين أمور أخرى، باستفتاء على قدر أكبر من الحكم الذاتي لمنطقتهم والحماية لها. لكن من المرجح أن يؤدي ترتيب من هذا النوع إلى تصعيد في التوتر مع شريكهم "جيش تحرير أورومو" الذي يزعم أن العاصمة هي بمنزلة القلب لموطنه أوروميا. كما أن هذه النتيجة ستترك أيضاً الدوافع الكامنة وراء الصراع من دون معالجة، ما يثير تساؤلات حول قدرة حل كهذا على الدوام.
قد ينضم آبي إلى القائمة المتنامية لقادة أفارقة خُلعوا أخيراً.
وهناك سيناريو ثالث محتمل يتمثل في إزاحة آبي من منصبه، وذلك على الأغلب من قبل قادته العسكريين أنفسهم. ورئيس الوزراء الذي لقي يوماً التكريم كصانع سلام وإصلاحي، صار على نحو متزايد يبدو عبئاً، وليس من المستحيل تخيل أنه سينضم إلى القائمة المتنامية لقادة أفارقة خُلعوا أخيراً، بمن فيهم الغيني ألفا كوندي، وباه نداو من مالي. غير أن انقلاباً عسكرياً لن يؤدي بالضرورة بالنزاع إلى الحل، إذ يبدو الجيش الإثيوبي منقسماً داخلياً وغير قادر على إلحاق هزيمة بـ"الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي" و"جيش تحرير أورومو" معاً بمفرده.
وثمة نتيجة محتملة أخيرة وهي الجمود المطول. يمكن للقوات الإثيوبية أن تتمسك بالعاصمة وبخط القطار الذي يصل بين أديس أبابا وجيبوتي، في وقت تخفق باستعادة أي جزء من الأراضي التي تسيطر عليها قوات تيغراي وأورومو. وإذا حصل هذا فعلاً، فإن آبي سيتعرض لضغوط أكبر كي يحاول التوصل إلى تسوية عن طريق التفاوض. ولكن على الرغم من إجراء مباحثات سرية بين ممثلين عن الطرفين في العاصمة الكينية نيروبي، فإنهما لم يحرزا سوى قدر ضئيل من التقدم. ويعود ذلك جزئياً إلى أن كلاً من الفريقين يضم متشددين يرون أن التسوية هي كالخيانة. بكلمات أخرى، بصرف النظر عن مآل الصراع الحالي وخاتمته، فإن الاستقرار، ونجاة الدولة الإثيوبية نفسها، في نهاية المطاف، يقتضيان من قادة البلاد أن يضعوا رؤية جديدة لبلادهم، وهي الحاجة التي يبدو أنهم عاجزون عن توفيرها الآن.
قوى التقسيم
سلطت الأزمة في تيغراي الضوء على مدى حدة خطر التشظي الوطني وانفراط عقده، إلا أن بذور عدم الاستقرار الإثيوبي لم يجرِ زرعها في عام 2020، ولا 2012 حين توفي ميليس زيناوي زعيم "الجبهة الثورية الديمقراطية الشعبية الإثيوبية". فقد كانت تلك البذور كامنة ومضمرة طوال الوقت، إذ لم يتفق الإثيوبيون في أي مرحلة من تاريخهم على هوية زعمائهم الشرعيين أو على الكيفية التي يجب أن تتقاسم بها الجماعات الإثنية المختلفة السلطة. خذ، على سبيل المثال، مؤسس إثيوبيا الحديثة، الإمبراطور مينيليك الثاني. ففي حين يمجده أبناء أمهرة ويعلون من شأنه كبطل قومي، يرى العديد من الأورومو والصوماليين والتيغرانيين أنه كان إمبريالياً يملك الرقيق ويستولي على الأراضي.
وينطبق الشيء نفسه على هيلا سيلاسي، الإمبراطور الذي حكم إثيوبيا بين عامي 1930 و1974، وقضى معظم فترة عهده وهو يحاول إخماد حركات التمرد. وفي الحقيقة، آبي، الذي أمر أخيراً بشن غارات جوية مثيرة للجدل على مدينة مقلي، ليس أول زعيم إثيوبي يعمد إلى قصف إقليم تيغراي من أجل إخضاعه والسيطرة عليه. فقد فعل هيلا سيلاسي الشيء نفسه بعد عودته من المنفى خلال الحرب العالمية الثانية، حين دعا سلاح الجو الملكي البريطاني كي يحاول إنهاء حملة التيغرانيين الرامية إلى حيازة الحكم الذاتي.
وفي الواقع، قلما عرفت إثيوبيا السلام الداخلي. تميزت حقبة "ديرغ"، التي استمرت من عام 1974 إلى 1991، بالحرب الضارية، وعدم الاستقرار، والمجاعة. فبعد إطاحة هيلا سيلاسي بانقلاب عسكري، سعى الكولونيل منغستو هايلي مريام إلى فرض رؤيته الاشتراكية على البلاد.
غير أن الخلافات حول كيفية حكم إثيوبيا والتوفيق بين مجتمعاتها الإثنية المختلفة، بقيت حاضرة. وحاول منغستو مريام بين عامي 1977 و1979 أن يُحكم قبضته على السلطة من خلال عمليات التطهير المعروفة باسم "الإرهاب الأحمر" التي راح ضحيتها آلاف الناس. وفي عام 1977، غزت الصومال منطقة أوغادين في إثيوبيا، ما أدى إلى اختلاط الصراعات الداخلية بالخارجية. وكان التشرذم السياسي خلال هذه الفترة كبيراً إلى درجة أنه أدى إلى استقلال إريتريا عن إثيوبيا وصعود حركتي "الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي" و"الجبهة الثورية الديمقراطية الشعبية الإثيوبية" المتمردتين، وقد مضت الأخيرة قدماً إلى الأمام لتتولى السلطة بالقوة في عام 1991.
كانت فترة حكم "الجبهة الثورية الديمقراطية الشعبية الإثيوبية" مستقرة نسبياً، بالمقارنة مع ما سبقها. بيد أن العديد من أوجه التوتر والخلافات التي سادت في عهدي هيلا سيلاسي ومنغستو مريام، قد طُمست وتُستر عليها أو قُلل من أهميتها بدلاً من حلها. في هذه الأثناء، أدى نمط الحكم في "الجبهة الثورية الديمقراطية الشعبية الإثيوبية" إلى نشوب خلافات جديدة. ويعتبر العديد من أبناء إقليم تيغراي هذه المرحلة عصراً ذهبياً، اتسم بالتطور السريع، والحد من الفقر، والدعم الدولي القوي. ومع ذلك، يتذكر الكثيرون غيرهم من أبناء الإثنيات الأخرى القمع المتفشي في تلك السنوات والانتخابات المزورة التي حافظت على هيمنة "الجبهة الثورية الديمقراطية الشعبية الإثيوبية" على البلاد وهيمنة التيغرانيين على "الجبهة الثورية الديمقراطية الشعبية الإثيوبية". وتعززت وجهة النظر هذه مع وصول آبي إلى السلطة، خصوصاً منذ اندلاع الحرب في تيغراي واستعمال أنصار رئيس الوزراء لها من أجل حرف الأنظار عن سجل الحكومة في مجال حقوق الإنسان. وجادل هؤلاء بأنه لا يحق للأجانب أن ينتقدوا آبي، لأنهم لزموا الصمت حين كانت "الجبهة الثورية الديمقراطية الشعبية الإثيوبية" تقدم على الترهيب والتعذيب وزجّ خصومها في السجن.
لم يتفق الإثيوبيون في أي مرحلة من تاريخهم على هوية زعمائهم الشرعيين أو على الكيفية التي يجب أن تتقاسم بها الجماعات الإثنية المختلفة السلطة.
من السهل النظر إلى هذه الانقسامات على أنها نتيجة حتمية في بلاد من حجم إثيوبيا وتنوعها الهائلين، فهي البلد السابع والعشرون من حيث المساحة في العالم كما أنها موطن لما يزيد على 80 مجموعة إثنية مختلفة. لكن لا يمكن للجغرافيا أو الديموغرافيا [البنية السكانية وعديدها] أن تكون قدراً محتماً. وقد غذى القادة الإثيوبيون المتعاقبون التوترات الإثنية والإقليمية، إذ كان كل واحد منهم يحكم بطريقة سوغت شعور جماعة من الجماعات المحلية في الأقل بالظلم.
والحق أن أزمة تيغراي الحالية هي خير مثال على ذلك. فقد كانت حكومة آبي حريصة على الادعاء بأنها تخوض معركة مع "الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي" وليس ضد شعب تيغراي. غير أن أفعالها، بما في ذلك عزل العديد من أبناء الإقليم من المناصب الحكومية، قد قوضت هذا الادعاء. لقد ارتكبت القوات الإثيوبية والإريترية فظائع، استهدف بعضها المدنيين، كما حالت الحكومة دون وصول المساعدات الإنسانية، الأمر الذي أوجد في تيغراي ظروفاً شبيهة بتلك الناجمة عن مجاعة. ودعا الشماس دانيال كيبريت، وهو حليف مقرب من رئيس الوزراء، إلى استئصال "الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي" بشكل كامل، وكان آبي نفسه قد أثنى سابقاً على فكرة أن "العشب يُقتلع من بلدنا". وتسبب هذا النوع من الخطاب، بالإضافة إلى تقارير عن تعرض أبناء تيغراي في مناطق أخرى من البلاد للاحتجاز والضرب، في تأجيج المخاوف من الإبادة وتعزيز الروابط بين "الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي" وأهل إقليم تيغراي، الذين ينتابهم إحساس بأن مجتمعهم يتعرض للهجوم وأنهم قد لا يشعرون بالأمان أو لا يعاملون معاملة لائقة في ظل حكومة إقليمية موالية لآبي. وفي الوقت ذاته، وُجهت اتهامات إلى قوات تيغراي بارتكاب انتهاكات خاصة بها لحقوق الإنسان، بما فيها إساءات وقعت خلال المعارك الأخيرة في أمهرة. وقد أثارت هذه التقارير بدورها مخاوف بين الجماعات المحلية الأخرى مما يمكن أن يتمخض عنه غزو محتمل لمتمردي تيغراي وأورومو العاصمة أديس أبابا.
وعلى مدى العامين الماضيين، ترسخت الانقسامات في إثيوبيا بسبب شيوع خطاب الكراهية عبر وسائط التواصل الاجتماعي. وأقامت الحكومة الإثيوبية آلة دعائية قوية لنشر المواد المؤيدة لرئيس الوزراء على شبكات الأقمار الاصطناعية ومنصات "فيسبوك" و"تويتر" و"واتساب"، فيما كانت تفرض رقابة على المعارضة. وفي الوقت ذاته، تروج أيضاً جماعات المتمردين وأنصارهم، لرواياتهم عبر وسائل التواصل الاجتماعي ومن خلال منافذ مثل بيت إعلام تيغراي. وغالباً ما تستعين على ذلك بأكاذيب صارخة من شأنها أن تثير فتنة. وفي مارس (آذار) الماضي، اتخذ البرلمان الإثيوبي إجراء يطالب شركات التواصل الاجتماعي بإزالة خطاب الكراهية في غضون 24 ساعة ]من ظهوره على منصاتها[، لكن فاته أن يشرح كيفية حصول ذلك بالضبط أو ما العواقب التي ستكون من نصيب شركات لا تمتثل لهذا الطلب. وتقوض أوجه غموض مشابهة قوانين أخرى معنية بكبح خطاب الكراهية المتفشي على وسائط التواصل الاجتماعي.
وحتى ولو كان لدى إثيوبيا إطار عمل تنظيمي واضح، فسيكون من الصعب عليها أن تضع حداً لانتشار المعلومات المضللة الخطيرة عبر الإنترنت. فالتعرف على هذا المحتوى وإزالته يتطلبان فهم لغته والسياق الذي يندرج فيه. من ناحية أخرى، أرسل "فيسبوك" خلال جائحة "كوفيد-19"، العديد من المشرفين على المحتوى البشري إلى بيوتهم، وأخذ يعتمد على خوارزميات ليست جيدة بما فيه الكفاية على مستوى اكتشاف خطاب الكراهية الذي يشتمل على تعابير اصطلاحية محلية أو المكتوب بلغات غير متداولة على مستوى العالم. ولم يقم "فيسبوك" في إثيوبيا حتى بتوفير معايير مجتمعه باللغة الأمهرية، وهي إحدى اللغات الأكثر انتشاراً في البلاد. وكانت النتيجة تفشي خطاب الكراهية، الذي صار بعضه فتاكاً. وكما قالت فرانسيس هوغان، المبلغة عن مخالفات "فيسبوك" أمام أعضاء مجلس الشيوخ الأميركي في جلسة استماع أجريت في أكتوبر إن "الحديث الخطير على الإنترنت قد أدى إلى عنف حقيقي يلحق الضرر بالناس لا بل يقتلهم". واستشهدت بحالة إثيوبيا على وجه الخصوص، معترفة بأن عملاق وسائل التواصل الاجتماعي قد شارك في تفتيت تلك الدولة.
هكذا أدت المظالم العرقية والإقليمية، التي تم شحنها بقوة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، إلى تفاقم إضافي في التباينات العميقة في البلاد. وكما جادلت فرانسيس ستيوارت، الاقتصادية المتخصصة بالتنمية، حين تتوزع التباينات الاقتصادية على أُسس دينية أو عرقية، ما يؤدي بالتالي إلى تعزيز الهويات دون الوطنية، فإن مخاطر اندلاع صراع بين المجتمعات المحلية تزداد بشكل كبير وتتعاظم.
وفي وقت يعتبر التفاوت العام في الدخل منخفضاً نسبياً في إثيوبيا، فإن نسبة البطالة تبلغ 27 في المئة، وتتمتع النخبة الحضرية بثمار النمو الاقتصادي بشكل أساسي. وقد أضاف غياب المساواة، أو ما ينظر إليه على أنه هوة تباين في المساواة بين الأقاليم والمجموعات الإثنية، إلى المشكلة. وقد اتُّهمت "الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي" خلال السنوات التي تسلمت فيها زمام السلطة، بتوجيه حصة غير متناسبة من الموارد الحكومية إلى إقليم تيغراي. ويرى البعض حالياً أن آبي، الذي يتحدر من منطقة أوروميا، يحابي جماعته الخاصة، فيما يرى البعض الآخر أنه لا يفعل ما يكفي لمساعدة شباب الأورومو الفقراء الذين مكنّوه من ارتقاء سلم السياسة. ويقطع التنافس الذي يندلع بين هذه المجموعات غالباً على الأرض أو الموارد الطبيعية، نسيجَ الدولة الإثيوبية ويوقع مئات القتلى كل عام في عفر وأمهرة وأوروميا والمنطقة الصومالية وأماكن أخرى.
من الممكن أحياناً إدارة التفاوت الاقتصادي في أوقات الازدهار، حين يشعر معظم المواطنين بالتفاؤل وبأن أحوالهم تتحسن. إلا أن إثيويبا تصارع حالياً في خضم انكماش اقتصادي مؤلم. وأدى التعطيل الذي أحدثته الحرب في تيغراي إلى رفع أسعار الأغذية على نحو كبير ومأساوي، كما اضطرت الحكومة إلى خفض قيمة العملة الوطنية "البير". وفي الوقت نفسه، أدى العجز الحكومي الكبير والسياسات المالية والنقدية الضعيفة إلى تسريع دوامة التقهقر الاقتصادي. وازداد الوضع سوءاً جرّاء الكسب غير المشروع داخل مؤسسات الدولة، واتساع رقعة السوق السوداء، والإنفاق الكبير في الانتخابات العامة لعام 2021. وفي ضوء هذه الأوضاع، يُعتبر الاسم الذي اختاره آبي لأداته السياسية الجديدة، وهو "حزب الازدهار"، إشعاراً يذكر على الدوام بفشله في تلبية تطلعات الشعب الإثيوبي.
وهناك ما لا يقل عن 13 مجموعة إثنية مختلفة تطالب حالياً بمزيد من الحكم الذاتي أو بوضعية إقليمية. وقد ثبت أن حل هذه التوترات يشكل تحدياً خاصاً ليس فقط لأن الحكومة المركزية قد رفضت عملياً السماح للمجتمعات بممارسة حقها في الانفصال، الذي يكفله لها الدستور نظرياً، بل أيضاً لأن بعض مزاعم هذه المجموعات تتناقض مع بعضها بعضاً. وعلى سبيل المثال، هناك أقاليم، منها تيغراي وأمهرة، يطالب كل منها بأجزاء من أراضي الآخر، وقد ظلت عالقة في نزاعات حدودية قائمة منذ زمن طويل. وثمة نزاعات أخرى أكثر تعقيداً من غيرها، مثل رغبة جماعتي سيداما وولايتا العرقيتين بالانفصال عن المنطقة الجنوبية للبلاد، التي تضم 56 مجموعة إثنية مختلفة يعارض بعضها السماح لهما بالانفصال. وتعود هذه المعارضة جزئياً إلى أن عاصمة إقليم سيداما، مدينة هواسا، هي أيضاً عاصمة المنطقة، ما يعني أنها تتمتع بأهمية اقتصادية ورمزية. وأسهم ذلك النزاع، في جانب منه، بجعل المنطقة أرضاً خصبة للاحتجاجات والاشتباكات التي تقع غالباً على أسس عرقية. وتؤكد أمثلة من هذا النوع مدى الصعوبة الهائلة التي تنطوي عليها إدارة الفسيفساء العرقية المعقدة في إثيوبيا. والحاجة ملحة إلى رؤية موحدة لإدارتها إذا كان لها أن تبقى متماسكة.
" علة الوجود"
دمرت الحرب الأهلية في إثيوبيا، كما تفعل في أي مكان آخر، البنية التحتية على غرار الطرقات والمصانع ومعدات الاتصالات السلكية واللا سلكية التي تحتاجها البلاد بشدة، وكذلك أدت إلى تآكل نسيج الهوية الوطنية. وعلى قادة إثيوبيا العثور على طريقة لإعادة توحيد البلاد مرة أخرى، مادياً وعلى المستوى الرمزي، وذلك للحؤول دون تفكك الدولة. ويتطلب القيام بذلك ثلاثة أشياء، لن يكون أي منهاً سهلاً، وهي تأمين سلام دائم، وإعادة بناء تيغراي والأجزاء الأخرى التي تضررت من الحرب في البلاد، والتوصل الى إجماع حول فكرة إثيوبيا.
لا يمكن حلّ أي من هذه المسائل عن طريق الغزو العسكري وحده. وعندما استولت قوات آبي على أراض، فإنها صارعت من أجل التمسك بها. وسينطبق الأمر نفسه على مقاتلي تيغراي وأورومو، في حال نجاحهم بإطاحة حكومة آبي. وإذا ارتكب الجانب الظافر مزيداً من الفظائع أو انتهاكات حقوق الإنسان وهو يمضي على طريق النصر، فلن يؤدي ذلك إلا إلى تعزيز الشكوك والعداء لدى الجانب الآخر في الصراع.
إن المشاكل التي يطرحها الغزو العسكري الصريح ستكون أشد سوءاً إذا تحقق النصر بتمكين ومساعدة من قوى أجنبية. ووفقاً لقادة في إقليم تيغراي وبعض المسؤولين الغربيين، فإن القوات الإثيوبية قد استخدمت طائرات مسيرة مسلحة قدمتها الصين وتركيا وغيرها لشن غارات جوية مثيرة للجدل على مدن تيغراي. ومن الواضح أنه على الرغم من إنكار رئيس الوزراء، فإن القوات الإريترية قاتلت إلى جانب القوات الإثيوبية في الأيام الأولى للصراع. وتردّد أن القوات الإريترية تتمركز حالياً بالقرب من الحدود مع السودان، وذلك على الأرجح بغرض منع قوات تيغراي من الوصول إلى ملاذ آمن في السودان. وأفضى هذا التعاون مع عدو إثيوبيا السابق إلى تعرض آبي لاتهامات ببيع البلاد والعمل على تنفيذ ما يطلبه منه الرئيس الإريتري أسياس أفورقي. وبقدر ما يستمر آبي في هذا التحالف الظاهر، بقدر ما يقدم نصراً دعائياً لـ"الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي" ويسهم في تعقيد مسعى استعادة الوحدة الوطنية وبعث لحمتها. ومع ذلك، من غير المرجح أن يتمكن الجيش الإثيوبي من الصمود لوحده من دون دعم عسكري أجنبي.
يكمن الحل الوحيد في السعي عن طريق المفاوضات إلى تسوية تحظى على أقل تقدير ببعض التأييد والاستعداد للمشاركة من جانب قادة "الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي" و"جبهة تحرير أورومو". وليس من الواضح تماماً ما الشروط التي ستقبل بها "الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي"، خصوصاً الآن بعدما صارت في وضع أقوى. وسيأمل قادتها، كحد أدنى، في استغلال نجاحهم العسكري الحالي ]لتحقيق مكاسب[ والمطالبة بإعادة الحكومة الإقليمية، وحيازة مزيد من الحكم الذاتي للإقليم، وتمويل لإعادة البناء بعد انتهاء الحرب، وممر آمن مضمون داخل المنطقة وإلى خارجها. وإذا انضمت "الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي" إلى "جبهة تحرير أورومو" (OLF) ] المنظمة الأم التي كان "جيش تحرير أورومو" جناحها العسكري[ ومجموعات المعارضة المتمردة الأخرى، فإن طلباتها ستتضمن على الأغلب عزل آبي نفسه وتشكيل حكومة انتقالية. لكن يبدو أن آبي في الوقت الحالي غير مستعد لتقديم أي تنازلات، ولو كانت الأكثر تواضعاً بين ما هو مطروح، حتى مع أن القبول بالمساومات قد يكون السبيل الوحيد للحفاظ على وحدة البلاد.
على قادة إثيوبيا العثور على طريقة لإعادة توحيد البلاد مرة أخرى مادياً وعلى المستوى الرمزي.
وبمجرد توصل الأطراف إلى تسوية، فإن عملية إعادة البناء الوطني يجب أن تبدأ. وسواء كانت مقاليد السلطة في يد آبي، أو بعض القادة الآخرين، فإن الطريقة الأكثر فعالية لمقاربة ذلك تتمثل في إنشاء البنية التحتية للدولة من جديد وصوغ هويتها الوطنية في آن واحد. وقد أظهرت البحوث التي أجريت حول دول كانت تعاني انقسامات عرقية مثل كينيا وسيريلانكا أن الاستثمار في لغة ورموز وطنية يشترك فيهما أبناء البلاد عموماً من شأنه أن يفيد جميع المواطنين على حد سواء ويزيد من سهولة بناء هوية وطنية شاملة. وعلى نحو مماثل، يخلق الاستثمار في لغة ورموز وطنية يتفق عليهما الجميع إحساساً بالهوية الوطنية أقوى وأكثر مرونة. في هذا السياق، غالباً ما اعتُبر أن الفضل في تعزيز الاستقرار السياسي في تنزانيا يرجع إلى قرار رئيس السابق جوليوس نيريري الترويج للسواحيلية كلغة مشتركة وتأكيد الوحدة الوطنية في التربية المدنية.
بيد أن القيام بخطوة مماثلة في إثيوبيا لن يكون سهلاً. وقد أعاق التشرذم اللغوي العميق تاريخياً في البلاد إمكانية ظهور لغة وطنية واحدة وجامعة. وبعيداً عن بناء الوحدة، كان ينظر إلى جهود الترويج للأمهرية التي أقدم عليها الحكام المتعاقبون منذ مينليك الثاني، الذي حكم بين عامي 1889 و1913، على أنها كانت نوعاً من المحاباة العرقية. والسبب في ذلك يعود جزئياً إلى أن تلك المساعي كانت تترافق مع إهمال اللغات الأخرى، وفي بعض الحالات قمعها. من الناحية النظرية، يجب أن تكون الكنيسة الأرثوذكسية النافذة قوة توحيد، باعتبار أن جذورها ضاربة في أمهرة وتيغراي، بيد أنها من الناحية العملية ممزقة على وقع الانقسامات العميقة. قد يحتاج إرساء الوحدة الوطنية إلى إيجاد رموز جديدة والترويج لها، على أن تكون رموزاً يمكن لكل المجتمعات أن تتبناها.
لكن هذا لن يكون ممكناً ما لم يتم التوصل إلى اتفاق حول المهمة الأكثر صعوبة على الإطلاق، وهي تكوين رؤية مشتركة للدولة الإثيوبية. لقد جربت البلاد صيغتين مختلفتين تماماً، بيد أن كلاً منهما قد فقدت مصداقيتها. ففي ظل "الجبهة الثورية الديمقراطية الشعبية الإثيوبية" كان المبدأ الذي يسبغ على الدولة مشروعيتها هو الفيدرالية الإثنية، التي وعدت جماعات البلاد بنيل حق تقرير المصير على المستوى النظري، إن لم يكن ذلك على المستوى العملي دائماً. إن فشل هذه الترتيبات الرامية إلى معاملة كل المجموعات على قدم المساواة أدى إلى احتجاجات قوميات مثل أورومو وأمهرة، كما دفع "الجبهة الثورية الديمقراطية الشعبية الإثيوبية" في نهاية المطاف إلى أن تختار آبي بعد استقالة هايلي مريام ديسالين عام 2018، ليكون رئيس الوزراء الجديد. فهو قدم نفسه كإصلاحي كما أنه وُلد لأبوين من مجموعتين عرقيتين مختلفتين إذ كان والده من الأورومو ووالدته من الأمهرة. مع ذلك، فإن محاولة آبي لإحلال نموذج أكثر مركزية محلّ الفيدرالية الإثنية، قد باءت بالفشل أيضاً. وتمخض قراره باستبدال حزبه هو بـ"الجبهة الثورية الديمقراطية الشعبية الإثيوبية" عن توتر العلاقات مع "الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي" كما أسهم في اندلاع القتال في تيغراي، بينما لم يفعل شيئاً ما يذكر لتخفيف التوترات بين المجموعات العرقية الأخرى.
وقد وصف آبي نهجه بالتعامل مع الحكومة بأنه "ميديمر" ]كلمة باللغة الأمهرية تعني "إضافة" أو "تكاتف"[ أو متآزر، حتى إنه ألف كتاباً عنونه بالكلمة ذاتها وروج له في أنحاء البلاد. من الممكن فهم "ميديمر" بطريقتين، أولاً كتوليف لكل المحاولات السابقة لبناء الأمة الإثيوبية، وثانياً، كدمج أفضل للمجموعات الإثنية في البلاد لتنضوي تحت هوية مشتركة. ليست الآثار العملية لهذه الفلسفة السياسية واضحة، لكن البعض فسرها على أنها تعني أن آبي يرغب في تحويل "الفسيفساء ]الإثنية[ إلى وعاء انصهار" متبعاً استراتيجية مشابهة لمحاولة نيريري صوغ هوية أساسية متماسكة من الحكومات الإقليمية المتشرذمة في البلاد.
لم تعد هذه النظرة لـ"ميديمر" تتمتع بالمصداقية في ضوء أحداث تيغراي. وحتى إذا اتبعت حكومة مستقبلية استراتيجية آبي لجهة صياغة هوية وطنية جماعية، فإن هناك أسباباً للاعتقاد بأنها ستخفق، في الأقل على المدى القصير. أول هذه الأسباب وأكثرها وضوحاً هو أن رئيس الوزراء لم يقم بتوحيد إثيوبيا ولكنه دفعها نحو مزيد من الاستقطاب والانقسام. ومع أن الحرب في تيغراي قد أدت إلى تمكين آبي من توحيد العديد من الإثيوبيين ضد "الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي"، فهي قد فاقمت انقساماً عرقياً سياسياً خطيراً وزادت من احتمال تفكك البلاد. وعلى الرغم من أن وسائل الإعلام الحكومية الإثيوبية رسمت صورة فوز آبي الساحق في الانتخابات في يونيو بتصرف، لكي توحي بأن انتصاره يدل على تمتعه بدعم الغالبية العظمى من الإثيوبيين، فقد أشار نقاد إلى أنه من خلال "الفوز" بـ410 من أصل 436 مقعداً في البرلمان بانتخابات لم تكن حرة ولا نزيهة، فإن آبي كان ببساطة يتبع استراتيجية "الجبهة الثورية الديمقراطية الشعبية الإثيوبية" نفسها، ويكرر الأخطاء ذاتها التي ارتكبتها.
وتتمثل المشكلة الثانية في أن نموذج الفيدرالية الإثنية الذي روّجت له "الجبهة الثورية الديمقراطية الشعبية الإثيوبية" بات مجرداً من المصداقية، وقلة قليلة من الجماعات هي على استعداد حالياً للتخلي عن التمثيل الجماعي وتقرير المصير اللذين وعدت بهما. ونتيجة لذلك، فإن أي شخص يسعى إلى بناء دولة وهوية وطنية أكثر تماسكاً سيبدأ من موقع مختلف تماماً عن ذاك الذي انطلق منه نيريري. فبينما كان الزعيم التنزاني يحكم مجتمعاً مؤلفاً من عدد كبير من المجموعات الإثنية الصغيرة التي وحّدها حديثاً النضال ضد حكم الاستعمار، يترأس القادة الإثيوبيون عدداً أقل من المجموعات الإثنية الإقليمية الكبيرة التي ظلت هويتها مكرسة وراسخة لفترة طويلة في النظام السياسي. إن إقناع هذه المجموعات بالتخلي عن طموحاتها والوثوق بالحكومة الفيدرالية هو تحدٍّ قد لا يقل صعوبة في بقية أنحاء البلاد عما كان عليه في تيغراي.
أخيراً فإن أنواع السياسات التي تحتاج الحكومة إلى تطبيقها في سبيل إنشاء استراتيجية قادرة على صهر جميع العناصر ودمجها من شأنها أيضاً أن تجعل تحقيق سلام دائم في تيغراي أكثر صعوبة. وقبل أن تقبل بإلقاء سلاحها، فإن "الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي" ستطالب على نحو شبه مؤكد بتعزيز الحكم الذاتي الإقليمي، وليس بقدر أقل منه. وينطبق الأمر نفسه على "جيش تحرير أورومو". تتمثل المشكلة التي يواجهها آبي إذاً في سعيه وراء نهج يستسيغه في بناء الدولة يبدو سبيلاً أكيداً إلى تفاقم الأزمة السياسية الأكثر إلحاحاً في البلاد.


بداية النهاية
إن مستقبل إثيوبيا محكوم بشكل خطير بعدم الاستقرار في غياب رؤية توحيدية حول كيفية إعادة بناء البلاد. إن كلاً من الفيدرالية الإثنية والمركزية السياسية قد اختُبرا وتبين أنهما غير كافيتين. وعزّز ذلك التكهنات بأن الطريق الوحيد أمام إثيوبيا يسير في خلاف الطريق الذي خطّه آبي، أي بالمضي نحو كونفيدرالية فضفاضة ]لا تشد أطرافها إلى بعضها بعضاً قواعد صارمة[ مؤلفة من مناطق تتمتع بالحكم الذاتي إلى حد بعيد. ومن المؤكد أن اسم تحالف القوى المعارضة والمتمردة المطروح للمناقشة، أي "الجبهة الموحدة للقوى الفيدرالية الإثيوبية"، يشير حتماً إلى هذا الاتجاه.
قد يساعد هذا المسار على إنهاء الصراع مع "الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي"، لكن هناك أسباباً وجيهة تحمل على الاعتقاد أن ذلك سيدفع إلى مزيد من تمترس الهويات العرقية الإقليمية، وبالتالي تفاقم قوى أو عوامل "الطرد المركزي" [النبذ والتشظي] التي تمضي بأجزاء البلاد بعيداً عن بعضها بعضاً وتفُض لحمتها. إذا تم إنشاء تحالف للمتمردين، فإن أي حكم ذاتي يعرض على تيغراي يجب أن يكون متاحاً أيضاً بالضرورة للمجتمعات الأخرى الأكبر حجماً في البلاد. وفي غياب أي اتفاق حول الأيديولوجية، أو بشأن كيفية تقاسم الموارد، فإن مثل هذه الكونفيدرالية ستخاطر ببساطة بإنشاء أقاليم أقوى تكون في وضع أفضل لتحدي الحكومة المركزية إذا شعرت أنها لا تنال ما تستحقه. قد يكون التحرك باتجاه فيدرالية فضفاضة حتمياً، لكن يمكنه أن يؤدي إلى مزيد من المحاولات الانفصالية وبالتالي إلى نهاية البلاد كما يعرفها الإثيوبيون.
سيرفض آبي من غير ريب خطة من هذا النوع، من شأنها أن تنطوي على إذلال شخصي له، وستجعله الشخص الذي سيحفظ التاريخ اسمه باعتباره قد مزق أوصال إثيوبيا. ولعل هذا يفسر لماذا يبدو رئيس الوزراء مصمماً بشكل متزايد على البحث عن حل عسكري لمشكلة سياسية. لكن، وكما أظهرت مرونة التمرد في تيغراي، القوة وحدها لن تكفي لإخضاع بلاد كبيرة ومتنوعة إلى هذا الحد، ولا سيما أن فيها العديد من المجموعات المسلحة التي تعرف كيف تحافظ على التمرد مستمراً. ولهذا السبب سيكون من الحماقة الاعتقاد أن انتصاراً عسكرياً يحققه أي طرف سيؤدي إلى مزيد من الاستقرار السياسي. وآبي ليس الزعيم الأول الذي حاول حل تناقضات إثيوبيا الداخلية وفشل في ذلك. فقد سعت كل حكومة إثيوبية على امتداد القرن الماضي إلى بناء دولة قابلة للحياة وخلق هوية وطنية موحدة. لكن حتى الآن، لم يعثر أحد على صيغة نجحت في ذلك لأكثر من عقدين من الزمن.