النهار الاخبارية - وكالات
لم تكن الوساطة الصينية بين السعودية وإيران مؤشراً على تصاعد الدور الصيني بالمنطقة فقط، ولكنها دليل أيضاً على أن فرص بكين في الوساطة في أزمات المنطقة المعقدة أعلى وأفضل من الولايات المتحدة، الوسيط المزمن والفاشل في حل أزمات المنطقة.
فمن أزمة الصحراء بين المغرب والجزائر مروراً بالصراع العربي الإسرائيلي وصولاً إلى سد النهضة مارست الولايات المتحدة الوساطة في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وما يجاورهما دون نتيجة تذكر.
الدور الأمريكي في الصراع العربي الإسرائيلي نموذج للوساطة المنحازة والتي بلا جدوى
وتكفي وساطة أمريكا في الصراع العربي الإسرائيلي المستمرة منذ عقود وهي تحمل لقب راعي عملية السلام، ولكن العملية انتهت وبقيت الرعاية الأمريكية شاهداً على وسيط يمتلك أدوات القوة ولا يستخدمها؛ لأن من أخذ الأرض حليفه المفضل.
وباستثناء اتفاقية السلام المصرية الإسرائيلية على عيوبها واتفاق وادي عربة بين الأردن وإسرائيل (اللذين لم يكن بينهما قضايا خلافية كبيرة)، لم تحقق مساعي السلام الأمريكي أي نجاح، بل أتاحت وساطة واشنطن الفرصة للاحتلال لكي يرسخ وجوده ويزيد قمعه وإن رد الفلسطينيين بشكل عفوي هاجمتهم واشنطن وعاقبتهم.
الوساطة الأمريكية في أزمة سد النهضة بدأها ترامب وأضاعها بايدن
وتقدم أزمة سد النهضة، نموذجاً فجاً آخر لفشل الوساطة الأمريكية، إذ عقدت مصر آمالها بشكل كبير على الوساطة الأمريكية، وتكاد تكون قد حصرت خياراتها فيها.
وبالفعل ألقت الإدارة الجمهورية السابقة بثقلها وراء هذه الوساطة التي كان الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب مهتماً بها شخصياً، وكلف وزير خزانته بإدارتها، ولكن بعد أن توصلت الأطراف لمسودة اتفاق، نقضته إثيوبيا قبل أن توقع عليه، ففرضت عليها إدارة ترامب عقوبات خفيفة، ولكن سرعان ما رفعتها إدارة بايدن فور وصولها للحكم، في نموذج فج لتجاهل فكرة تراكم العمل السياسي ودون أن تطلب من أديس أبابا أي تنازلات ولو محدودة مقابل رفع العقوبات.
وها هي الأزمة مستمرة وتهدد أكثر من 150 مليون شخص في مصر والسودان، والقاهرة تعيد تهديداتها باللجوء إلى خيارات مفتوحة لم تحددها.
الوساطة الأمريكية تنكث بعهودها مع تركيا لصالح أكراد سوريا بينما تلتزم موسكو بوعودها
وفي ملف الأزمة السورية، فشلت واشنطن في الوساطة بين حليفها القديم في الناتو تركيا تحت قيادة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، ولم تلزم حلفاءها الجدد والمفضلين الإدارة الكردية الذاتية في شمال سوريا، بالابتعاد عن الحدود التركية، ورأينا كيف أن عملية إسطنبول الإرهابية الأخيرة في نوفمبر/تشرين الثاني 2022، تمت من خلال التسلل عبر الأراضي السورية التي يسيطر عليها الأكراد.
وعندما تعلن تركيا نيتها تنفيذ عملية عسكرية لحماية حدودها، ترغي واشنطن والعواصم الأوروبية وتزبد، وتفرض عقوبات على أنقرة، متناسية أن الأكراد هم الذين لم ينفذوا جانبهم من التفاهمات.
ومن الغريب أن تركيا تستطيع التوصل لتفاهمات في سوريا مع روسيا غريمتها التاريخية والدولة التي قضت على المعارضة السورية الحليفة لأنقرة، ولكن عندما يحين وقت التفاوض تلتزم روسيا البوتينية ولو جزئياً بالاتفاقات مع أنقرة عكس واشنطن.
في ليبيا، فشلت في الوساطة بين حلفائها وتركت البلاد غنيمة لموسكو
وفي الملف الليبي فشلت واشنطن مراراً في التوصل لتسوية رغم أن الأطراف الخارجية في ليبيا معظمها من حلفائها وهم مصر وتركيا والإمارات وفرنسا، ولكن واشنطن تخفق في إلزامهم باتفاق، وغضت الطرف عن حقيقة أن أمير الحرب خليفة حفتر حليف حلفائها نكث مراراً بالاتفاقات مثلما فعل في هجومه على طرابلس عام 2019، ضارباً بعرض الحائط الترتيبات التي كانت قد توصلت إليها الأمم المتحدة بالتعاون مع الاتحاد الإفريقي والجامعة العربية لعقد مؤتمر للسلام.
وحذرت واشنطن مراراً من تصاعد النفوذ الروسي في ليبيا، متجاهلة أن سبب هذا النفوذ سياسة حلفائها الداعمة لخليفة حفتر، الأمر الذي جعل موسكو تضع موطأ قدم في ليبيا التي تعد خاصرة أوروبا الجنوبية.
وفي الحالة الإيرانية السعودية، لم تراعِ واشنطن طلبات دول الخليج عند إبرامها الاتفاق النووي الإيراني عام 2015 فيما يتعلق بأنشطة الميليشيات الشيعية وبرامج الصواريخ الإيرانية، وعندما فشل الاتفاق بسبب انسحاب ترامب منه عام 2018، فإن الرد الأمريكي المحتمل لا يلقي اهتماماً على ما يبدو لاحتمال تعرض دول الخليج لانتقام الصواريخ الإيرانية.
وفي كل الأزمات يكاد يكون دور واشنطن إما الوسيط الصاخب بلا هدف، أو المشعل للتوترات.
لماذا قد تتفوق الوساطة الصينية على نظيرتها الأمريكية والأوروبية؟
ولكن الوساطة الصينية بين السعودية وايران لتقدم نموذجاً لدبلوماسية تعمل بهدوء (إن لم يكن في خفاء)، وتحقق إنجازاً لافتاً حتى الآن، يمثل نقلة تاريخية في العلاقات السعودية الإيرانية المتوترة والتي تعود لعقود، وتمثل أحد أسباب أزمات المنطقة.
فهل يمكن أن تكرر الوساطة الصينية في أزمات أخرى بمنطقة الشرق الأوسط، وهل تحقق ذات النجاح؟
هناك أسباب عديدة تجعل فرص الوساطة الصينية في المنطقة أفضل حظاً من الوساطة الأمريكية.
الصين دولة ليست ذات ماضٍ استعماري ودبلوماسيتها خالية من الأيديولوجيات المتنافرة
أبرزها أن الصين دولة ليس لها ماضٍ استعماري في المنطقة، ولا ينظر لها شعوب وقادة المنطقة سلباً.
كما أن الدبلوماسية الصينية تتسم بالهدوء والعملية وليس بالصخب الفارغ مثل الدبلوماسيات الغربية.
إضافة لذلك تقود الدبلوماسية الصينية قيادة محترفة مهنية ليست مؤدلجة، عكس الدبلوماسيات الغربية التي تتحرك من خلفيات أيديولوجية مركبة ومتناقضة، تقول أكثر مما تفعل، وتغير مواقفها من إدارة لأخرى.
بينما أمريكا تتقلب بين العنصرية وادعاء المثالية
فالإدارات الجمهورية، يقودها خليط من الأيديولوجية التي تجمع بين الانعزالية والرغبة في النأي بأمريكا عن مشاكل العالم، ويشوبها في الوقت ذاته، خليط من العنصرية البيضاء المتعالية والتطرف الديني البروتستانتي يجعلها معادية بالفطرة للقوى الليبرالية والديمقراطية ولكل ما هو أسمر وعربي ومسلم، وتنحاز بشكل سافر وفج لإسرائيل، ولا يثير إعجابها في العالم العربي إلا الأنظمة المستبدة عندما تعادي الإسلاميين، وتريد التطبيع مع إسرائيل.
في المقابل، الإدارات الديمقراطية، ترفع شعارات ليبرالية وتقول إنها تحمل لواء الحرية والديمقراطية ومناهضة العنصرية، ولكنها رغم ذلك تدعم أكراد سوريا الذين هم فصيل منبثق عن حزب العمال الكردستاني المصنف إرهابياً بتركيا والعالم الغربي، وهو فصيل يمثل أقلية كردية صغيرة في شمال سوريا يسيطر بشكل غير ديمقراطي على الأغلبية العربية في المنطقة (ويعتقد أن جزءاً كبيراً من أكراد المنطقة يرفضها) في تكرار لنموذج جنوب إفريقيا العنصري.
بينما ترك هؤلاء الديمقراطيون خلال الربيع العربي القوى المطالبة بالديمقراطية في الدول العربية فريسة لخصومهم مثلما فعلوا في سوريا؛ حيث تركوهم عرضة لهجمات الأسد وحلفائه بعد أن وعودهم بالدعم، ولكن عندما أرسل الإيرانيون ميليشياتهم والروس طائراتهم لم تحرك إدارة أوباما ساكناً حتى بعد أن كسر بشار الأسد الخط الأحمر الذي وضعته بنفسها وهو استخدام الأسلحة الكيماوية.
وكان هذا التخلي عن المعارضة السورية وتركها فريسة لإيران وروسيا، هو المشجع لبوتين لكي يغزو أوكرانيا عام 2022.
وفي السودان، تبدو الوساطة الأمريكية مرتبكة تماماً أمام الحقيقة الواضحة وهي أن العسكر لا يريدون تسليم السلطة، بينما المعارضة المدنية لا تريد إجراء انتخابات خوفاً من فوز الإسلاميين لتزداد أحوال السودان تدهوراً بينما تبدو واشنطن شاهد زور.
الأطراف القوية على الأرض لا تعبأ بوساطة أمريكا وحديثها عن الإنسانية يتداعى أمام إسرائيل
يؤدي خليط الأيديولوجيات المتنافرة لدى الدبلوماسيين الغربيين والمثل العليا المدعاة دون تطبيق والبيروقراطية، وعدم وجود مصالح حقيقية داخلية في الغرب لإنهاء الأزمات في الشرق الأوسط، إلى تحول الوساطة الغربية لا سيما الأمريكية لعملية روتينية تقابل بقليل من الاهتمام وأحياناً بالسخرية من قبل الأطراف القوية المعنية.
وتدخل الولايات المتحدة والدول الأوروبية في كثير من الأزمات بخطاب دبلوماسي يعلي من شأن القانون الدولي والكرامة والحرية والمساواة، ولكن هذه المثل تتلاشى أو تتنحى جانباً إذا واجهت أطرافاً أقوياء لا سيما لو كانوا حلفاء مقربين مثل إسرائيل.
ومن تل أبيب لطهران وأنقرة، وصولاً لأديس أبابا وتل أبيب يتعامل الأطراف الأقوياء مع الدور الغربي بما فيه الأمريكي على الأرض باستخفاف ويفرضون الأمر الواقع مثلما فعلت تركيا في ليبيا، حينما تجاهلت الحظر الذي فرضه الاتحاد الأوروبي على تصدير السلاح لليبيا فقط من البحر، تاركاً السلاح يصل لحفتر عبر الحدود المصرية أو عندما تدخلت مراراً ضد الأكراد في شمال سوريا، رغم التهديدات الغربية.
القوى الإقليمية تبرم تفاهمات فيما بينها بعيداً عن الغرب
وفي النهاية، في كثير من هذه الأزمات، أدت الحوارات المباشرة أو شبه المباشرة بين الأطراف المعنية الإقليمية لحلول جزئية ولكن أكثر واقعية واستدامة من الضجيج الفارغ الذي أطلقته الدبلوماسيات الغربية.
وهكذا تفاهمت مصر وتركيا على تهدئة في ليبيا، وتتفاوض حماس وإسرائيل عبر الوسيط المصري، كما تفاهمت تركيا مع روسيا وإيران على ما بينها من تناقضات على تهدئة صمدت في سوريا لسنوات، كما تبدو الوساطة العمانية في الأزمة اليمنية أكثر نجاعة وهدوءاً من الدور الغربي، الذي يبدو أحياناً يشجع الحوثيين على شغبهم.
مصالح الصين وأوراق الضغط لديها على الفاعلين بالمنطقة أكبر من أمريكا
والآن تبدو الصين مرشحاً محتملاً، للوساطة في العديد من أزمات المنطقة إذا توفرت لديها الإرادة.
فبالإضافة لخلو الدبلوماسية الصينية من كثير من عيوب نظيرتها الغربية، فإن لديها أيضاَ مميزات إضافية.
الحقيقة التي لا تحاول أمريكا وأوروبا التركيز كثيراً عليها، هي أن مصالح الصين في المنطقة باتت أكبر بكثير من مصالح الغرب أو بالأحرى أمريكا، كما أن أوراق الضغط التي تملكها بكين ضد الأطراف القوية في المنطقة أكبر من الدول الغربية.
الصين هي أكبر شريك تجاري لدول المنطقة وهي أكبر مستورد للنفط من دول الخليج، وتكاد تكون الشريك شبه الوحيد لإيران، ومشتري نفطها الرئيس بفارق كبير عن أي بلد آخر بسبب العقوبات الأمريكية.
وبالنسبة للدول غير النفطية فالصين ليست أكبر مصدّر فقط، بل هي مستورد كبير، ومستثمر مهم في دول مثل مصر وإسرائيل وإثيوبيا، وتتوسع باطراد في دول المغرب العربي التي كانت دوماً أقرب لأوروبا.
والأهم الصين أكبر مقرض لدول العالم الثالث بما فيها الكثير من دول المنطقة، وهي دولة كبرى أيضاً في قطاعات حيوية مثل صناعة الاتصالات والبنية الأساسية، مما يجعلها أكثر أهمية لدول المنطقة في هذه المجالات من الولايات المتحدة الأمريكية التي تعتمد هي نفسها على المعدات الصينية في العديد من مشروعات البنية الأساسية.
ومع توسع واردات الطاقة الصينية تزداد أهمية المنطقة، ليس فقط لأنها مصدر النفط الأكبر للصين، ولكن لأنه عبر الشرق الأوسط تمر تجارة الصين لأوروبا وشرق أمريكا.
الحكومات تراها أفضل لأنها لا تحدثهم عن حقوق الإنسان
بالنسبة لدول المنطقة أيضاً التعامل مع الصين أسهل؛ فهي لا تهتم بمسألة حقوق الإنسان والديمقراطية مثلما يفعل الغرب (بطريقة شكلية في الأغلب)، في المقابل تركز بكين على فكرة سيادة الدول، وعدم التدخل في شؤونها، وهو أمر يسعد حكومات دول المنطقة كثيراً.
قد يكون ذلك أمراً سلبياً لشعوب المنطقة وقواها المطالبة بالديمقراطية، ولكن هذه القوى أصبحت منهكة وموزعة بين المنافي والسجون، أو في المقاعد الخلفية للبرلمانات في أفضل الأحوال.
وكما سبق الإشارة فإن الدور الغربي مع هذه القوى الداعية للديمقراطية بالمنطقة هو تحريضها على الثورة، ثم تركها تواجه مصيرها، عندما يجد الجد.
كما أن السياسة الغربية بدأت تعلي من قضايا مثيرة للجدل، مثل حقوق المثليين بشكل مستفز لشعوب المنطقة، حكومات ومعارضة على السواء، بشكل يجعل التدخل الغربي في الملف الحقوقي شبه مرفوض بين المعارضة والموالاة إلى حد كبير.
في المقابل، لا تفتح الصين هذه الملفات، ويمكن كما ظهر من وساطتها بين السعودية وإيران أن تركز على حل النقاط الخلافية دون خلط للأوراق، على أن تكون ضامناً للاتفاقات، ضامناً مهذباً وثرياً وذا نفوذ تتريّث أغلب قوى المنطقة قبل إغضابه.
الصين تفاهمت جزئياً مع طالبان رغم الفجوة الكبيرة معها
وإذا كانت الصين لديها حساسية مفرطة من القوى الديمقراطية والإسلامية نظراً لحكمها الشيوعي واضطهادها للمسلمين الإيغور، فإن تجربتها مع طالبان وتركيا تثبت قدرتها على التعامل مع خط سياسي يمثل النقيض لها.
فخلال الانسحاب الأمريكي من أفغانستان وخلال مراحل الاتفاق عليه، نسج الأمريكيون علاقة قوية مع قادة طالبان الذين أثبتوا أنهم ليسوا فقط مقاتلين أشداء، ومفاوضين متمرسين، بل إنهم أيضاً طرف يلتزم بالاتفاقات.
وبالفعل أمن مقاتلو طالبان الانسحاب الأمريكي الفوضوي من كابول، ولو لم يفعلوا ذلك لتحول لكارثة أو مذبحة، كما أنهم فرضوا الأمن في البلاد القبلية الوعرة بطريقة مفاجئة في نجاحاتها بعد انهيار الحكومة التي أسسها الغرب.
ورغم كل القيود التي فرضها حكم طالبان على الحريات، فإنه لم تحدث مذابح ولا انتهاكات كبرى بحق المتعاونين مع الاحتلال الأمريكي كما توقع الإعلام الغربي.
ولكن رغم معرفة الزعماء الغربيين لكل ذلك لم يحاولوا إقامة علاقة قوية مع الحركة التي أثبتت أنها أكثر عقلانية مما يعتقد، وأصروا على أن يغرقوا أنفسهم في البكاء على الحريات المفقودة، ويحاصرون الحكم الجديد، متناسين أنهم أفقدوا هذا البلد أهم حرياته وهو الاستقلال الوطني وأن حركة التحرر الوطني أغلبها يبدأ حكمه متطرفاً، ثم يعتدل.
في المقابل، رغم قلق الصين من احتمال تعاطف طالبان مع الإيغور المسلمين وتحويلها أفغانستان المجاورة لمحطة خلفية لأي تمرد إيغوري، إلا أنهم تعاملوا ببراغماتية وحكمة مع طالبان، التي أكدت بدورها رفضها لاضطهاد المسلمين الإيغور، ولكنها تعهدت بعدم التدخل في شؤون الصين، ولوحت بكين بضخ استثمارات في أفغانستان مقابل ضمانات بمنع طالبان تحول أفغانستان ساحة للمتمردين الإيغور.
وتقيم علاقة قوية مع تركيا رغم انتقادات الأخيرة لاضطهادها للإيغور
الأمر ذاته حدث بين تركيا والصين، فأنقرة هي إحدى الدول الإسلامية القليلة التي انتقدت بشدة اضطهاد بكين للإيغور الذين ينتمون للعرق التركي، وتعد تركيا ملاذاً لأعداد كبيرة من اللاجئين الإيغور، وحدث تلاسن تركي- صيني حاد في مجلس الأمن عام 2021، حول سوريا والإيغور.
كما أن أيديولوجيا حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا تمثل أكثر ما تخشاه الصين وهو القومية التركية ذات التوجهات الإسلامية الديمقراطية، وهي أيديولوجيا قابلة بشدة للانتقال لآسيا الوسطى وإقليم الإيغور، خاصة في ظل النفوذ التركي في الدول المجاورة لإقليم الإيغور.
ولكن بكين اكتفت بالرد على انتقادات تركيا في وقتها ولم تتأثر علاقتها بأنقرة؛ حيث تعد الصين من أكبر شركائها التجاريين، إضافة إلى أن بكين أبرمت اتفاقات لتبادل العملات مع أنقرة في تصرف يهدف لدعم العملة التركية، وهو أمر لم يصدر من الدول الغربية الحليفة لأنقرة.
أبرز القضايا التي يمكن أن تتوسط فيها الصين.. أولاها أزمة سد النهضة
أزمة سد النهضة هي أكثر قضايا المنطقة التي يمكن أن تلعب فيها الصين دور الوساطة؛ لأن لديها علاقات اقتصادية وثيقة مع الدول الثلاث المشتبكة في الأزمة مصر وإثيوبيا والسودان.
فلدى الصين استثمارات ضخمة في إثيوبيا، فهي أكبر مستثمر أجنبي في البلاد، وتوصف الأخيرة أحياناً بـ"صين إفريقيا".
كما تعد أديس أبابا حجر الزاوية لسياسة بكين في شرق إفريقيا في ظل اهتمام صيني بالغ بالقارة السمراء.
ولعبت الصين دوراً مهماً في بناء سد النهضة، من خلال تمديد تسهيل ائتماني بقيمة 1.2 مليار دولار، هذا جزء من قروض صينية بقيمة 16 مليار دولار لإثيوبيا، وفقاً للمكتب الوطني الأمريكي للبحوث الاقتصادية.
كما أن بكين أقرضت أديس أبابا مليارات الدولارات لتمويل مشاريع بناء شبكة الكهرباء من السد إلى مدن وقرى إثيوبيا، وعشرات الشركات الصينية تعمل في تشييد السد نفسه بعقود من الباطن.
في المقابل، فإن مصر دولة مهمة للصين بالنظر لمكانتها في العالم العربي ولديها أهم ممر ملاحي في العالم الذي يكتسب أهمية خاصة لبكين لمرور تجارتها لأوروبا وشرق أمريكا الشمالية عبره.
الوساطة الصينية
الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب الذي أبدى اهتماماً كبيراً بأزمة سد النهضة يظهر في الصورة يصافح الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي/رويترز
وتعتبر الصين أبرز المساهمين في بناء العاصمة الإدارية الجديدة، كما أن بكين تستثمر مليارات أيضاً في السودان، وكل ذلك في إطار مبادرة الحزام والطريق الصينية.
ويرى خبراء أن بكين يمكن أن تستغل خبراتها في تشييد وإدارة السدود العملاقة لمساعدة الدول الثلاث على التوصل إلى اتفاق فني، بشكل يطمئن كل طرف بأنه لن يتعرض للضرر، عكس المبادرات السياسية التي فشلت حتى الآن في الوصول لنتيجة.
وأكدت الصين دعمها للتفاوض الذي يقوده الاتحاد الإفريقي لحل الخلافات حول السد الضخم الذي تشيّده إثيوبيا على النيل الأزرق، الأمر الذي تعارضه مصر والسودان.
مصر ألمحت إلى حاجتها لوساطة الصين، فلماذا تتمنع بكين عن التحرك بهذا الملف؟
سبق أن أجرى وزير خارجية الصين، وانغ يي، محادثات هاتفية منفصلة مع نظيريه المصري سامح شكري والإثيوبي أندار غاتشو، في يونيو/حزيران 2020، عبَّر فيها عن رغبته في أن يؤدي "الحوار إلى حل مقبول لجميع الأطراف في أسرع وقت ممكن"، مؤكداً "استعداد بكين لمواصلة لعب دور بنّاء في التوصل لاتفاق".
وقال عضو مجلس الدولة وزير الخارجية الصيني في محادثات هاتفية مع نائب رئيس الوزراء وزير الخارجية الإثيوبي ديميكي ميكونين، إن الاستفادة من موارد المياه عبر الحدود دائماً حساسة ومعقدة، والحوار والتشاور هما الطريقة المثلى لحل المشكلة.
وأضاف في تصريح نُشر في 21 يونيو/حزيران 2021، أن الصين تأمل بصدق في أن تتوصل إثيوبيا ومصر والسودان إلى حل متبادل المنفعة ومربح للجانبين من خلال المفاوضات.
وسبق أن قامت مصر بتحركات بدا منها أن تسعى من أجل إطلاق وساطة صينية في أزمة سد النهضة.
وقالت نادية حلمي، أستاذة العلوم السياسية في جامعة بني سويف، والخبيرة في الشؤون الصينية والآسيوية، لموقع Al-Monitor الأمريكي: "الأطراف الثلاثة المعنية بأزمة السد حلفاء للصين. سوف يسمح ذلك للصين باستغلال نفوذها الاقتصادي والدبلوماسي للمساعدة في الوصول إلى حل في قضية السد وتخفيف حدة التوترات التي تصاعدت على مر الأعوام الماضية، بالإضافة إلى أداء دور رئيس في المحادثات التي يُنظمها الاتحاد الإفريقي".
على الجانب الآخر، يرى البعض أن علاقات بكين القوية مع الدول الثلاث هي على الأرجح ما يجعلها تفضّل عدم التدخل في قضية سد النهضة، وهو ما عبَّر عنه سفير واشنطن السابق لدى إثيوبيا، دافيد شين، بقوله إن "الصين لا تريد أن تعرِّض علاقتها القوية مع أي منهم للخطر".
ووفقاً لتقرير ورد في صحيفة آسيا تايمز الصينية يوم 19 يناير/كانون الثاني 2021، فإن بكين قلقة من التدخل في هذه الأزمة وهي تستثمر في الدول الثلاث المعنية. إضافةً إلى أن أياً من الأطراف لم يطلب منها رسمياً بعد أن تتدخل.
والأكثر أهمية وفقاً لحلمي، أن الصين تؤمن بأن استثماراتها في الدول الثلاث قد تتعرض للخطر إذا تصاعدت الأمور ووصلت إلى حد الصراع المُسلح؛ الأمر الذي قد يعوق تلك الدول عن الوفاء بالتزاماتها المالية نحو بكين.
موقف الصين إذاً ربما لا يكون حياداً بالمعنى المفهوم للحياد، وإنما الحفاظ على مصالحها المرتبطة بشكل مباشر بإكمال السد من ناحية، وفي المقابل إقراض مصر والسودان مليارات لتنفيذ "إدارةٍ أفضل لمواردهما المائية" التي ستتأثر من جرائه؛ ومن ثم تفوز بكين في جميع الحالات، طالما استمرت الأمور في إطار التفاوض وعدم التصعيد عسكرياً.
هل تنتظر الصين لحين نضوج الظروف الملائمة لتدخلها في قضية السد؟
في أي أزمة فإن نجاح الوساطة ليس مرتبطاً فقط بقوة الوسيط أو حنكته ورغبته فقط، بل رغبة الأطراف المتنازعة وأوراق القوة التي في يديها، وفي أزمة سد النهضة ليس هناك أوراق قوية مؤثرة حتى الآن في أيدي مصر والسودان، وهو ما قد يجعل الصين تحجم عن عرض الوساطة المباشرة مثلما فعلت في الحالة الإيرانية السعودية، وذلك خوفاً من التعرض للإحراح مثلما حدث مع الوساطة الأمريكية في أزمة سد النهضة.
ولكن يظل من المؤكد أن الصين هي الطرف الدولي الأقدر على الوساطة في هذه الأزمة، خاصة في ضوء علاقتها القوية بأعضاء الاتحاد الإفريقي الكبار (مثل جنوب إفريقيا) والذي يقود المفاوضات حتى الآن.
وقد تتريث بكين في عرض وساطتها إلى حين تنضج الظروف بوصولها لنقطة حرجة أو تراجع التوتر بين الأطراف، أو أن تصبح إثيوبيا في حاجة لإيجاد حل (قد يحدث ذلك بعد أن تكون قد حققت معظم أهدافها).
إليك الشروط اللازمة لتقدم الصين للوساطة في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي
قد يبدو اقتراح وساطة صينية في الصراع العربي الإسرائيلي غريباً، في ظل الهيمنة الأمريكية على الملف، ولكن لا يمكن استبعاد شيء في ظل صعود الصين العظيم.
وتعززت علاقات بكين الاقتصادية مع إسرائيل، كما أن هناك علاقات في مجال الصناعات العسكرية بين البلدين، تحاول أمريكا وأدها.
ورغم الرعاية الأمريكية الحميمية لتل أبيب، ولكن إسرائيل وقبلها الوكالة اليهودية التي أسستها مشهورة بقدراتها الفذة على تلمس تغيرات توازنات القوى، فلقد كان للقادة الداعين لتأسيس إسرائيل علاقات قوية مع ألمانيا قبل الحرب العالمية الأولى قبل أن ينقلوا رهانهم لبريطانيا بسبب تحالف برلين مع الدولة العثمانية، ثم نقلوا رهانهم من لندن لواشنطن مع صعود قوة الأخيرة.
وحالياً، فإن أمريكا تكبح جماح الاندفاع الإسرائيلي نحو الصين، ولكن مع تزايد قوة الأخيرة، ستعزز تل أبيب حتماً علاقتها بها.
ولكن على الجانب الآخر، ليس هناك مصلحة صينية كبيرة في دعم الفلسطينيين باستثناء بقايا خطاب رسمي قديم كان يؤيد النضال الفلسطيني عندما كانت الصين دولة ثورية، وخطاب منمق ما زال مستمراً عن احترام القانون الدولي الذي تخالفه إسرائيل بشكل مزمن.
لكن لن يكون هناك حافز لدى الصين للتقدم بوساطة محايدة في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي إلا بتراجع للنفوذ الأمريكي العالمي بما في ذلك المنطقة وحاجة إسرائيل أكثر للصين، مع ظهور ضغط من الدول العربية لا سيما الغنية والقوية على بكين للتدخل.
ومع أن هذه الوساطة لن تكون ضاغطة على تل أبيب، ولكنها بالتأكيد لن تكون في مثل انحياز الوساطة الأمريكية الحالية.