النهار الاخبارية - وكالات
الكشف عن التسريبات لوثائق عسكرية أمريكية سرية عن الحرب الروسية الأوكرانية مؤخراً، يأتي من بين أكبر إخفاقات الاستخبارات الغربية في التاريخ الحديث.
ومع ذلك، فإنها قد فاجأت مسؤولي الاستخبارات المخضرمين لسببٍ مختلف: الطريقة الفريدة التي انتشرت بها هذه الوثائق عالية السرية، ودوافع القائم على تسريبها.
فالمسرِّب لم يكشف عن هذه المعلومات لوكالة استخبارات أجنبية ولا وسيلة إعلامية متعاطفة مع دولة أخرى مثلاً، وإنما نشرها على خادم دردشة إلكتروني مخصَّص للميمات وألعاب الفيديو وتبادل رسائل الود عبر الإنترنت.
ولم يكن للتسريب علاقة بالتجسس التقليدي أو القرصنة الإلكترونية، بل بدا محاولة لاجتذاب النفوذ والمتابعين على منتدى إلكتروني سري، حسبما ورد في تقرير لمجلة The Foreign Policy الأمريكية.
واتهم المدعون الأمريكيون يوم الجمعة 14 أبريل/نيسان جاك تيكسيرا -العسكري البالغ من العمر 21 عاماً ويعمل في جناح الاستخبارات التابع للحرس الوطني الجوي بولاية ماساتشوستس- بانتهاك قانون التجسس.
التسريبات لوثائق عسكرية أمريكية ليست مجرد حادث عارض
ويتعذر استيعاب الدوافع المحتملة للتسريب من دون الخوض في فهم ثقافة الإنترنت، فهذا التسريب ليس حدثاً عرضياً ولا واقعة نادرة لن تتكرر، وإنما نذير بمستقبل تلتقي فيه أجهزة الاستخبارات السرية وعالم شبكات الإنترنت المفتوحة، التي يرى كثير من الناس أن الروابط الافتراضية تحل فيها مكان الروابط المادية للرفقة والصداقة الحميمة والنفوذ الاجتماعي.
وعلى النحو نفسه، فإن عالم الإنترنت هذا قد بدأ يحل بسرعة محلَّ وسائل التجسس التقليدية في التحول إلى مصدر بارز للتسريبات الاستخباراتية، وهو تحول له آثار عميقة في مستقبل حرفة التجسس عامةً، والاستخبارات المضادة خاصةً.
الوثائق نُشرت على منتدى لعشاق ألعاب الفيديو ومنها لمنتديات موالية لروسيا
شقَّت الوثائق المسربة طريقها عبر شبكة من طبقات الخوادم المتخصصة على منصة "ديسكورد" Discord، التي تجمع منتديات خاصة عبر الإنترنت ومعظم المشتركين فيها من عشاق ألعاب الفيديو الإلكترونية. وقد بدأ تسريب الوثائق على الخادم الإلكتروني Thug Shaker Central، الذي كان يُديره جاك تيكسيرا على منصة ديسكورد، وهو منتدى مخصص لتناول ألعاب الفيديو ذات الطابع العسكري والبنادق وغيرها من الاهتمامات ذات الصلة. وقد تكونت مجموعته من 20 عضواً انفصلوا عن خادم أكبر تابع لأحد المؤثرين العسكريين المشهورين على يوتيوب يحمل الاسم المستعار (Oxide).
وانتقلت الوثائق من هناك إلى منتدى لمتابعي اليوتيوبر wow_mao، وإلى منتدى إلكتروني آخر يسمى Minecraft Earth Map، فاستعملها مستخدم مجهول دليلاً على رأيه في مناظرة على الإنترنت بشأن الحرب في أوكرانيا. ثم تتابع مستخدمون آخرون على استخراج الوثائق من عالم ديسكورد، ونشرها إلى تطبيقات ومواقع أخرى عبر الإنترنت، حتى وصلت إلى منتديات التسريبات السيئة السمعة والقنوات الموالية لروسيا على تلغرام. وقد استغرقت هذه الرحلة البطيئة بضعة أشهر، ومع ذلك لم تلفت الوثائق السرية انتباه وسائل الإعلام الغربية، وتصدم وكالات الاستخبارات في العالم، إلا بعد 3 أشهر أو نحو ذلك.
الجدل حول لعبة فيديو دفع البعض لنشر وثائق سرية عن طائرات إف 16
ربما يبدو المسار الذي اتخذته الوثائق حتى ظهرت للعلن مساراً غير مسبوق، لكن النظرة الفاحصة للأمر تكشف أن كثيراً من التسريبات الاستخباراتية المهمة على مدار الخمسة عشر عاماً الماضية بدأ انتشارها، على الحقيقة، عبر الإنترنت.
ولم تكن معظم هذه التسريبات ناتجة عن أفعال تجسس ولا تحقيقات إعلامية ولا نشاط سياسي، بل كانت نتاجاً للثقافة الرقمية التي اكتست بها ملامح القرن الحادي والعشرين، والمقصود هنا على وجه التحديد: الرغبة في اكتساب النفوذ والمكانة بين الأصدقاء الإلكترونيين عبر الإنترنت.
الجدل حول لعبة فيديو دفع البعض لنشر وثائق سرية عن طائرات إف 16، لإثبات صحة نظرهم أمام مطوري اللعبة
فعلى سبيل المثال، بدأنا نشهد مراراً منذ عام 2021 نشر معلومات سرية حول تصميم أنظمة الأسلحة وأدائها عبر المنتديات المرتبطة بلعبة "ور ثاندر" (رعد الحرب) War Thunder، وهي لعبة فيديو قتالية متعددة اللاعبين تتسم تجهيزات الأسلحة فيها بالواقعية الشديدة.
وفي غمار السعي للفوز بالمناظرات الإلكترونية حول التفاصيل العسكرية وإمكانيات الأسلحة، أو الرغبة بإقناع المبرمجين بجدوى إضافة ميزات معينة لتعزيز واقعية الأسلحة الافتراضية، فإن اللاعبين أخذوا ينشرون تصميمات سرية لمركبات عسكرية مدرعة، وبرامج قيادة مقاتلات "إف 16" الأمريكية، ومواصفات دبابات صينية، حتى اضطر مطورو اللعبة إلى مناشدة المستخدمين بالتوقف عن نشر هذا النوع من المواد السرية في منتديات المتابعين.
البحث عن الإعجاب قد يدفع البعض لكشف وثائق سرية!
وعلى الرغم من أن بعض التسريبات كانت مدفوعة بأسباب أيديولوجية للمسؤولين عنها، فإن ثقافة الإنترنت ظلت أبرز الدوافع. على سبيل المثال، فإن تشيلسي مانينغ، المحللة السابقة بالاستخبارات الأمريكية والمدانة بتسريب وثائق عسكرية أمريكية على ويكليكس، بدأت بتسريب البرقيات الدبلوماسية في غمار مناقشات تتعلق بالسياسة الأيسلندية على قناة ويكيليكس. وعند النظر في محادثات مانينغ ومناقشات مؤسس ويكيليكس جوليان أسانغ وآخرين على القناة، فإنك تستشعر رغبتهم في التواصل مع أصدقاء جدد وإثارة إعجابهم.
وفي سياق مشابه، أرجع إدوارد سنودن قراره بتسريب وثائق المراقبة المتعلقة بوكالة الأمن القومي إلى خشيته من تأثيرها في تقويض القيم التي كان يعتز بها بين المتابعين المولعين بمنتديات الإنترنت وغرف الدردشة، مثل إخفاء الهوية والتعبير عن الذات والحق في إعادة اكتشاف الذات.
تختلف الدوافع والروابط الاجتماعية في هذا النوع الجديد من التسريبات عن الدوافع القديمة، على غرار الابتزاز بأسرار قابلة للاستغلال، مثل إدمان المخدرات أو التورط في علاقة رومانسية، وغير ذلك من وسائل التلاعب النفسي.
أصحاب التسريبات موهوبون يعملون بمجال التكنولوجيا ويشعرون بالعزلة
فالدوائر الاجتماعية للقائمين على هذه التسريبات تتكون من عشرات الآلاف من الشباب الموهوبين في مجال التكنولوجيا، الذين تعتمد عليهم أجهزة نظام الأمن القومي الأمريكي المنتشرة في جميع أنحاء العالم. وبحكمِ وظائفهم ومهماتهم، فإنهم يجدون أنفسهم معزولين اجتماعياً، ودائمي التنقل، ويعملون في الخارج ساعات طويلة، ولا يمكنهم التحدث عن عملهم مع أصدقائهم ولا أسرهم. وقد تزعجهم كذلك ثقافة العمل داخل تلك الأجهزة.
ومن ثم، فإن المسربين الجدد ربما يجدون الأنس والفرح وروابط التواصل الحقيقية في وسائل أخرى يرتادها أبناء جيلهم ويتشاركون فيها اهتماماتهم وأفكارهم: ألعاب الفيديو ومنتديات الدردشة عبر الإنترنت.
التسريبات لوثائق عسكرية أمريكية
اتهم المدعون الأمريكيون جاك تيكسيرا -العسكري البالغ من العمر 21 عاماً ويعمل في جناح الاستخبارات التابع للحرس الوطني الجوي بولاية ماساتشوستس- بانتهاك قانون التجسس من خلال نشره هذه التسريبات/رويترز
ولا تقتصر الدوافع على ذلك، فمنتديات الإنترنت المماثلة تسير الأمور فيها على نحو شبيه بالمجتمعات القائمة على اقتصاد العطاء أو الهبات، حيث تتحدد مكانة المرء بمدى قيمة المحتوى الذي يجلبه المجتمع، ويندرج في هذا المحتوى: الميمات اللافتة، ومقاطع الفيديو الغامضة، والروابط الإلكترونية، والأسرار.
ولذلك، فإننا إذا تعقَّبنا تسريبات تيكسيرا لأصدقائه الإلكترونيين، فسنجد أنه قد بدأ بنشر ملخصات للوثائق السرية التي تمكن من الوصول إليها، لإثبات مكانته بينهم وإعلان نفسه شخصاً جديراً بالتعرف إليه، وأكسبه ذلك بالفعل بعض المعجبين، لكن لما بدا له أن انتباه معجبيه قد تراجع، خاب أمله على ما يبدو، فسارع بنشر الصور الكاملة للوثائق لاجتذابهم إلى متابعته مرة أخرى.
ويريدون التباهي وسط أقرانهم
في هذا السياق، قال الكاتب جوناثان أسكوناس في مجلة The New Atlantis، إن عالم الإنترنت الافتراضي يوفر لمستخدميه فرصة بناء هوية جديدة، والارتقاء بالمكانة الاجتماعية، والتباهي بين الأقران، وإقامة حياة أكثر إثارة من تلك الحياة التي يُتيحها لنا العالم المادي. ولما يكون اللاعبون محللين في مجال الأمن القومي، ووظائفهم اليومية مملة رغم ما يطلعون عليه من أسرار مثيرة، فإن إغراء تسريب المعلومات قد يتحول إلى دافع قوي للفوز بالجدالات عبر الإنترنت أو كسب النفوذ أو إقناع الأصدقاء.
في الختام، من الواضح أن التصدي لهذا النوع الجديد من التسريبات يستلزم إصلاحات مباشرة في السياسات المتبعة، ومنها الاستعانة ببصمات تعقب أكثر تعقيداً للوثائق السرية، وقيود أشد إحكاماً على المسموح لهم بالوصول إلى هذه الوثائق. لكن الأمر الأهم من ذلك، أن مسؤولي المخابرات الذين ربما وجدوا حادثة التسريبات "شديدة الغرابة" يتعين عليهم أن يستوعبوا التغير الحادث في عالم التجسس، لأن مواجهة ثقافة التسريب الجديدة تتطلب ما هو أكثر بكثير من بعض التعديلات الإجرائية. فقد أصبح الاندماج بين أنشطة الاستخبارات وثقافة الإنترنت، الذي لطالما كان مادة لأفلام الخيال العلمي والروايات، حقيقة واقعة.