الجمعة 22 تشرين الثاني 2024

أوهام القوة وتغير طبيعة العلاقات الدولية


النهار الاخباريه. وكالات 

أزمة صفقة الغواصات الأسترالية والغضب المبرر والحقيقي الذي أثارته فرنسا بعد إزاحتها لصالح الولايات المتحدة وبريطانيا، وربطها بقضية محاصرة الصين وكفاءة التكنولوجيا الأميركية مقارنة بالفرنسية تثير تساؤلات عديدة بالغة الأهمية.

وفي الحقيقة، إن إخفاء الأهداف والمصالح الاقتصادية خلف بناء استراتيجية عسكرية أنجلوساكسونية لمحاصرة الصين هو بمثابة تصعيد عسكري غير مبرر، فهو مؤسس على تجاهل أن ما يجري في عالمنا المعاصر مختلف بدرجة كبيرة عما عرفته البشرية لقرون طويلة، فيما يتعلق بطبيعة الأداة العسكرية وكيفية توظيفها في تنفيذ أهداف ومصالح السياسة الخارجية للدول.

وفي الواقع، إن مناقشة أبعاد الأزمات والصراعات الجارية، بخاصة في المنطقة، يكشف إلى حد كبير كيف تتباين المفاهيم ويختلف تأثير الأدوات في العلاقات الدولية المعاصرة، والنقاش الذي سنطرحه هنا سيفرّغ هذه السياسات الأميركية من أي مضمون حقيقي.

أزمات العالم العربي نموذجاً

يعاني العالم العربي عدة بؤر للأزمات التي تفجرت بعد الربيع العربي، أهمها سوريا واليمن وليبيا، ونترك جانباً مؤقتاً حالتي العراق ولبنان، ونركز هنا على بعض أبعاد هذه البؤر الثلاث من حيث طبيعة وأنماط النفوذ وكيف تعزز هذه الرؤية .

في سوريا أكثر هذه الأزمات إثارة للجدل الدولي والإقليمي في النصف الأول من العقد الماضي، لدينا عدة لاعبين دوليين وإقليميين، بدأت بدعم من أطراف دولية وإقليمية للميليشيات المعارضة للحكومة السورية، وهي هنا ظاهرة عرفها تاريخ البشرية، ربما حتى من الأزمنة القديمة، لكن من أمثلتها الأكثر حداثة في التاريخ في الدعم الفرنسي للثورة الأميركية ضد الإمبراطورية البريطانية، وفي الدعم الروسي الصيني لفيتنام ضد الولايات المتحدة، وفي الدعم الأميركي الغربي للأفغان ضد الاتحاد السوفياتي، والدعم المصري والعربي لنضال الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي، وتلا هذا تدخل لحلفاء النظام السوري سواء إيران الحرس الثوري، وميليشيا حزب الله.

ومرة أخرى يأتي هذا النهج استمراراً لظواهر أيضاً مشابهة في التاريخ القديم والحديث، ثم تدخلت روسيا بقوة عسكرية جوية كبيرة، لتحسم الصراع لصالح حليفها السوري، وتلا هذا تعقيد للنزاع بدرجة كبيرة، وربما لن نكرر هنا ما ذكرناه من قبل من شكل خريطة الصراع في سوريا، حيث أصبحت روسيا اللاعب الدولي الرئيس، واكتفت واشنطن بدور المعرقل لإعلان النصر الروسي.

وأصبح اللاعب الرئيس الآخر في المشهد هو تركيا التي تستخدم تدخلها العسكري المباشر المدعوم بالميليشيات المتشددة التي رعتها وتواصل حمايتها وتوظيفها بشكل ذي طبيعة استراتيجية في جملة المشهد الإقليمي كأداة لخدمة نفوذها ومصالحها.

واللاعب الثالث الذي ما زال مؤثراً في المشهد، أي إيران، يعتمد بشكل أساسي على ميليشياته المباشرة وميليشيا حزب الله اللبناني التابع لها، بعبارة أخرى الطرف الأميركي الأقوى عسكرياً لا يملك القدرة نفسها على التأثير، لأنه لم يكن يريد التدخل المباشر في البداية، وحتى إذا أراد ذلك فإنه لن يفعل كونه لن يغامر بمواجهة عسكرية مفتوحة مع الخصم الروسي الذي سبق وسيطر على الأرض فعلياً.

وفي المشهد الليبي يتعدد اللاعبون الدوليون والإقليميون، وتتمتع تركيا ومصر من الإقليم بنفوذ يفوق ذلك الذي لدى روسيا والولايات المتحدة، اعتماداً على قوى محلية تابعة أو حليفة، وفي حالة تركيا توجد عسكرياً بالفعل في مواجهة تهديد مصري بالتدخل المباشر إذا أقدم حلفاء تركيا على محاولة التحرك شرقاً في اتجاه مناطق سيطرة التيارات المعادية لتوظيف الدين في السياسة.

وتعتمد تركيا ليس فقط على انتشارها العسكري المباشر المحدود نسبياً، لكن الأهم بعدة آلاف من مرتزقة "داعش" و"القاعدة" التابعين لها الذين جلبتهم من الساحة السورية، ولأننا لن نعرض لكل تفاصيل المشهد الليبي أيضاً فإن ما يهمنا هو أن اللاعبين الإقليميين يمارسون نفوذاً أكبر من الدوليين، ليس نتيجة لامتلاك قوة عسكرية كاسحة، مثل العملاقين الأميركي والروسي، لكن نتيجة الاعتماد الأساسي على الميليشيات المحلية والتابعة كذلك .

دلالات الدروس الأفغانية والعراقية

كثيرة هي دلالات الحالة الأفغانية التي ناقشناها كثيراً في الفترة الأخيرة، على رأسها صعوبة فرض التطور السياسي على البلدان الخاضعة للاحتلال والتدخل الخارجي، وعدم جواز تصور أن الحالات النادرة التي جرى من خلالها إعادة صياغة كثير من المستعمرات أو المهزومين عبر التاريخ قابلة للتطبيق في كل النماذج الأخرى.

وهنا، قد يقال إنه ما من قوة عسكرية استطاعت ترويض أفغانستان في القرون الماضية، ففي الواقع الأمر أعقد من هذا في الحالة الأميركية، نحن أمام أكبر قوة عسكرية إمبراطورية في التاريخ، ولديها تكنولوجيا عسكرية متطورة لم تعرفها الإمبراطوريات السابقة عبر التاريخ.

ومع ذلك فلندع أفغانستان جانباً لخصوصيتها وصعوبتها في هذا الصدد، ونكتفي بالدرس الرئيس الخاص بها، وهي أن القوة العسكرية الكاسحة لم تتمكّن من فرض إرادتها .

وفي العراق لدينا نموذج أكثر وضوحاً، فقد غزت الولايات المتحدة هذه الدولة بسهولة، وواجهت بعض التحديات والصعوبات لم تمنعها من السيطرة الكاملة على البلاد، فظهر تنظيم "داعش" بعدها بفترة قصيرة، لتدخل إيران ببناء ميليشيات شيعية تابعة لها برعاية ودعم أميركي ضمني ضد "داعش"، لينتهي الموقف بدحر التنظيم وتعظيم النفوذ الإيراني بشكل بالغ الوضوح والخطورة، لتنسحب بعدها الولايات المتحدة التي تأكد لديها تكلفة الاستمرار العسكري الوهمي، وأن هذه التكلفة قد تصبح تدريجياً بلا طائل في مجتمع أثار فيه الغزو الأميركي وتبعاته نعراته الطائفية بأكثر مما عرفه هذا المجتمع في أي من مراحل تاريخه الحديث.

تاريخ عسكري أميركي ملتبس

ربما تكشف النماذج السابقة عن أنه على الرغم من قوة الولايات العسكرية والسياسية الضخمة فإنها لم تتمكن في أي من هذه النزاعات من حسمها لصالح تعزيز نفوذها، وقد يقول البعض هنا إن واشنطن غيرت أولوياتها، وإن كل ما يهمها هو مصالح المكون العسكري الاقتصادي لديها، وليذهب كل شيء خلاف ذلك إلى الجحيم.

وفي الواقع فإن هذا ليس صحيحاً إلا جزئياً فحسب، ويعزز ذلك استعراض كل الحروب التي خاضتها الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية، على رأسها الحرب الفيتنامية، ليتضح أن واشنطن لم تنتصر بشكل حقيقي إلا في حرب واحدة، وإن كانت هي الأهم في كل العصر الحديث، وهي الحرب الباردة وإرهاق الاتحاد السوفياتي حتى إسقاطه وإنهاء ما سُمّي بالكتلة الاشتراكية، وهي معركة شاملة وضخمة كان أهم ما في المكون العسكري فيها هو استخدامه لإرهاق واستنزاف الاتحاد السوفياتي من خلال سباق التسلح وليس التوظيف التقليدي لهذه الأداة العسكرية.

تواصل الأوهام

كما سبق فإن الأزمة الأخيرة بين فرنسا والولايات المتحدة وبريطانيا حول صفقة الغواصات النووية الأسترالية تتضمن الكثير من مظاهر اللبس والوهم، وبصرف النظر عن البعد الاقتصادي في المسألة وكثير من الدلالات الخاصة بالتحالف الأنجلوساكسوني فإن المعضلة الرئيسة هي تغذية فكرة البعد الاستراتيجي لبناء تحالف عسكري في المحيط الهادي لمواجهة الصين، وبدء سباق التسلح في هذه المنطقة لمحاصرة بكين، وهي في الوقت نفسه ما زالت أهم شريك تجاري لأستراليا وبالغة الأهمية لواشنطن ذاتها اقتصادياً.

وهنا، فإن واشنطن تمارس عدداً من الأخطاء الاستراتيجية، الأول تكرار النهج نفسه المطبق في أزمات سابقة على أزمات جديدة من دون التنبه إلى أهمية مراعاة اختلاف الظروف بين كل حالة وأخرى، أي افتراض تطبيق استراتيجية إرهاق الاتحاد السوفياتي بسباق التسلح، متناسية أن قوة الاقتصاد الصيني أكبر بكثير، وأن الصين أكثر حصافة، ولن تتورط في هذا السباق الذي لا طائل منه.

والخطأ الثاني أنها تخسر حلفاء تقليديين بسرعة كبيرة، وأنه في عالم التداخل الاقتصادي الراهن فإن هذا قد يقوي حلفاء الصين، ويضعف من يستمر في المراهنة على واشنطن، فضلاً عن كل هذا لم تعتبر بسجل الأزمات المعاصرة، وحدود تأثير القوة العسكرية في حسم المصالح.

وفوق كل هذا تتجاهل واشنطن التداخل الاقتصادي بين الصين والولايات المتحدة وكل حلفائها ومسألة سلاسل الإنتاج التي تربط اقتصاد هذه الدول، وأن تحطُّم إحداها قد يؤدي إلى انهيار وتداعٍ اقتصادي عالمي، كل هذا يؤكد غلبة الأوهام والمصالح الضيقة على حساب التفكير الرشيد، فما ستكسبه واشنطن ولندن اقتصادياً سيخسره الحليف الأسترالي، فضلاً عن الإساءة العميقة للحلفاء الأوروبيين وليس فقط فرنسا، وبعد كل ذلك لن يُخضع الصين.