النهار الاخباريه وكالات
عالم الاتصالات يسمح لك بالتواصل مع جارك من بيتك حتى لو كان باب بيته قريباً من باب بيتك. ترسل له رسالة يرد عليك. قد تكملان جلستكما عبر وسائل التواصل، ولا حاجة لتبادل الزيارات، فكل شيء يبدأ على شاشات الهواتف المحمولة وينتهي فيها. بل وهناك تطبيقات تدلك على أقرب أصدقائك على شبكات التواصل في المنطقة التي تعيش فيها، ويمكنك التواصل معهم ولو لم تكن تعرفهم معرفة شخصية بل معرفة افتراضية فقط، وهو ما قد يحول هذه الجيرة إلى تواصل حقيقي وواقعي وليس افتراضياً فحسب.
جيران متفائلون ومتشائمون
بعض المتشائمين من كارهي شبكات التواصل الاجتماعي والتطور التقني والعلاقات الاجتماعية الافتراضية، يعتبرون أن وسائل التواصل الاجتماعي تسببت في اندثار الجيرة والجيران، وحولت الأشخاص إلى كائنات افتراضية يقيمون علاقاتهم الاجتماعية كلها عبر شبكة الإنترنت من دون الحاجة إلى لقاءات حقيقية في الواقع. ويرى هؤلاء أن أواصر القرابة واللقاء خفتت بسبب العالم الافتراضي، وجاءت جائحة كورونا لتصب الزيت على نار قلة التواصل المباشر واللقاءات العائلية الحميمة واللقاءات في الأماكن العامة بالأصدقاء. فاجتمع السببان، كورونا وعالم التواصل الافتراضي، ليقضيا نسبياً على العلاقات المباشرة بين الناس، وتحديداً بين الجيران والأقارب.
وكتبت عبير الفوزان في مقالتها "الجيرة زمن التقنية"، "في هذا الزمن، بدأ الجار يتراجع من صف الجوار، وبدأ مفهوم الجيرة يتنحى تاركاً المساحة لنوع جديد من العلاقات التي ظهرت في زمن التقنية، إذ تربعت على عرش الود. فشبكات التواصل الاجتماعي أغنت كثيراً من الناس عن العلاقات الدافئة الحقيقية، إذ وفرت لهم نوعاً من العلاقة الافتراضية المريحة نسبياً التي تتناسب مع هذا الزمن ومتطلباته".
أما المتفائلون فيرون العكس تماماً، وبرأيهم أن وسائل التواصل الاجتماعي على شبكة الإنترنت فتحت المجال الواسع لتعارف الناس من جنسيات وثقافات وأفكار وأعراق مختلفة، ويقدمون أمثلة على الزيجات الكثيرة التي حدثت بين أشخاص تعارفوا عبر الإنترنت، أو التواصل اليومي مثلاً مع الأهل والأقارب والجيران عبر الهاتف، الذي بات يحتوي على كثير من التطبيقات التي سهلت هذا التواصل بشدة، حتى بات المهاجر يبدو وكأنه بين أهله من خلال شاشات الفيديو التواصلية، التي ألغت المسافات نهائياً. وبرأي هؤلاء أن جائحة كورونا جاءت لتؤكد أهمية وسائل التواصل الاجتماعي، ويعتبرون أنه علينا تخيل عالم في ظل جائحة كورونا ومن دون وسائل تواصل كالتي لدينا الآن. ما الذي كان ليحدث؟ وكيف كانت لتسير الأمور؟ وكيف سيؤثر ذلك على كل العلاقات البشرية في ما لو كانت الجائحة قادرة على منع أي تواصل بين البشر المعزولين في منازلهم، أو الذين لا يتمكنون من الذهاب إلى عملهم.
كلا وجهتي النظر صحيحتان، لكن من هو الجار في أدبياتنا واجتماعياتنا قبل وبعد شبكة الإنترنت؟
من هو الجار؟
يكتب الشاعر عمر شبانة فكرة صائبة عن الجار والجيرة في ملفه الذي حمل عنوان "الجار" في مجلة "القافلة" التي تصدر عن "أرامكو" السعودية، "حين نسمع المثل الشعبي -الجار قبل الدار- فنحن غالباً لا نتوقف لنتأمل عمقها، ونمر عليها كما لو كانت شعاراً أو مادة إعلانية، فيما هي محملة بشحنة عالية من المعاني والدلالات المهمة جداً. تنتمي العبارة إلى عالم من العلاقات هي من الدرجة الثانية بعد علاقة الدم والقرابة. لكنها قد تغدو علاقة من الدرجة الأولى بين الجيران، أي إنها تتقدم على قرابة الدم".
كثير من الأمثلة الشعبية العربية موجهة نحو الجار للاهتمام به، وليس الجار القريب فقط بل والسابع أيضاً. وهناك قصص من سيرة نبي الإسلام الذي كان يعتني بجيرانه حتى المسيئين منهم. وفي الجوانب الاجتماعية والاقتصادية هناك كثير من الأمثلة والمقولات الشعبية والقصص التي تدفع نحو مساعدة الجار والاعتناء به وتقديم العون له عند الحاجة.
في اللغة العربية، فإن تفسير كلمة "جار" تؤدي معانيها والصفات التي من المفترض أن تكون في الجار، فجاء في "معجم المعاني الجامع"، أَجارَ، يُجير، أجِرْ، إجارةً، فهو مُجيرٌ، والمفعول مُجارٌ، وأجاره اللهُ من العذاب: حمَاه منه وأنقذه، وجعله في جواره وحمايته. وأَجَارَ الغرِيقَ: أغاثَهُ. والجارُ هو المُجاور في المسكن، الجارُ المستجير، والجارُ: المُجارُ، والجارُ: هو الزوج، الجارُ: الزوجة. والجارُ: هو الحليف، والناصر. وفي ثقافتنا الاجتماعية فإن كل من دخل حدود الجوار فهو جار.
وعلى الرغم من أن العلاقات الاجتماعية باتت أضعف مما كانت عليه، وتغيرت حياة الناس تغيراً جذرياً في بعض جوانبها، لكن تأثيرات الجيرة لا تزال قائمة، فأينما كنا في العالم، عندما نكون على علاقة حسنة بجيراننا، فإننا نتحمل الضوضاء الصادرة عن بيوتهم بشكل أفضل، كما نتحمل اعتداءات أولادهم على بيوتنا وحدائقنا، ونجد لهم الأعذار المخففة.
وفي حب الجار يقول بنجامين فرانكلين، "كن في حرب مع عيوبك، وفي سلام مع جيرانك". أما كونفشيوس فيقول، إن "الفضيلة لم تترك لتكون وحدها، فمن يمارسها سيكون له جيران". ويقول تشارلز ديكنز، "يبدأ الإحسان في البيت، وتبدأ العدالة عند الجار". أما الحكمة النرويجية فتطلب "أحب جارك، ولكن لا تهدم الجدار الفاصل بينكما". وعلى الرغم من شدة المزاج المعروف عن الروس، فإنهم يوصون بالجار، وجاء في الحكمة الروسية، "من يرمي الشوك عند جاره، يراه ينبت في حديقته".
الجار في عصرنا الحالي
نتيجة للنزوح الكبير من الريف إلى المدن الذي حدث خلال القرن الماضي، تغيرت عادات الجيرة في المدن والأرياف. ففي المدن المكتظة، بات الجيران شديدي الاختلاف ثقافياً واجتماعياً وطبقياً، وتبدلت علاقات الجيرة الحميمة والتواصل الدائم وتبادل الزيارات والطعام. وصارت اللقاءات تتم في المصعد أو في مدخل المبنى أو في الشارع أو في المكتب والمقهى، أو عبر وسائل التواصل الاجتماعي تحديداً. وباتت الجيرة عبارة عن مصالح مشتركة تدور حول المبنى السكني ونظافته وتصليح الأعطال وغير ذلك من الأمور اللوجستية الخالية من العواطف. بل واتسعت دائرة الخلاف بين الجيران لشدة تقارب المباني والشقق السكنية، فعلى سبيل المثال، يجد بعض البريطانيين بحسب تقارير ودراسات جامعية إنجليزية، صعوبة في التأقلم مع جيرانهم بسبب ضجيج أطفالهم وصخب الحفلات التي يقيمونها وتمتد إلى ساعات متأخرة من الليل، وقد أظهرت دراسة أن 60 في المئة من البريطانيين يكرهون جيرانهم بسبب الضجيج المنبعث من منازلهم، فيما اعترف 28 في المئة منهم بأنهم لن يقيموا معهم أي علاقات اجتماعية، و10 في المئة بأنهم يتناحرون معهم بصورة مستمرة. ووجدت الدراسة أن 6 من كل 10 بريطانيين لا يتأقلمون مع عائلة على الأقل من جيرانهم، وأن 3 من كل 10 منهم يقيمون علاقة سيئة مع اثنين من جيرانهم لأسباب تُراوح بين صخب أطفالهم، وضجيج حفلاتهم، وإغراق حاويات القمامة المشتركة أمام منازلهم بمواد لا يمكن وضعها فيها. وقالت دراسة أخرى إن نصف البريطانيين أقروا بأنهم ينظرون في الاتجاه المعاكس إذا ما صادفوا جيرانهم في الشارع، فيما اعترف واحد من كل عشرة منهم بأنه يرمي جاره بنظرة فاترة، و10 في المئة بأن لديهم عداءً مستمراً مع أحد الجيران منذ فترة طويلة.
الجيرة والثقافات الاجتماعية
يبدو أن أمر الجيرة ومفاعيلها يتغير بحسب المجتمعات وثقافتها، لذا على سبيل المثال، يعبر كثر قادمون من دول أفريقية أو من أميركا اللاتينية إلى أسواق العالم العربي، عن دهشتهم الكبيرة للشكل الذي تُعرض فيه الحلي الذهبية والجواهر في المتاجر المشرعة أبوابها للمارة، ويقولون إن هذه المحلات لو كانت في مدنهم لنُهبت في دقائق وقُتل أصحابها. ومن المعروف أنه في الأسواق العربية القديمة خلال القرنين الـ18 والـ19 وفقاً لمؤرخي العادات الشعبية وأخلاقيات شعوب المنطقة مثل سلام الراسي والبساتنة، أنه في سوريا ولبنان والعراق حيث تكون المحال والدكاكين والمتاجر متقاربة، كان صاحب المتجر يتركه مفتوحاً ليذهب إلى عمل أو إلى استراحة الغداء، ويحرسه له جاره الذي ربما يبيع البضائع نفسها.
وفي المجتمعات الأوروبية التي شهدت هجرة واسعة من بعض البلدان، وبخاصة من المغرب العربي وأفريقيا، فالواضح أن أبناء هذه الجاليات الذين استقر أهلهم في ضواحي المدن، لم يتكيفوا مع جيرتهم الجديدة، ولم تتكيف جيرتهم من السكان الأصليين معهم، ولهذا السبب راحوا يعتمدون أساليب العنف للرد على ما يعتبرونه تهميشاً أو تمييزاً أو عدم اكتراث لوجودهم، من وجهة نظرهم، طالما أنهم غير مندمجين اجتماعياً أو لم يتحولوا إلى مواطنين حقيقيين في الدولة التي أعطتهم جنسيتها. وهنا يظهر تأثير الجيرة على المجتمعات. فالجيرة السيئة أو التي لم يكتمل قوامها ولم تقم على أسس التقارب والتضامن أو التعارف أقلّه، أدت في كثير من الأحيان إلى ردود فعل عنيفة، زادت في البعد العاطفي بين الجيران. وهذا الأمر ما زال بارزاً في معظم الدول الأوروبية، التي ما زالت تشهد هجرات كثيفة للشعوب الهاربة من الحروب والفقر والبطالة إلى "جنة" أوروبا، التي حاولت استيعابهم. لكن هذا الاستيعاب تفاوت في الأعداد وطريقة الاستقبال وحسن التعامل بين دولة أوروبية وأخرى.
الجيرة هي نواة التكاتف الاجتماعي والحلقة الأصغر في التكافل الاجتماعي، فحيث تشتد أواصر علاقات الجيران نشهد مجتمعات محلية سليمة وآمنة وهادئة ولا تنغص على تركيبة المجتمعات الأكبر. والعكس صحيح. أما بخصوص تأثير وسائل التقنية الحديثة، فهو واضح في مجتمعات من دون غيرها. ففي المجتمعات العائلية والزراعية والفلاحية، وفي المدن الصغيرة التي تقوم الأحياء فيها على توزيع ديموغرافي قائم على القرابة أو على تقسيم طبقي، فإن العلاقات الجيرانية ما زالت على حالها، على عكس المجتمعات الحديثة المتشكلة من مجموعات مختلفة من السكان، فهي متأثرة بجفاء الجيرة منذ تطور دور المدينة وتكريس الفردية فيها، وجاءت وسائل التواصل الاجتماعي لتكرس هذا التباعد.