مع الهدف النهائي المتمثل في تعزيز نفوذها في ليبيا وتأمين دور رئيسي في المنطقة، شرعت تركيا في استراتيجية متعددة الأطراف، بما في ذلك الشراكات في قطاع الدفاع، والبناء المنهجي للعلاقات التجارية، والتحركات الدبلوماسية الاستراتيجية. ومع ذلك، قد تكون هناك عوامل تشكل تحديًا لطموحات أنقرة المتزايدة في ليبيا.
وظهرت الرؤية الاستراتيجية والجيوسياسية لتركيا لسياق ما بعد الحرب الليبية من خلال الإجراءات العسكرية والاقتصادية والدبلوماسية المهمة التي اتخذتها أنقرة في البلاد على مدار العامين الماضيين. وأصبح هذا النفوذ الكبير على ليبيا موضع تساؤل لفترة وجيزة في أوائل مايو/أيار عندما زار مسؤولون أتراك رفيعو المستوى - بمن فيهم وزير الدفاع "خلوصي أكار" ووزير الخارجية "مولود جاويش أوغلو" - طرابلس.
وعقد "جاويش أوغلو" خلال الزيارة مؤتمرا صحفيا مشتركا مع نظيرته الليبية "نجلاء المنقوش" التي قالت إنها تتوقع أن تتعاون تركيا وتساعد في طرد جميع القوات الأجنبية والمرتزقة من ليبيا. وبالنظر إلى الوجود العسكري التركي في البلاد، اعتبر الكثيرون بالطبع أن تصريحات "المنقوش" تشير إلى تغييرات في السياسة الليبية. على وجه التحديد، تم تفسير هذا التصريح على أنه يشير إلى سياسة ليبية أكثر استقلالية تسعى إلى تخفيف الارتباط الوثيق مع أنقرة، مما يثير شكوك حول قوة النفوذ التركي في طرابلس.
ومع ذلك، أثبتت الأحداث اللاحقة خلاف ذلك. وبعد أيام قليلة من المؤتمر الصحفي، اقتحم مسلحون فندق كورينثيا في طرابلس، والذي يستخدم كمقر للمجلس الرئاسي الليبي. وسرعان ما بدأت أنباء الهجوم تنتشر على مواقع التواصل الاجتماعي، ونُسبت الحادثة إلى جماعات موالية لتركيا أزعجتها تصريحات "المنقوش". جذبت القصة انتباه العالم وضغطت على وزيرة الخارجية الليبية، على المستويين المحلي والدولي، مؤكدة على النفوذ التركي في البلاد، والذي من المرجح أن يستمر في النمو في المستقبل.
في المقابل، شددت أنقرة على ضرورة التفريق بين مجموعات المرتزقة أيا كانت طبيعتهم والوحدات التكتيكية أو المستشارين الأفراد من الجيش التركي العاملين في ليبيا. وبالرغم من الانتقادات الدولية، فإن أنقرة تقدم وجودها العسكري كعمل مشروع وخطوة أساسية في إعادة بناء البلاد وهي وجهة النظر التي يتبناها العديد من كبار المسؤولين الليبيين.
وتسعى أنقرة أيضًا إلى القيام بدور في إعادة بناء مؤسسات الدولة الليبية التي مزقتها الحرب، ما سيخلق علاقة طويلة الأمد من الاعتماد المتبادل، وفي نوفمبر/تشرين الثاني 2020، شكك أعضاء البرلمان الأوروبي الإيطاليون في النفوذ التركي المتزايد على سلطات الدولة الليبية، لا سيما على خفر السواحل الليبي. واستغلت تركيا تأخير وتقاعس الاتحاد الأوروبي تجاه ليبيا في العديد من القضايا، من خلال التدخل بشكل مستقل لإظهار قدرتها على بناء الدولة.
على سبيل المثال، لم يشارك المسؤولون الأتراك فقط في العمليات وتدريب خفر السواحل الليبي، ولكن أيضًا في إنشاء القوات المسلحة الليبية. ومع الوجود العسكري التركي في البلاد، كانت هناك عدة حالات قام فيها ضباط وجنود من جميع أفرع القوات المسلحة الليبية بزيارة تركيا لتلقي تدريب متقدم.
ترسيم الحدود البحرية
وفي أواخر عام 2019، وقعت تركيا وحكومة الوفاق الوطني في طرابلس مذكرة تفاهم فيما يتعلق بالحدود البحرية للدولتين. وتعتبر مذكرة التفاهم، التي تم تقديمها إلى الأمم المتحدة، ذات أهمية حاسمة لأنقرة، لأنها تدعم استراتيجيتها في شرق البحر الأبيض المتوسط، وهي منطقة تتداخل فيها مطالب تركيا مع اليونان.
ومما لا شك فيه أن الحشد العسكري التركي المستمر في طرابلس منذ أوائل عام 2020، من خلال نشر خبراء عسكريين أتراك ومعدات متطورة - بما في ذلك تكنولوجيا الطائرات بدون طيار التركية مثل "بيرقدار" كان سببا رئيسيا في منع سقوط حكومة الوفاق الوطني. وبالنظر إلى مشاركة العديد من شخصيات حكومة الوفاق الوطني في القيادة الحالية للبلاد، فإن أنقرة لديها فرصة للاستفادة من النفوذ الذي اكتسبته خلال فترة الصراع.
وكانت اليونان تأمل أن تلغي الحكومة الليبية الجديدة الاتفاق التركي مع حكومة الوفاق، لكن هذا لم يحدث. وفي أبريل/نيسان الماضي، التقى رئيس الوزراء الليبي "عبدالحميد دبيبة" بالرئيس "رجب طيب أردوغان" في أنقرة وأكدا أن "الاتفاق البحري الموقع بين تركيا وليبيا يؤمن المصالح الوطنية ومستقبل البلدين".
التوسع الجيوسياسي عبر الروابط الاقتصادية
نجحت أنقرة أيضًا في توسيع نفوذها في مجالات الدفاع والأمن والسياسة الخارجية في ليبيا من خلال القوة الناعمة. يشكل النمو الاقتصادي والتجاري للشركات التركية في ليبيا عنصرا حيويا في هذه الاستراتيجية. وبلغت صادرات تركيا إلى ليبيا أكثر من 826 مليون دولار، خلال الفترة من يناير/كانون الثاني إلى أبريل/نيسان 2021، بزيادة قدرها 60% تقريبًا مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي.
ووفقًا لتوقعات رئيس مجلس الأعمال التركي - الليبي "مرتضى قرنفل"، فإن حجم التجارة بين البلدين سيستمر في النمو. في الوقت نفسه، تعد ليبيا واحدة من 17 دولة تتفاوض معها تركيا على اتفاقية تجارة حرة. ووفقًا للمؤشرات الحالية، يعطي التنفيذيون الأتراك الأولوية لتقدم تلك المحادثات مع طرابلس.
وبالنسبة إلى "قرنفل" وغيره من كبار المسؤولين الأتراك، سيكون دور أنقرة أساسيًا في إعادة إعمار ليبيا. وبالفعل، هناك استثمارات تركية ضخمة قيد الإعداد، بما في ذلك استثمارات مجموعة "قرنفل"، مع التركيز على البنية التحتية وتغطية القطاعات الحيوية مثل البناء والطاقة والصناعات الدوائية والصناعات الدفاعية.
وسيسعى المستثمرون الأتراك إلى الاستفادة من العلاقات الثنائية الجيدة، ولكن الأهم هو رؤية "أردوغان" لتوسع تركي حاسم عبر منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
بهذا المعنى، يبدو أن كلاً من الحكومة التركية ورجال الأعمال يستفيدون من تعثر البنية التحتية الاقتصادية في ليبيا. وتسعى الحكومة التركية إلى تهيئة الظروف المثالية لمستثمريها في ليبيا، في محاولة لتوسيع نفوذها الجيوسياسي، من خلال المصالح التجارية والديناميكيات التي يحركها السوق. وبالنسبة للشركات التركية، فإن ليبيا فرصة للتوسع في سوق جديدة ظلت غير نشطة لأكثر من عقد بسبب الحرب الأهلية المدمرة.
ويمكن أن يعمل الوجود التركي القوي في ليبيا أيضًا كبوابة وقاعدة لوجستية للتوسع التجاري والجيوسياسي التركي في إفريقيا، بما يتماشى مع رؤية "أردوغان" الكبرى لدور أنقرة في القارة. ويشار إلى أن هناك مشروعا لوجستيا تركيا كبيرا في ميناء مصراتة، شمال غربي ليبيا، تجري مناقشته حاليًا بين أصحاب المصلحة رفيعي المستوى، ومن المقرر أن يخدم المشروع هذه الخطة بشكل مباشر.
وقال وزير الدولة للشؤون الاقتصادية في الحكومة الليبية الجديدة "سلامة إبراهيم الغويل"، في مقابلة حديثة، إن مشاريع إعادة البناء المخطط لها ستوفر أكثر من 30% من الوظائف المستقبلية في البلاد، مع كون تركيا واحدة من اللاعبين الرئيسيين في هذا المجال.
يمكن أن يثبت هذا النوع من التوسع الجيوسياسي من خلال المشاركة المباشرة مع القوى العاملة المحلية أنه أداة سياسة مفيدة للغاية، لا سيما عند النظر في مدى أهمية فرص العمل وإمكانية تحقيق دخل موثوق للشعب الليبي، بعد أكثر من 10 سنوات من الصراع.
الخلاصات
بناءً على الظروف الحالية، يؤيد الجانبان الوجود التركي طويل الأمد في ليبيا، ويمكن توقع أن تلعب أنقرة دورًا محوريًا في التطورات الإقليمية.
ومع ذلك، هناك العديد من التحديات التي يجب أخذها في الاعتبار، والتي يمكن أن تعطل في نهاية المطاف خطط تركيا وتعيق رؤية "أردوغان" الاستراتيجية، حيث إن الوجود العسكري التركي نقطة احتكاك مع العديد من اللاعبين الرئيسيين المهتمين بليبيا، بما في ذلك دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة ومصر.
ومع ذلك، فإن أنقرة مصممة على عدم التراجع ولا توجد مؤشرات على أن الأطراف المقابلة ستمارس ضغوطًا كبيرة في المستقبل من أجل انسحاب العسكريين الأتراك من ليبيا.
بالإضافة إلى ذلك، تعرضت اتفاقية ترسيم الحدود بين تركيا وحكومة الوفاق الليبية لانتقادات شديدة من قبل اليونان. وتدّعي أثينا أن الاتفاقية تنتهك القانون الدولي وحقوق السيادة اليونانية. ومع ذلك، فإن الحكومة اليونانية مترددة في اتخاذ أي إجراء حاسم، وبالتالي لا توجد عقبات كبيرة أمام الخطط التركية في هذا الصدد.
إن أكبر تهديد لتحقيق أهداف تركيا في المستقبل هو بلا شك الخلاف الداخلي في ليبيا نفسها. وبالرغم من حقيقة أن البلاد تمر بمستوى معين من الاستقرار والوحدة بعد فترة من القتال المستمر، فإن النظام السياسي الليبي ما زال بعيدًا عن إعادة الهيكلة بشكل جذري.
وبالرغم أن رئيس الوزراء الحالي، "عبدالحميد الدبيبة"، والعديد من الشخصيات الرئيسية في مجلس الوزراء يؤيدون التعاون المستمر مع تركيا، إلا أن السياق لا يزال هشًا. وبالتالي قد تشهد ليبيا المزيد من التغييرات في المشهد الأمني والسياسي.