النهارالاخباريه- وكالات
ينكب القضاء الفرنسي مجدداً، وعلى مدى تسعة أشهر على قضية الاعتداءات في 13 نوفمبر (تشرين الثاني) 2015، حين هاجم "انتحاريون" ملعب استاد فرنسا، وفتح مسلحون النار على شرفات مقاهٍ وفي قاعة باتاكلان للعروض الموسيقية، في أعنف هجمات شهدتها فرنسا منذ الحرب العالمية الثانية.
هذه المحاكمة الخارجة عن المألوف، وهي أكبر محاكمة في قضية إجرامية تنظم في فرنسا، بدأت ظهر الأربعاء 8 سبتمبر (أيلول) الحالي، في قصر العدل التاريخي في باريس وسط إجراءات أمنية مشددة في إطار من التهديد الإرهابي المرتفع.
وقال الناطق باسم الحكومة، غابرييل أتال، لشبكة "فرانس 2"، "يُحتمل أن يكون هناك خطر يحيط بهذه المحاكمة". وأوضح مدعي باريس السابق فرنسوا مولانس لإذاعة "آر تي أل" إنه "يجب بناء ذاكرة جماعية عبر تأكيد مرة جديدة قيم الإنسانية والكرامة"، وإفساح المجال أمام "عائلات الضحايا لكي يفهموا ما حصل".
وستحاكم محكمة الجنايات الخاصة حتى 24 أو 25 مايو (أيار) 2022، عشرين متهماً بينهم الفرنسي- المغربي صلاح عبد السلام، العضو الوحيد على قيد الحياة من مجموعة الكوماندوس التي نفذت الاعتداءات بأمر من تنظيم "داعش"، موقعة 130 قتيلاً وأكثر من 350 جريحاً في باريس وسان دوني (ضواحي باريس)، وخلفت صدمة كبيرة في فرنسا.
وسيحاكَم عشرة آخرون سجنوا طوال فترة المحاكمة في سجون بضواحي باريس إلى جانبه في قفص المتهمين، وهم يحاكمون بتهمة المشاركة في هذه الاعتداءات التي نُفذت في وقت كانت باريس لا تزال تحت وقع صدمة هجمات على صحيفة "شارلي إيبدو" الساخرة، التي قُتل جميع أفراد هيئة تحريرها تقريباً إعداماً، وعلى متجر يهودي للأطعمة. وسيمثل ثلاثة متهمين طليقين قيد المراقبة القضائية، فيما سيحاكم ستة آخرون غيابياً. ويواجه 12 من المتهمين العشرين عقوبة السجن المؤبد.
المحاكمة "تاريخية"
وأكد وزير العدل الفرنسي، إريك دوبون-موريتي الاثنين الماضي، أن هذه المحاكمة "تاريخية" بعدما زار القاعة التي تتسع لـ550 مقعداً، وبُنيت خصيصاً للجلسات، واصفاً إياها بأنها "ماراثون قضائي".
اقرأ المزيد
وإلى جانب حجم الملف، فإن هذه المحاكمة غير مسبوقة في المجال الإجرامي من حيث مدتها وعدد أطراف الحق المدني البالغ 1800. ويقول ارتور دينوفو الناجي من الهجوم على قاعة العروض باتاكلان، رئيس جمعية الضحايا "لايف فور باريس"، إنه "غوص في المجهول"، مضيفاً "كيف ستسير الأمور على مدى تسعة أشهر؟".
من جهتها، ترى مديرة جمعية مساعدة الضحايا المكلفة تقديم دعم نفسي، كارول دامياني، إنها تلقت "العديد من الاتصالات" في الأيام الماضية، موضحة "نشعر بأن هناك قلقاً وتوتراً".
إحدى اللحظات المؤثرة الأولى ستكون اعتباراً من 28 سبتمبر (أيلول) الحالي، حين يبدأ نحو 300 من أقرباء الضحايا والناجين بالإدلاء بإفاداتهم. سيتناوبون أمام المحكمة على مدى خمسة أسابيع، ليتحدثوا عن تفاصيل ليلة الرعب تلك، والندوب التي خلفتها والمآسي الشخصية التي امتزجت بالخوف الجماعي.
كانت الساعة 21.16 الجمعة 13 نوفمبر 2015 حين غرقت فرنسا في الرعب مع قيام انتحاري بتفجير نفسه قرب ملعب استاد فرنسا خلال مباراة ودية بين منتخبي فرنسا وألمانيا.
وعلى بعد كيلومترين في قلب باريس أطلقت مجموعة مسلحة من ثلاثة عناصر النار بالأسلحة الحربية الرشاشة على شرفات مقاهٍ، فيما فتحت وحدة ثالثة من ثلاثة عناصر أيضاً النار على الجمهور داخل مسرح باتاكلان خلال حفل موسيقي.
وبعيد منتصف الليل، اقتحمت الشرطة مسرح باتاكلان، فهرب مهاجمان وبدأت عملية مطاردة استمرت خمسة أيام. وفي نهاية المطاف، قتل عبد الحميد أباعود، أحد المتطرفين الناطقين بالفرنسية في رأس قائمة المطلوبين لدى فرنسا، وشريك له في 18 نوفمبر خلال هجوم للشرطة على مبنى في سان دوني كانا يختبئان فيه.
تحقيق متشعب
وفيما كانت فرنسا تبكي قتلاها وتغلق حدودها وتعلن حال الطوارئ، بدأ تحقيق متشعب على نطاق واسع، بالتعاون الوثيق مع القضاء البلجيكي.
وأتاحت أربع سنوات من التحقيقات تحديد القسم الأكبر من الجانب اللوجيستي للاعتداءات، والطريق الذي سلكه عناصر الوحدات عبر أوروبا منذ عودتهم من سوريا سالكين طرق المهاجرين، وحتى مخابئهم في شقق مستأجرة في بلجيكا وقرب باريس.
وكشف التحقيق عن خلية متطرفة أكبر خلف الاعتداءات، هي نفسها التي تقف خلف الاعتداءات على المطار وقطارات الأنفاق في بروكسل، التي أوقعت 32 قتيلاً في 22 مارس (آذار) 2016.
في غياب أسامة العطار، أحد "أمراء" تنظيم "داعش" الذي يشتبه في أنه خطط للاعتداءات من سوريا، وغيره من كبار قياديي التنظيم بينهم الأخوان فابيان وجان ميشال كلين، الذين يُعتقد أنهم قُتلوا وتجري محاكمتهم غيابياً، ستتجه الأنظار إلى صلاح عبد السلام ومحمد عبريني، "الرجل ذي القبعة" الذي عدل عن تفجير نفسه في مطار بروكسل.
فهل تنجح المحكمة التي لن تستجوبهم قبل عام 2022، في تبديد آخر نقاط الغموض المتبقية، بدءاً بالدور الذي لعبه فعلياً صلاح عبد السلام (31 سنة)؟
ولزم عبد السلام الصمت أثناء التحقيق معه وتتوقع أطراف الادعاء المدني منذ الآن أن يبقى على هذا الموقف.
وحذر محاميا المتهم أوليفيا رونن ومارتان فيتس بأن "المحاكمة ستكون مشحونة بالمشاعر، لكن على القضاء أن ينأى عنها إن كان يريد أن يبقي نصب عينيه المبادئ التي تقوم عليها دولة القانون".
وأكدا "سنسهر على عدم تحوّل هذه المحاكمة الاستثنائية إلى محاكمة استثناء".
في المقابل، قالت محامية دفاع أخرى هي ليا دورديي "إن كان من الجوهري أن يتمكن جميع أطراف هذه المحاكمة من الكلام، إذ إن الضحايا بحاجة إلى التعبير عن معاناتهم، فعلينا ألا ننسى أن هذه هي بالمقام الأول محاكمة المتهمين الذين يجب الحكم عليهم بمستوى ضلوع كل منهم وعلى ضوء مسار كل منهم وشخصيته".
وستستدعي المحكمة نحو 100 شاهد بينهم العديد من المحققين الفرنسيين والبلجيكيين والرئيس الفرنسي السابق فرنسوا هولاند.
وستكون هذه ثاني محاكمة في قضية إرهاب تُصور بالكامل لضمها إلى الأرشيف السمعي البصري للقضاء، بعد المحاكمة في الاعتداءين على "شارلي إيبدو" والمتجر اليهودي.