النهار الاخباريه وكالات
ينتشر تصور مثالي وهمي حول أن سياسات الدول وبالأخص الدول الكبرى تُتَّخذ بعد إجراء نوع من التحليل المنهجي والعقلاني للسياسات تُدرس خلاله جذور المواضيع محل الدراسة وأبعادها مع مراعاة جميع الخيارات الممكنة وتكاليفها وفوائدها النسبية قبل اتخاذ أي إجراء للتعامل معها. لكن مذكرات الرؤساء والوزراء والقادة تكشف أن هذا ليس ما يحدث على أرض الواقع، ففضلاً عن التحيزات الاجتماعية والأيديولوجية كثيراً ما تقف خلف خيارات صناع القرار التحيزات الشخصية التي تحركها الأهواء والطبائع النفسية، وهو ما يصعب على المحللين والمختصين إدراكه في نماذج التحليل المثالية، وبالمثال يتضح المقال.
غزو العراق وغياب التخطيط الاستراتيجي
الدبلوماسي الأمريكي الأفغاني الأصل زلماي خليل زاد الذي خدم خلال الفترة من 1985 إلى 1989 كمستشار لوزارة الخارجية الأمريكية فيما يخص الحرب الروسية الأفغانية، ثم تولى منصب السفير الأمريكي في أفغانستان خلال الفترة من 2003 إلى 2005 ثم السفير الأمريكي في العراق من 2005 إلى 2007 ثم شغل في عام 2018 منصب المبعوث الأمريكي الخاص بالتفاوض مع حركة طالبان، نشر كتاباً مهماً بالإنجليزية في عام 2016 تُرجم لاحقاً إلى العربية بعنوان (السفير: من كابول إلى البيت الأبيض رحلتي عبر عالم مضطرب) كشف خلاله بعض كواليس اتخاذ القرارات في إدارة بوش خلال الحرب في العراق وأفغانستان.
من بين ما رواه خليل زاد حديثه عن دوره في عام 2003 في رسم المشهد العراقي عقب الإطاحة بالرئيس صدام حسين، حيث أوكلت إدارة بوش إلى زلماي عقد اجتماعات في مختلف أنحاء العراق من أجل تحديد القادة القادرين على العمل مع مجموعات المعارضة العائدة من المنفى بهدف تأليف حكومة مؤقتة. وكان المخطط الأمريكي يعتمد على نقل السيادة إلى إدارة عراقية جديدة في أسرع وقت ممكن، لكن بحسب زلماي تم التخلي عن هذه الخطة فجأة ليعلن الرئيس الأمريكي بوش أن الدبلوماسي بول بريمر سيتوجه إلى بغداد كي يقود سلطة التحالف المؤقتة التي ستلعب دور حكومة الاحتلال الأمريكي في عراق ما بعد
وفي ظل ذلك التغير المفاجئ أجرى بوش اتصالاً مع زلماي خليل زاد، حيث قال له الأخير (إنني لم أفهم سبب تحول خطتنا من نقل السلطة إلى العراقيين بأسرع وقت ممكن إلى خطة تجعلنا بمثابة قوة احتلال). ففسر له بوش ذلك التغير الحاد بصورة شخصية وإدارية لا ترتقي لمستوى الأحداث، حيث قال بوش إنه في حال ذهاب زلماي وبريمر معاً إلى بغداد، فإن بريمر سيقدم تقاريره عبر وزارة الدفاع إلى دونالد رامسفیلد، وزلماي سيقدم تقاريره عبر مستشارة مجلس الأمن القومي آنذاك كوندوليزا رايس، بينما رامسفیلد ورايس لم يكونا منسجمين في العمل معاً. ومن ثم لم يكن بوش يحبذ وجود مسؤولين رفيعين في الميدان يتبعان رئيسين في واشنطن ليسا على وفاق. فرجح بوش كفة وزارة الدفاع، مما دفعه لجعل بريمر في الصدارة. ولاحقاً اتخذ بريمر قرارات ذات تداعيات خطيرة دون التشاور مع واشنطن، ومن أبرزها قرار حل الجيش العراقي.
وفي ذلك المثال نجد كيف أن قرارات استراتيجية في ملف حساس بُنيت على مراعاة حزازيات شخصية دون النظر للإطار الأوسع لتداعيات تلك القرارات، والتي برزت لاحقاً في أشكال متعددة مثل انهيار المنظومة الإقليمية في العالم العربي، وتمدد النفوذ الإيراني، واندلاع صراع طائفي سني شيعي مدمر في العراق وبعض دول الجوار، وتنامي ظاهرة الهجرة غير الشرعية، وبروز تنظيمات شديدة الشراسة مثل تنظيم الدولة الإسلامية.
يعزو علماء السياسة تلك النوعية من القرارات السياسات ذات التداعيات الكارثية لأسباب متنوعة تعود في جذورها إلى صعوبة أو استحالة التأكد من آثار تبني سياسات معينة أو معرفة كيف ستعمل هذه السياسة في الممارسة العملية. ويؤكدون أن الافتراض بأنه بمجرد ما ستتبنى دولة كبرى سياسات معينة فستنجح في تنفيذها هو أمر غير صحيح؛ حيث يمكن أن تنشأ العديد من المشاكل من قبيل عدم الاتفاق على الأهداف الأساسية وأفضل طرق التنفيذ، أو عدم كفاءة المؤسسات المسؤولة عن التنفيذ أو عدم توافر التمويل الكافي أو عدم وجود أهداف عملية أو واقعية أو تضارب المصالح داخل البيروقراطيات أو وجود مشاكل هيكلية أو آثار جانبية غير متوقعة.
طرائف السياسة المصرية الخارجية في عهد مبارك
يقدم وزير الخارجية المصري أحمد أبوالغيط (2004-2011) في مذكراته المنشورة بعنوان (شهادتي) نموذجاً إضافياً لكيفية رسم السياسة الخارجية لدولة بثقل مصر بناء على الأهواء الشخصية وبعيداً عن حساب موازين الربح والخسارة من منظور الدولة ومصالحها.
بريطانيا هي أكبر مستثمر أجنبي في مصر، ومن ثم يُفترض أن تكون العلاقات المصرية البريطانية ضمن أولويات السياسة الخارجية المصرية وبالتحديد رئيس الجمهورية الذي يمسك بيده القرار السياسي للبلاد. لكن يذكر أبوالغيط أن الرئيس الأسبق مبارك كان يرفض زيارة بريطانيا منذ عام 2004 لشعوره بأن قادة بريطانيا تعاملوا ببرود مع قرينته سوزان خلال زيارة فردية قامت بها إلى لندن. وهو السبب الذي سيعجز غالباً المحللون عن ملاحظته لدى تحليلهم أسباب توقف مبارك عن زيارة لندن خلال آخر سبع سنوات من حكمه.
وفي ملف العلاقات المصرية الإفريقية التي يُفترض أنها تمثل أولوية استراتيجية لمصر في ظل وجود منابع النيل بالقارة الإفريقية، يذكر أبوالغيط أن العلاقات التجارية والاقتصادية بين مصر وإفريقيا اتسمت بالضعف في ظل اتصاف علاقة مبارك مع قادة الدول الإفريقية بالفتور؛ حيث كان يقابلهم بدون إظهار علامات الاحتفاء بهم ولو من باب المجاملة.
وفيما يتعلق بالقوى الصاعدة عالمياً يذكر أبوالغيط أنه استشعر انزعاج بعض المحيطين بمبارك من طلب وزارة الخارجية ترتيب زيارات للرئيس إلى الهند والصين والبرازيل، وذلك بحجة أن سنه وصحته لن يتحملا تلك الزيارات. ويؤكد أبوالغيط أن مبارك كان يشعر عموماً بالملل من زيارة وتوثيق العلاقات مع قادة الدول الأخرى بمبرر أنه سبق له أن رؤية كل هؤلاء والاطلاع على كل ما لديهم!.
تلك الكواليس التي كشفها أحمد أبوالغيط تؤكد أن السياسة الخارجية لا تُرسم بناء على الحسابات العقلانية المجردة، وتكاليف الربح والخسارة من منظور الدول، إنما تلعب التحيزات الشخصية وأهواء الأشخاص دوراً كبيراً في ذلك، وهو ما لا بد أن يستحضره المحللون والمتابعون عند تحليلهم للمواقف والقرارات السياسية.