الجمعة 22 تشرين الثاني 2024

ما الذي دفع روسيا إلى قرارها بشأن دونباس؟

النهار الاخباريه – وكالات

في خطوة أثارت غضب الغرب وارتباكه الشديد، أعلن الرئيس فلاديمير بوتين اعتراف موسكو باستقلال جمهوريتي لوغانسك ودونيتسك الشعبيتين في إقليم دونباس، بعدما أخذ الصراع حولهما منعطفا خطيرا.
إعلان بوتين جاء خطاب مطول إلى الشعب الروسي والعالم أجمع، استعرض خلال العلاقات الراسخة عبر التاريخ والدم والثقافة بين روسيا وأوكرنيا، قائلا إن الأوكرانيين ليسوا "مجرد أصدقاء وإنما حتى أقارب"، والذين عرفوا منذ القدم بأنهم "روس" أيضا.
ولفت بوتين إلى الدور الذي لعبه الاتحاد السوفييتي والثورة البلشيفية في تشكيل أوكرانيا بشكلها الحالي ومنحها الامتداد الجغرافي المعروف، إلى جانب تكبد روسيا عناء الديون والمساعدات التي حصلت عليه كييف حتى مع انسحاب من الاتحاد.
ومع ذلك، عرج بوتين في حديثه على التطورات السلبية للعلاقات والتي وصلت ذروتها مع انقلاب عام 2014، الذي ترتب عليه صراعا دمويا داخل البلاد وتبني كييف موقفا عدائيا تجاه موسكو والأوكرانيين المؤيديين لها.

وحدد بوتين المخاطر التي باتت تشكلها أوكرانيا على الدولة الروسية، في ظل فتحها الساحة لتواجد الولايات المتحدة وحلف "الناتو" على أراضيها، وما يشكله ذلك من تهديد قرب قواعد الصواريخ الاستراتيجة والطائرات العسكرية الغربية من موسكو.
تمهيد الساحة: استفزازات غربية
يدّعي الغرب منذ أسابيع أن روسيا تتأهب لغزو الأراضي الأوكرانية بعد تعزيز وجودها العسكري على الحدود الأوكرانية منذ أشهر، ويقول إنها حشدت قرابة 200 ألف جندي لذلك، وهي بيانات لم تؤكدها موسكو، والتي تنفي قطعا ادعاءات واشنطن وكييف بالاستعداد لغزو جارتها الغربية.
وردت موسكو على الادعاءات الغربية بأنه يحق لها نقل وتحريك وحشد قواتها داخل حدودها كيف تشاء وترفض تماما التدخل في شأنها الخاص، لا سيما العسكري، وفي الوقت نفسه، لا تنفي روسيا مخاوفها من التحركات العسكرية العدوانية لحلف الناتو وشركائه في منطقة شرق أوروبا.
وفي الأيام القليلة الماضية، تدهور الوضع في دونباس، وأبلغت جمهوريتا دونيتسك ولوغانسك، عن تعرضهما لقصف مكثف من قبل القوات الأوكرانية.
وأعلنت الدولتان إجلاء مؤقتا للمدنيين إلى منطقة روستوف الروسية ووقعت مراسيم بشأن التعبئة العامة، وسط توقعات بشن كييف هجوما واسعا فى المستقبل القريب.
شكت موسكو مرارا وتكرارا على مدار السنوات الماضية من عدم فعالية اتفاقيات مينسك لأن كييف تواصل باستمرار خرق بنودها، وهي اتفاقات نصت على وقف إطلاق النار بين الجمهوريتين الشعبيتين وبين القوات الأوكرانية.
وفي الأيام القليلة الماضية، تصاعد التوترات إلى أعلى مستوياتها منذ حرب عام 2014، واضطرت روسيا إلى إعلان استقبال المواطنين من سكان الجمهوريتين على أراضيها في ظل استمرار العدوان الأوكراني الذي يهدد سلامتهم.
أطلقت مئات القذائف من قبل القوات الأوكرانية تجاه أراضي لوغانسك ودونيتسك خلال أيام قليلة، وخلفت دمارا كبيرا للبنية التحتية، وسقط عددا من القتلى والجرحى بينهم مدنيين، ونزح نحو مليون شخص إلى الحدود الروسية.
في هذه الأثناء، لم تكن الحدود الروسية بمأمن عن الانتهاكات، حيث سقطت قذيقة أوكرانية على إحدى نقاط التفتيش الروسية، وذلك بعد إطلاق رشقة من الصواريخ الأوكرانية على منازل بمدينة روستوف الحدودية.
ثم وصل الأمر ذروته عندما اقتحمت مجموعة أوكرانية مسلحة الحدود مستخدمة عربتين مصفحتين، قبل أن تتمكن القوات الروسية من تحييدهم جميعا والقضاء على المركبتين. تنكر كييف كل هذه الوقائع، بالطبع.
عدائية كييف وموت اتفاقيات مينسك
في غضون ذلك، حذر الرئيس الأوكراني فلاديمير زيلينسكي، من أن بلاده قد تتخلى عن التزاماتها وتعود إلى وضع "الدولة النووية" في تهديد مباشر لروسيا، وهو الأمر الذي حذر منه بوتين وقال إنه ممكنا بالنسبة لدولة كانت تمتلك البنية التحتية اللازمة بالفعل.
واعتبر وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو تصريح زيلينسكي بأنه "خطير للغاية"، قائلا: "أوكرانيا لديها قدرات لتصنيع أسلحة نووية أكثر بكثير من إيران وكوريا الشمالية، قد تظهر الأسلحة النووية التكتيكية على أراضي أوكرانيا".
في وقت سابق، قال الرئيس بوتين، إن أوكرانيا بالنسبة للولايات المتحدة مجرد أداة للوصول إلى هدفها باحتواء روسيا وجرها إلى "صراع مسلح".
وحذرت روسيا باستمرار من "مخاطر العسكرة" الغربية لمنطقة شرق أوروبا بما في ذلك نشر الصواريخ وتحشيد القوات وتقديم الدعم العسكري لبعض الأطراف، بما يهدد أمنها القومي، خاصة في ظل ضغط الحلف العسكري الغربي للتوسع نحو أراضيها.
ومع ذلك، رغم الانتهاكات الحدودية الأخيرة بحق روسيا والتهديد الخطير بإنتاج الأسلحة النووية، لم يحدث الغزو المزعوم من قبل الغرب. فقط وقع الرئيس بوتين مرسوما يقضي بإرسال "قوات حفظ سلام" لضمان وقف إطلاق النار بين الجمهوريتين وبين كييف.
أعلنت وزارة الخارجية الروسية، اليوم الثلاثاء، أن روسيا لا تخطط حاليا لإرسال قواتها المسلحة إلى جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك.
وقال نائب وزير الخارجية، أندريه رودنكو، الذي قال إنه "لنكن متفائلين، ذلك لن يحدث، لكن في حال حصول تهديد معين ستقدم موسكو المساعدة وفقا للاتفاقية التي تم التصديق عليها، وهي إرسال القوات العسكرية الروسية إلى هناك".
واعتبر بوتين أن اتفاقيات مينسك "لم تعد موجودة"، قائلا: "لقد اعترفنا بجمهوريتي لوغانسك ودونيتسك. لم يكن من السهل التوصل إلى حل وسط بشأن اتفاقيات مينسك".
وأشار الرئيس الروسي إلى أن جهود سلطات كييف الحالية، أنهت اتفاقيات مينسك، والتي ماتت قبل فترة طويلة من اعتراف روسيا بجمهوريتي لوغانسك ودونيتسك الشعبيتين.
ونوه بأن روسيا عملت في إطار اتفاقيات مينسك منذ ما يقرب من ثماني سنوات، وكانت مهتمة بتنفيذها. وقال إن اعتراف روسيا بجمهوريتي لوغانسك ودونيتسك يعني الاعتراف بـ"جميع الوثائق بما في ذلك الدستور الذي يشير إلى حدود الجمهوريتين".
هلع الغرب واستقلال القرار الروسي
حتى مع التصريحات الغربية التي استمرت حتى بعد إعلان الرئيس بوتين الاعتراف باستقلال الجمهوريتين، وتدعي بأن الدبلوماسية ما زالت ممكنة لدرء الصراع استمر العدوان الأوكراني على دونباس.
أعلنت وزارة الطوارئ في جمهورية لوغانسك، أن القصف الأوكراني لأراضي البلاد، يوم الاثنين، تسبب بإصابة خط أنابيب الغاز الذي يمر بأراضيها بأضرار. سمعت في مركز دونيتسك دوي انفجارات عنيفة صباح الثلاثاء.
الأكثر من ذلك كان التلويح بالخيار العسكري، حيث قال الأمين العام لحلف شمال الأطلسي "الناتو"، ينس ستولتنبرغ، إن الحلف وضع أكثر من 100 طائرة مقاتلة على أهبة الاستعداد، على خلفية اعتراف روسيا باستقلال جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك.
ادعى ستولتنبرغ أن "الغزو الروسي لأوكرانيا لا زال قائما". فيما زعم رئيس الوزراء البريطاني، بوريس جونسون، أن "غزو روسيا لأوكرانيا خلال الساعات أو الأيام المقبلة"- محتملا، وقال إن حكومته تدرس إرسال المزيد من المساعدات الدفاعية لأوكرانيا وستعلن عقوبات على روسيا.
وبحلول فجر الثلاثاء، عقد مجلس الأمن الدولي اجتماعا طارئا لمناقشة اعتراف روسيا باستقلال الجمهوريتين، بعد طلب تقدمت به الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا وأيرلندا وألبانيا.
فيما قال قال الرئيس الأوكراني، فلاديمير زيلينسكي، في وقت مبكر من صباح الثلاثاء، إن اعتراف روسيا بجمهوريتي دونيتسك ولوغانسك الشعبيتين شرق أوكرانيا يعني انسحاب روسيا من اتفاقيات مينسك.
وأضاف: "حدود أوكرانيا المعترف بها دوليا ستبقى كما هي، على الرغم من تصرفات روسيا. كييف ملتزمة بالتسوية السياسية والدبلوماسية للأزمة في دونباس".
الولايات المتحدة استجابت للإعلان الروسي، بتوقيع بايدن لأمر تنفيذي حظر التجارة والاستثمار بين الأمريكيين وجمهوريتي لوغانسك ودونيتسك. واتفقت ألمانيا وفرنسا وأمريكا على الرد على قرار روسيا بالاعتراف باستقلال بجمهوريتي دونيتسك ولوغانسك.
ردود الفعل الغربية كانت متشابهة ومتكررة ودارت كلها حول فكرة العقوبات، التي سبق وحذر بوتين من أنها تظل السلاح الغربي الموجه باستمرار نحو موسكو سواء كانت هناك أزمة حول أوكرانيا أم لا. أكدت روسيا في أكثر من مناسبة استعدادها لهذه الخطوة.
الاتحاد الأوروبي، اعتبر قرار روسيا "انتهاكا صارخا" للقانون الدولي، وأقر حزمة عقوبات ضد البلاد، تستهدف 351 نائبا برلمانيا و27 فردا وكيانات قانونية أخرى.
فيما توقع رئيس الوزراء البريطاني، بوريس جونسون، أنه تكون هناك تداعيات عالمية إذا فشل الغرب في "الالتزام بالدفاع عن سيادة أوكرانيا"، وستصل هذه التداعيات إلى تايوان، على حد قوله.
أعلن وزير الخارجية الفرنسي "إلغاء" اجتماعه المقرر مع نظيره الروسي سيرغي لافروف في الخامس والعشرين من الشهر الجاري، وقائل إن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون "فعل كل شيء لمنع الحرب في أوكرانيا".
المعسكر الشرقي
على الجانب الآخر، دعا سفير الصين لدى الأمم المتحدة، جميع الأطراف المعنية بأزمة أوكرانيا إلى ممارسة ضبط النفس وتجنب أي أفعال قد تزيد التوترات. أصدرت الخارجية الإيرانية تصريحات مماثلة.
فيما أعلن وزير الخارجية السوري، فيصل المقداد، تأييد بلاده قرار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الاعتراف بجمهوريتي لوهانسك ودونيتسك.
وأكد الرئيس السوري، بشار الأسد، استعداد دمشق للاعتراف بجمهوريتي لوغانسك ودونيتسك، فيما اعتبر الرئيس الشيشاني، رمضان قاديروف، قرار الاعتراف بمثابة السبيل الوحيد للحل.
تبنت تركيا موقف مماثل للغرب، ووصف الرئيس رجب طيب أردوغان، قرار روسيا الاعتراف باستقلال جمهوريتي لوغانسك ودونيتسك بـ"غير المقبول"، ويمثل "انتهاكا صارخا" لسيادة أوكرانيا.
وأشار إلى أن بلاده عليها اتخاذ حزمة من التدابير بحكم أنها تقع على البحر الأسود، دون توضيح تلك التدابير، ومؤكدا "لا نستطيع التخلي عن مسؤولياتنا".
في غضون ذلك، دعا حزب الوطن التركي اليساري، أنقرة إلى أن تحذو حذو روسيا في الاعتراف باستقلال جمهوريتي لوغانسك ودونيتسك، لأن ذلك "يتوافق مع مصالح تركيا وأمنها".
وعلق الناطق باسم الكرملين دميتري بيسكوف، على تصريحات أردوغان، بالقول إن الخلافات بين روسيا وتركيا بشأن أوكرانيا لا تمنع البلدين من بناء علاقات ثنائية.
ردود فعل اقتصادية
على جانب أسواق المال، شهدت البورصات حول العالم بما في ذلك أوروبا وآسيا والولايات المتحدة تراجعا ملحوظا استجابة للمخاطر الجيوسياسية حول أوكرانيا، فيما ارتفعت أسعار الغاز والنفط وسط مخاوف من تعطل الأمدادات.
حذر توقع نائب رئيس مجلس الأمن الروسي دميتري ميدفيديف، من أن سعر الغاز في أوروبا قد يبلغ ألفي يورو، بعد قرار ألمانيا وقف مشروع "التيار الشمالي 2".
من جانبه، قال وزير الطاقة القطري سعد بن رشيد الكعبي، إن تعويض إمدادات الغاز الروسية لأوروبا بسرعة "شبه مستحيل" في حالة تعطل الإمدادات بسبب الصراع بين روسيا وأوكرانيا.