أعلنت فرنسا استئنافها العمليات العسكرية المشتركة مع مالي، بعد تعليقها مطلع الشهر الماضي، في أعقاب ثاني انقلاب للجيش على السلطة في غضون شهور قليلة، حيث أعلنت وزارة الجيوش الفرنسية أن بلادها قررت عقب مشاورات مع السلطات الانتقالية في باماكو ودول المنطقة "استئناف العمليات العسكرية المشتركة والمهام الاستشارية الوطنية التي تم تعليقها منذ الثالث من يونيو (حزيران) الماضي".
مستنقع عسكري
مع قساوة الهجمات التي تشنها الجماعات المسلحة بالساحل الأفريقي، والتي راح ضحيتها عديد من الجنود الفرنسيين، كان آخرها الهجوم الذي قتل على أثره 50 جندياً فرنسياً من قوة "برخان"، بداية العام الحالي، وأمام صعوبة مهمة القضاء على الخطر الإرهابي بالمنطقة، تعالت أصوات في الداخل الفرنسي متسائلة عن جدوى الوجود العسكري في الساحل، في ظل قوة "شوكة" الجماعات المسلحة، حيث شهد عام 2020 وحده مقتل 6250 شخصاً، في حين شدد جانب من الغالبية الحكومية على ضرورة تغيير الاستراتيجية العسكرية الفرنسية في منطقة الساحل، لكن هيئة أركان الجيش الفرنسي اعتبرت أنه لولا "عملية برخان" لكان الوضع أسوأ مما هو عليه الآن.
وكان الرئيس الفرنسي، ايمانويل ماكرون، قد قرر في وقت سابق إنهاء "عملية برخان"، والاكتفاء بالمشاركة في تحالف دولي، في حين تتجه فرنسا من مكافحة الإرهاب في الميدان إلى الدعم الاستخباراتي والمشاركة العسكرية غير المباشرة عبر استخدام الطائرات من دون طيار والمقاتلات لتفادي الخسائر، إضافة إلى دفع دول المنطقة إلى تحمل مسؤولية الحفاظ على أمنها بنفسها.
وأكدت وزيرة الجيوش الفرنسية، فلورنس بارلي، أن ذلك التغيير لا يعني مغادرة فرنسا منطقة الساحل، أو أنها "ستعمل على إبطاء عملياتنا لمكافحة الإرهاب في المنطقة"، مشيرة إلى أنه "لدينا نحن الأوروبيين، مسؤولية تأمين الخاصرة الجنوبية لأوروبا، ومن الضروري عدم السماح لمنطقة الساحل، وأفريقيا بشكل أوسع، بأن تصبح منطقة لجوء وتوسُع لهذه الجماعات الإرهابية المرتبطة بتنظيمي (داعش) و(القاعدة)".
من جانبه، يشير العقيد الموريتاني المتقاعد، البخاري محمد مؤمل، إلى أنه من أهم الثوابت الاستراتيجية العسكرية الفرنسية الموجهة إلى أفريقيا ومنطقة الساحل، أنها غير ثابتة على حال، لأنها تتغذى على ماضٍ ولَّى وتراث استراتيجي في تقهقر مستمر، معتبراً أنه من آخر مؤشرات ذلك، ما أعلنت عنه وزيرة الجيوش الفرنسية أن بلادها تأخذ في الحسبان وبعين الرضا، التزامات السلطات المالية الانتقالية التي أقرتها المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا، وأنها قررت استئناف العمليات العسكرية المشتركة ومهمات التعاون الأخرى بما فيها البعثات الاستشارية التي تم تعليقها منذ الثالث من يونيو.
المحكمة الدستورية في مالي تعلن غويتا قائد الانقلاب رئيسا مؤقتا للبلاد
ويعتبر البخاري أن قرار تعليق التعاون العسكري مع مالي كان منذ البداية مفاجئاً وغير مبرر بالنظر إلى الوضع في البلد والمنطقة، وكذلك فإن قرار استئنافه من جديد محير هو الآخر، موضحاً أنه "لم يتغير شيء في مسار العسكريين الذين يقودون البلد خلافاً لما يحاول بيان وزارة الدفاع الفرنسية إيهام الرأي العام به: الوعود التي أخذوها منذ أول لحظة على أنفسهم بشأن المرحلة الانتقالية ما زالت كما هي، فلا جديد في الوضع سوى أن تعثر فرنسا وتخبطها في الساحل يتأكدان أكثر فأكثر، ولا يقتصران على علاقتها مع مالي، بل يمسان كل مناحي رؤيتها الجيوسياسية في أفريقيا، فهي حائرة بين البقاء والخروج، بين التظاهر بالقوة والقنوع لحقيقتها".
ضرورة الاستمرار
في سياق متصل، يشير باحثون إلى أن فرنسا لم تنسحب من مالي، لكن علقت وجودها العسكري بشكل مؤقت، مؤكدين على كونها مجبرة على مواصلة الوجود هناك لأسباب معينة. ويؤكد الباحث المغربي المختص في القضايا الأفريقية، عبدالواحد أولاد ملود، أن فرنسا لم تتخذ أي قرار رسمي بشأن الانسحاب من مالي، وإنما لوحت فقط بالانسحاب عبر مناسبات عدة، مضيفاً أن "واقع الحال في منطقة الساحل يحتم على فرنسا إبقاء قواتها العسكرية هناك نظراً لاعتبارات عدة، أولها دولي ويتمثل في حدة التنافس بين فرنسا والدب الروسي على التوغل في أفريقيا، وقد شهدنا سجالاً بين الطرفين في الآونة الأخيرة بخصوص الوجود في أفريقيا الوسطى والامتداد نحو مالي، وهنا في اعتقادي أن إعلان فرنسا عن استهداف مجموعة من الأفراد من تنظيم "داعش" الغرض منه إعادة الاعتبار للوجود الفرنسي بالمنطقة وغلق الأبواب عن القوى الدولية الأخرى، وأيضاً تجاوز اللغط التي عرفه ملف التدخل الفرنسي وفشل القوات الفرنسية في تحقيق الأمن والسلم بالإقليم".
ويرى أولاد ملود أن ثاني هذه الاعتبارات يتمثل في "تكبد القوات الفرنسية خسائر عسكرية من التنظيمات الجهادية كان آخرها استهداف قوة برخان بالنيجر، فجاء الرد لحفظ ماء وجه فرنسا بمقتل أخطر شخص بـ"داعش" المسمى قاطع الرؤوس، عبدالحكيم الصحراوي وستة إرهابيين على غرار "الكاري" وآخرين. ويتمثل الاعتبار الثالث في تأكيد السلطات الفرنسية وجودها بمنطقة الساحل والصحراء على الرغم عن منتقدي سياستها بالمنطقة، بخاصة النخب المحلية لدول الساحل، وأيضاً داخل فرنسا، ونحن نعلم أن باريس على مقربة من إجراء الانتخابات الرئاسية في وقت سجل فيه تراجع مناصري ماكرون بالانتخابات البلدية الأخيرة. كل هذه الأمور جعلت فرنسا تعود من جديد للساحة الساحلية الصحراوية لتثبيت حضورها والهيمنة على القطب الأفريقي".
ازدواجية المعايير
في المقابل، يستغرب العقيد الموريتاني المتقاعد، من التوجه الفرنسي، معتبراً أن فرنسا باركت الانقلاب على الدستور الذي حصل في تشاد إثر وفاة الرئيس إدريس ديبي، عندما تولى إبنه قيادة البلاد بدلاً من رئيس الجمعية الوطنية، الذي ينص الدستور على خلافته للرئيس في حالة وقوع عائق يحول الأخير دون مزاولة مهامه، موضحاً أن التفاوت الصارخ في الموقف الفرنسي من الوضعين في تشاد وفي مالي يظهر أنها تنتهج تكتيكات الكيل بمكيالين في سياستها الخارجية، ما ينم عن عدم ثبوت في الرؤية الجيواستراتيجية، مشيراً إلى أن رفضها للحوار بين السلطات في مالي و"الجهاديين" يشكل أحد ملامح هذا الضعف والكيل بمكيالين، فهي تدعم ما جرى بين الحكومة الأميركية وحركة طالبان في أفغانستان، بل عملت بمقتضى الاتفاق بين الطرفين، لأنها سحبت قواتها التي كانت ترابض وتقاتل إلى جانب واشنطن هناك.
الحضور القاري
من جهة ثانية، أكد الممثل الأعلى للاتحاد الأفريقي بمالي، مامان سامبو سيديكو، إثر اجتماعه بوزير الخارجية المغربي بالرباط أن مالي تعيش وضعية معقدة لا يمكن معالجتها بوصفة جاهزة، معتبراً أن "تعقد هذا الملف يعني أنه يجب علينا دعم الشعب المالي، وأن الاتحاد الأفريقي يعمل في هذا الإطار مع شركاء كالأمم المتحدة وفرنسا والاتحاد الأوروبي"، مشدداً على أن الملف المالي "يبقى أفريقياً قبل كل شيء".
ويشير الباحث المغربي أولاد ملود إلى أن طبيعة تعقيد الملف المالي منذ اندلاع الأزمة في نهاية 2012 وتصاعد التهديدات الأمنية، بين تحدي الانفصال والإرهاب وأزمة انتقال السلطة، جعل من مالي الدولة الأضعف بالمنطقة، حيث امتدت أزمتها حتى دول الجوار، ما جعل المجتمع الدولي يتخذ قرارات عدة للتدخل بذلك البلد.
وفي ما يخص التدخل الأفريقي بمالي، يؤكد ملود أنه "باستثناء تدخل منظمة (الإيكواس) لتقديم الدعم العسكري بداية اندلاع الأزمة، يبقى وللأسف الشديد دور المنظمات الأفريقية محتشماً، وهذا راجع لأسباب عدة أبرزها ضعف الإمكانات العسكرية والمالية وقدرات الموارد البشرية، إضافة إلى المزايدات التي عرفها مجلس الأمن والسلم التابع للاتحاد الأفريقي في تدبير الأزمات على الرغم من أنه من الآليات التي يعتمد عليها في تحقيق الأمن والسلم بالقارة، لكن يمكن استدراك تفعيل هذه الآلية، بخاصة أن رئاسة هذا المجلس شهد انتقالاً نوعياً خلال هذه السنة، ونتمنى أن يتجرد من كل المزايدات التي أحاطت به في الأعوام الماضية".
الدور المغربي
وأكد وزير الخارجية المغربي ناصر بوريطة، أن بلاده تظل متشبثة باستقرار وتنمية منطقة الساحل، "المنطقة التي تتقاسم معها المملكة تاريخاً مشتركاً وروابط إنسانيه قوية"، معتبراً أن التعامل مع هذه المنطقة يجب أن يتم بمسؤولية وهدوء، مع التركيز بشكل شامل على معالجة جميع مشاكلها.
أضاف الوزير المغربي خلال استقباله الممثل الأعلى للاتحاد الأفريقي بمالي في العاصمة الرباط، أن منطقة الساحل ليست ملفاً موضوعاً على طاولات المباحثات لدى المنظمات والهياكل الإقليمية والدولية، بقدر ما هو حقيقة امتزج فيها الإنساني بالتاريخي بالجغرافي، مشيراً إلى الأبعاد الإنسانية والتاريخية والجيوسياسية التي تربط المغرب بهذه المنطقة، والتي تفرض أن يبقى حاضراً فيها.
في سياق متصل، يرى أولاد ملود أن المغرب، وعلى الرغم من الصعوبات التي تواجهه في أفريقيا، يعد طرفاً مهماً في حل معادلات الأمن والتنمية بالساحل والصحراء، وهو ما لمسناه في مناسبات عدة كالأزمة الليبية وعرض وساطته للأطراف المالية ومساهمته العسكرية واللوجستية، إضافة إلى التعاون الاقتصادي المغربي الأفريقي، فالعاهل المغربي يشدد في خطاباته التي تتطرق للوضع في أفريقيا، على أن أمن المغرب هو من أمن أفريقيا.
نوفل شرقاوي