دخلت إدارة الرئيس الأمريكي "جو بايدن" المكتب البيضاوي وهي عازمة على اتباع نهج يضع الصراع الفلسطيني الإسرائيلي في مكان أقل أولوية مقارنة بالعديد من الإدارات السابقة.
وفي مؤتمر صحفي حول جائحة "كوفيد-19" الأربعاء، بعد 4 أيام من اندلاع الحرب الحالية في فلسطين، تم اختبار هذا النهج.
ورد "بايدن" على سؤال حول النزاع وأجاب بصراحة أنه تحدث إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي "بنيامين نتنياهو"، وأكد على أن إسرائيل لها الحق في الدفاع عن نفسها، وأنه يأمل أن ينتهي القتال "عاجلا وليس آجلا".
وبشكل منفصل، أعلن وزير الخارجية الأمريكي "أنتوني بلينكين" أنه كان أيضا على اتصال مع نظيره الإسرائيلي والرئيس الفلسطيني "محمود عباس"، مشيرا إلى أنه بصدد إرسال "هادي عمرو"، وهو مسؤول متوسط المستوى من ذوي الخبرة، إلى إسرائيل للتواصل مع الأطراف المختلفة.
وفي هذه الأثناء، تحترق الأرض في غزة، فيما تقع المدن الإسرائيلية تحت وطأة الهجمات الصاروخية الليلية، فضلا عن المواجهات العنيفة بين "اليهود والعرب" بشكل لم تشهده إسرائيل من قبل. وتدعو قاعدة "بايدن" الديمقراطية التقدمية واشنطن إلى تكثيف جهودها، ليس فقط لوقف القتال ولكن أيضا لإنهاء الصراع بشكل عام.
لقد رأينا الحروب السابقة بين إسرائيل و"حماس" من قبل، وكان آخرها في عام 2014، ونعرف كيف تسير الأمور. تقوم "حماس"، بمساعدة حركة الجهاد الإسلامي الفلسطينية، بإطلاق صواريخها بشكل عشوائي. وتنتقم إسرائيل بشكل غير متناسب. وتدعم الولايات المتحدة حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها. وتلوح أوروبا بإصبع الاتهام في وجه إسرائيل.
وتقرر "حماس" في النهاية أنها أوضحت وجهة نظرها. وتتوسط قطر ومصر لوقف إطلاق النار على أساس اتفاق "الهدوء مقابل الهدوء" المعتاد. ويقوم الطرفان بدفن موتاهم وإزالة الأنقاض والعودة إلى العمل كالمعتاد بينما يستعد كل من الجيش الإسرائيلي وكتائب "عز الدين القسام" التابعة لـ"حماس" للجولة التالية.
ويشير نهج إدارة "بايدن" حتى الآن إلى أن واشنطن ستكون مرتاحة لقبول هذه النهاية غير السعيدة، حيث أن لديها أولويات أخرى أكثر أهمية. ويكفي الحديث عن الوباء والانتعاش الاقتصادي وتغير المناخ وصعود الصين وطموحات إيران النووية، لتوضيح هذه النقطة.
ويعد احترام الرئيس الأمريكي للجدول الزمني لـ "نتنياهو" دليلا على هذا التغير في النهج، حيث تُترك الأطراف للتعامل مع الصراع وتتحول الولايات المتحدة من دورها كمبادر لإنهائه إلى محاولة تهدئة مظاهره الأكثر عنفا.
فهل يجب أن يحاول "بايدن" فعل المزيد؟ حسنا، بعد كل شيء، تخلق كل أزمة فرصة. فهل يمكن للظروف هذه المرة أن تتيح فرصة للحل، بحيث إذا زادت واشنطن من انخراطها في الصراع الدائر يمكن أن تحقق تقدما نحو هدفها المعلن المتمثل في حل الدولتين؟ الجواب، للأسف، هو لا.
حقائق وليس أولويات
أقدمت "حماس" على خطوة كان من المستبعد حصولها في السابق وأطلقت صواريخ باتجاه القدس على إثر التوترات في المسجد الأقصى. وأثار ذلك بدوره غضب "نتنياهو"، الذي كان متأقلما مع نفوذ "حماس" في غزة ولكن ليس في الضفة الغربية، وبالتأكيد ليس في القدس الشرقية.
ومع ذلك، فإن أهداف كلا الجانبين في هذه الجولة محدودة للغاية. وتأمل حماس في "تعزيز مكانتها بين الفلسطينيين" عبر وقف الإجراءات الإسرائيلية ضد الأقصى وحي الشيخ جراح، في حين تأمل إسرائيل في إعادة بناء جدار الردع ضد هجمات "حماس". ولا يهتم أي من الطرفين بوساطة الولايات المتحدة في حل الدولتين.
ولا تزال "حماس" ملتزمة بحل الدولة الواحدة الذي لا وجود لإسرائيل فيه. ويلتزم "نتنياهو" بحل "الدول الثلاث"؛ حيث تحكم "حماس" غزة وتحكم السلطة الفلسطينية جيوب الضفة الغربية. أما الطرف الثالث في هذا الصراع، وهو "أبو مازن"، فيود أن يرى الولايات المتحدة تتدخل من جديد، لأن ذلك من شأنه أن يجعل له دور مرة أخرى. فقد انتظر مكالمة هاتفية من "بايدن" لمدة 4 أشهر، دون جدوى.
ولدى المفاوضين الأمريكيين خبرة كافية مع "عباس" ليعرفوا أنه ليس في وضع يسمح له بقبول التنازلات الضرورية لتحقيق حل الدولتين. وفي سن الـ 85، وفي العام الـ 17 من ولايته الرئاسية التي كان من المفترض أن تدوم فقط 4 أعوام، وفي حين يترأس اسميا نظاما حكوميا شديد الانقسام، وحيث سيتم إدانته كخائن من قبل "حماس" مع أي تنازل يقدمه لإسرائيل، يعتزم "عباس" دخول التاريخ كقائد رفض المساومة على الحقوق الفلسطينية.
وقبل اندلاع هذا الصراع الأخير، كان هناك أمل في تشكيل حكومة جديدة في إسرائيل تضع حدا لحكم "نتنياهو". وكان "يائير لابيد" رئيس حزب "هناك مستقبل" و"نفتالي بينيت" رئيس حزب "يمينا" على وشك تشكيل تحالف يعتمد على دعم الأحزاب العربية لكسب ثقة أصوات الأغلبية. ولكن اندلعت موجة من الصدامات بين اليهود والعرب، وامتدت من القدس إلى مدن أخرى داخل الأراضي المحتلة.
وسوف يؤدي هذا القتال إلى تعقيد مهمة تشكيل الحكومة. ويبدو الآن أن إسرائيل ستخوض انتخاباتها الخامسة خلال عامين، وبعدها ستتراجع غرص أي حلول وسط بسبب الأزمة الحالية. وحتى لو ثبت أن هذا التوقع خاطئ وظهرت حكومة وحدة وطنية، فإن أول رئيس وزراء لها سيكون "نفتالي بينيت". وهو من بين قادة إسرائيل الأشد معارضة لدولة فلسطينية مستقلة وأكثر مناصري ضم الضفة الغربية.
بعبارة أخرى، فإن الدوافع الأساسية لموقف إدارة "بايدن" السلبي ربما تكون صحيحة، فإن أقصى ما يمكن فعله هو إدارة الصراع، لأنه لا توجد الظروف المناسبة لحله. لذلك فإن موقف إدارة "بايدن" لا يتعلق فقط بالأولويات؛ بل بالحقائق.
وكان وزير الخارجية الأمريكي السابق "جون كيري" قد اختبر الاقتراح القائل بأن قوة الإرادة الأمريكية وحدها يمكن أن تغير تلك الحقائق وتصل إلى نتيجة سريعة. وحاول "جاريد كوشنر"، بصفته المستشار الأكبر للرئيس الأمريكي السابق "دونالد ترامب"، معاقبة الفلسطينيين ومنح إسرائيل شيكا على بياض، ولم ينجح ذلك أيضا.
الطريق إلى الأمام
ومع ذلك، لا تعني إدارة الصراع الابتعاد عنه بالطريقة التي أشارت إدارة "بايدن" عن غير قصد منذ البداية إلى أنها تريد أن تتبعها. ولم تعين واشنطن بعد سفيرا في إسرائيل أو قنصلا عاما في القدس للتعامل مع الفلسطينيين. ولو فعلت ذلك، ربما كانت في وضع أفضل لتفادي اندلاع العنف. وبدلا من ذلك، تُركت الإدارة لمسؤول متوسط المستوى مع عدد ضعيف من الموظفين من وزارة الخارجية.
وأحسنت إدارة "بايدن" في تدخلها على أعلى مستوى لإجبار "نتنياهو" على وقف عمليات الإخلاء القسري وعنف الشرطة الإسرائيلية في القدس الشرقية. وبالرغم أن هذه الضغوط أثبتت أنها كانت بعد فوات الأوان، إلا أنها أظهرت فعالية المشاركة رفيعة المستوى في الوقت المناسب.
والآن من المرجح أن تكون هناك حاجة إلى مزيد من التدخل رفيع المستوى لحمل كلا الجانبين على تخفيض التوترات. ويبدو أن "حماس" مستعدة بالفعل للقيام بذلك. وفي الأيام المقبلة، بمجرد أن ينتهي الجيش الإسرائيلي من تدمير البنية التحتية لحركة حماس والقضاء على أكبر عدد ممكن من قادة جناحها المسلح، فمن المحتمل أن يكون "نتنياهو" مستعدا أيضا. وعادة ما يكون "نتنياهو" حذرا، حيث لا يرغب في الدخول في انتخابات خامسة مع حرب محتدمة. وحاليا، يواجه "نتنياهو" بالفعل انتقادات على تعطيل الحياة الإسرائيلية.
ولكن بمجرد أن تهدأ النيران الحالية، ستحتاج إدارة "بايدن" إلى إدارة الصراع بطريقة تساعد على خلق أفق سياسي للفلسطينيين، بشكل يمنحهم الأمل في أنهم سوف يتمتعون في النهاية بـ "شكل من الحرية والأمن والازدهار والديمقراطية" التي وعدهم بها وزير الخارجية "بلينكين" مؤخرا.
وسيكون تجميد بناء المستوطنات، وكذلك الجهود المبذولة لإضفاء الشرعية على البؤر الاستيطانية، بداية جيدة. وسيكون الضغط على إسرائيل لتجنب عمليات الإخلاء القسري وهدم المنازل في القدس الشرقية أمرا مهما أيضا.
وعلى الجانب الفلسطيني، يجب تشجيع "عباس" على إعادة جدولة الانتخابات. وكان الفلسطينيون متحمسين لفرصة التصويت لاختيار قيادتهم للمرة الأولى منذ 15 عاما. وقد ساهمت خيبة الأمل التي شعروا بها عند إلغاء الانتخابات في تفجر العنف.
وخلال الاستعدادات السابقة لتلك الانتخابات، تبنت إدارة "بايدن" موقفا محايدا. ولكن هذه المرة، يجب أن تحث واشنطن لجنة الانتخابات على "جعل حق الترشح مقصورا على المرشحين الذين ينبذون العنف"، كما هو منصوص عليه في اتفاقيات أوسلو. كما يتوجب على الولايات المتحدة إلزام إسرائيل بالسماح للفلسطينيين في القدس الشرقية بالتصويت، بموجب الاتفاقات.
وكما تظهر المواجهة الأخيرة، فإن إدارة الصراع الإسرائيلي الفلسطيني أشبه بركوب دراجة؛ بحيث إذا لم تتقدم للأمام، فسوف تسقط. وعند الخروج من هذه الأزمة، ستحتاج إدارة "بايدن" إلى تعزيز عملية تساعد في إعادة بناء الثقة والأمل في حل الدولتين. وبالنظر إلى التضاريس الوعرة، فإن التقدم على هذا الطريق سيكون بالضرورة بطيئا ومتدرجا. ولكن في ظل الظروف الحالية، فإن العملية التدريجية تبشر بالخير أكثر من الوقوف موقف المتفرج.